مقامة دروب المعنى

مقامة دروب المعنى

يفضل مارتن هايدغر استعمال مصطلح (( الدروب )) بدلاً من (( الطرق )) , ففي الدروب , يسير الإنسان بلا خارطة مسبقة , تتكشف له الخارطة تدريجيًا وهو يسير, وكأنه يتيه في غابة بحثًا عن معنى وجوده وحياته , بخلاف الطرق التي تكون فيها الخارطة واضحة قبل السير, في تلك الدروب , لا نكتفي بكتابة عصارة الأيام , بل ننسج وشاحًا من الضوء , ونلقي به على وجه العالم , كأننا نستعير من الآلهة لسانها ومن الطفولة نبلها , ما نكتبه هو فكر يتكئ على الحواس ويغترف من الرؤيا , لا من البلاغة , ومن هنا تأتي فرادة التجربة.

أمتدت رحلة البحث عن المعنى منذ أيام شبابي في السبعينات , فقد دأبت كلما ولدت في ذهني فكرة , أو ألهمتني مطالعاتي , أو ما أسمعه من محاضرات أساتذتي في الكلية , أو حاولت تقديم تفسير لظاهرة معينة , أن أدوّن رأيي في دفتر خاص , وها أنا في محطة مغادرة العمر وقد تجمعت لديّ الدفاتر والمعاني , فوجدت أن حياتي كانت رحلة للبحث عن المعنى , والسعي للكشف عن منابع إنتاجه في الفلسفة والدين والحب , وبما أنه العنوان الأساسي للحياة , فهو يستوعب أكثر مضامين النصوص الواردة فيه , وفي زمنٍ تتكسر فيه الأحلام على قارعة الحروب والمخاوف , نظل نصنع من كلمات الحزن سلمًا للصعود , ومن ظلها طريقًا للحضور.

مواجهة أزمة القراءة في زمن الشاشات : كثيراً ما يخطر لي سؤالٌ يلحّ على العقل والقلب : هل ما زلنا نملك ذلك الصبر الجميل الذي كان يُغرقنا في صفحات الكتب دون أن نشعر بثقل الوقت ؟ أم أن عقولنا باتت أسيرةً لمقاطع قصيرة , لا تُشبع فهمًا ولا تترك أثرًا؟ لقد غدت القراءة العميقة عملةً نادرة , وهي وحدها التي تُهذّب الفكر وتُصقل الشخصية وتُربّي فينا القدرة على التماسك وسط فوضى المعاني و أما التصفّح السريع , فهو كوجبةٍ عابرة , تُشبع لحظةً وتُجوع دهرًا , يُشتّت الذهن ويُضعف القدرة على التأمل , ويتركنا نهيم في سطح الحياة دون جذور , وما لم نسترد قدرتنا على الجلوس الطويل مع الكتب , ونُعيد للقراءة مكانتها كفعلٍ وجودي لا مجرد عادة و فسوف يبقى فكرنا هشًّاً تسوقه الشاشات حيث تشاء , ويفقد الإنسان بوصلته في بحرٍ من المعلومات بلا معنى ولا اتجاه.

صراع القوة والضعف : لم تعد الحياة في هذا الزمن الملتاث ساحةً تُوزَن فيها القضايا بميزان الحق والباطل , ولا حديقةً تسكنها الأخلاق والمبادئ والمثل العليا , لقد غدت ميدانًا فسيحًا يتقابل فيه الأقوياء والضعفاء كما تتقابل النار مع الهشيم , من يملك المخلب والنياب يفرض وجوده , ومن لا يملك سوى جناحين ضعيفين يُلقى به في مهب الرياح , فالقوة اليوم ليست مجرد عضلاتٍ أو سلاح , بل دهاءٌ يمشي على قدمين , وقدرة على قراءة الخفايا , ومهارة في التكيف مع رياح الواقع , ولو كانت عاصفةً عاتية , أما الضعفاء , أولئك الطيبون الذين يظنون أن العالم ما زال يكرّم البراءة ويقدس الطيبة , فهم وقود الحكاية وأبطال المأساة , وحصى الطريق الذي يطأه المنتصرون بلا التفات , وعندما بحثت عن المعنى وجدت أني كتبت : (( أنا هنا , ولكنك لا تعلم أن ظلي سبقني إليك )) .

لقد تطوّر الإنسان لا لينقذ أخاه الإنسان , بل ليفترسه بأسلوب أرقى : من الأنياب والمخالب إلى الألسنة والأقلام , ومن سلب اللقمة إلى سلب الكرامة والحقوق , والشرّ, حين يلبس ثوب النجاح , يصبح قدوةً تُصفّق لها الجموع , ويُقلَّد حتى من أولئك الذين كانوا بالأمس يلعنونه , أما مصير الضعفاء والبسطاء , فهو الانحدار شيئًا فشيئًا نحو هاوية النسيان , أو السقوط في براثن من يستغلهم حتى آخر قطرة من نقائهم , هناك , في قاع الحكاية تختفي أصواتهم , وتبقى قصصهم مجرد صدى يتردّد في أروقة التاريخ , بينما يرتفع صوت المنتصرين , ولو كانوا ظلمةً , كأنه النشيد الوحيد الذي يُسمع , هكذا يربح الضبع وتُهزم الغزالة , لا لأن الضبع أحق بالحياة , بل لأن هذا العالم لم يعد يصغي لرفيف الأجنحة الضعيفة , وصوت حوافر الغزلان الجميلة , بل لزئير القوة , مهما كان ثمنه وبغض النظر عن الضحية , هنا تذكرت درس النظرية الألمانية ومعنى مذهب القوة في العلاقات الدولية.

تأملات في قيادة الأمم : علمتنا بعض دروس الحياة أن أقدار الدول لا تختلف عن أقدار البشر, فهنالك دول لا تعرف الحروب والمجاعات والخوف إلا نادرًا , وهنالك دول لا تعرف السلام والشبع والأمان , وهكذا أحوال ملايين الناس , الدول المحظوظة بقيادات ناضجة لا تعاني من المعضلات , وربّما تواجهها بعض المشاكل البسيطة وهذا الأمر ممكن ومتوقّع , بينما الدول المغضوب عليها بقيادات هزيلة تعاني من معضلات قاهرة , وهذه نتيجة متوقّعة لسياسات وضع الرجل الهزيل في مكان القوي , والخائن في مكان الرجل الأمين , والعبثيّ في مكان الرجل الدقيق , وهكذا حال غالبية المناصب الحسّاسة والدقيقة والمفصلية , حيث كنا قد تعلمنا أن المعضلات المتنامية ينبغي أن يتصدّى لها الأوفياء لتقليل آثارها وتحجيمها قدر الإمكان , ومنهم غالبية الساسة الأصفياء , والعلماء الأتقياء , والنخب المجتمعية , والصحفيّون , والإعلاميّون , والكتّاب المعروفون بحبّهم للوطن والناس .

دور الكاتب في دروب المعنى : في نهاية دروب معاني عراق ما بعد الغزو, نتساءل : هل الفرد الواعي الذي يكتب مُطالب بتقديم الحلول لإتمام الفائدة ولو بعبارات بسيطة , دون أن يذهب لتفاصيلها الدقيقة في جميع مقالاته ؟ نعلم أن هناك عدة طرق لطرح الحلول منها المباشرة التي يتناول فيها الكاتب المشكلة ويطرح العلاج مباشرة معها , أما غير المباشرة فتتمثّل بوصف الحالة السلبية , وتسليط الضوء عليها للوعي بحقيقتها وآثارها الآنية والمستقبلية , وهكذا , فإن الكاتب الذي يُحدّد المعضلة ويُحدّد زمانها ومكانها وشخوصها فهو يسعى لعلاجها وترميم الخلل , والحلّ ليس بالضرورة أن يكون تفصيليّا , بل ربّما تكفي الإشارة ببضع كلمات , أو طرح التساؤلات التي تدفع الناس للتفكير وفهم الواقع والوعي والسعي بالمحصلة للتغيير, الكاتب الذي يناحر (( السلطات العليلة )) لا يسعى للشهرة والثراء , بل هو شمعة تحترق في سبيل الوطن والناس , وقد يكون الكاتب في ظروف معينة بحاجة للتلميح وليس التصريح , وذلك تبعًا لظروفه الخاصة القاهرة , وكم من كاتب كان ضَحيّة لقلمه وفكره , وضيّع حياته وحرّيّته سعيًا لتحقيق العدالة الاجتماعية, والتلاحم الإنسانيّ , والتراحم المجتمعيّ.

أحدث المقالات

أحدث المقالات