مقامة النقيق في قاع بئر: العراق بعد 2003

مقامة النقيق في قاع بئر: العراق بعد 2003

لا يوجد تعبير أدق من (( نقيق الضفادع في قاع بئر))  لوصف ما حل بالعراق بعد عام 2003 , هذه العبارة لا تعكس فقط حالة العقلية البالية التي حكمت البلاد , بل تصف أيضًا العزلة والانفصال عن الواقع الذي عاشه صانعو القرار, إنهم كضفدع في قاع بئر, لا يرى من السماء إلا ما تسمح به فتحة البئر الضيقة , فيتوهم أن هذا الجزء الصغير هو كل الكون , يصف الأديب اللبناني الكبير ميخائيل نعيمة في مقاله (( الغربال))  ((ضفادع الأدب))  بعبارة بليغة : (( مصيبة الضفادع , أن الحياة تسير بهم وهم قعود , فيتوهَّمون أن الحياة قاعدة مثلهم )) , هذه الكلمات تنطبق تمامًا على (( ضفادع السياسة))  في العراق , لقد أدى هرجهم ومرجهم السياسي إلى تجاهل الواقع المرير الذي يعيشه الشعب , متوهمين أن الحياة لم تتغير, بينما هي تتقدم بهم نحو الهاوية.

إن ما أنتجته دولة النقيق في العراق هو حصادٌ مرعب من البؤس والتخلف والفقر , لم يكن نقيقهم سوى أصوات جوفاء أفرزت : أفواجًا من الأرامل واليتامى والمعاقين , ودولة اللا دولة:  كيان ينخر فيه التقهقر المرعب في كل مناحي الحياة , واغتيال للمواطنة,  فقد قتلت هذه العقلية وبسبق إصرار وترصد شيئًا اسمه المواطنة , واغتالت إحساسًا اسمه الانتماء للوطن , لقد استخدمت هذه الدولة أذرعًا ميليشياوية طائفية وقبلية لنشر الرعب والإرهاب , مما أدى إلى تشتيت الانتماء والولاء في زوايا ضيقة , بعيدًا كل البعد عن أي مفهوم للوطن أو الوطنية , لقد أصبح صوت النقيق هو السائد , بينما صوت الشعب المقهور أصبح صدى لا يُسمع .

تحمل كلمة (( نقيق ))  في طياتها معاني مختلفة , ففي تراثنا الإسلامي , ليس مجرد صوت مزعج , بل هو تسبيح لله تعالى , يذكر الإمام السفاريني في كتابه (( غذاء الألباب ))  أن (( نقيق الضفدع تسبيح لله )) , ويُروى عن سفيان أن (( ليس شيء أكثر ذكرًا لله من الضفدع )) , وهناك قصة عظيمة عن ضفدع ألقت بنفسها في النار خوفًا من الله , فأثابها الله ببرودة الماء وجعل نقيقها تسبيحًا , ويُروى أيضًا أن النبي داود قال (( لأسبحن الله تسبيحًا ما سبحه به أحد من خلقه )) , فنادته ضفدع لتذكره بأنها تسبح الله منذ سبعين عامًا بكلمتين عظيمتين:  (( يا مسبحًا بكل لسان , ومذكورًا بكل مكان )) , هذه القصص ترفع من قيمة (( النقيق )) , وتحوله من مجرد صوت عادي إلى رمز للإيمان والتسبيح والتفاني في ذكر الله.

أما نقيق اليوم , هو صدى الفشل واليأس , لأن ما يحدث في العراق هو انقلاب على هذا المعنى النبيل , لقد تحوّل (( النقيق )) من تسبيح إلى أصوات جوفاء من صنع (( ضفادع السياسة )) , التي لا تسبّح بحمد الله , بل تنعق بالفشل والفساد , ولم يعد نقيقهم صوت إيمان , بل هو صوت الكذب والفساد الذي فرّق الشعب وقتل المواطنة , لم يعد نقيقهم تسبيحًا يقرّبهم من الله , بل هو صوت مليشيات طائفية تقتل وتشرّد الأبرياء , أن هذا التناقض بين المعنى الروحي والإسلامي للنقيق وبين واقعنا المرير , هو الذي جعل منارة الحق في قاع البئر, وهو بيت القصيد.

إن نقيق الضفدع في قاع البئر ليس فقط صوتًا لا يعكس سوى عقلية بالية , بل هو أيضًا رمز للسياسيين الذين انفصلوا عن الشعب والواقع , متوهمين أن الحياة تسير بهم وهم قابعون في أماكنهم , لقد أصبحوا كالضفدع التي لا ترى من السماء إلا دائرة صغيرة , فيظنون أن هذه الدائرة هي كل الكون , بينما الحياة تمضي وتتقدم نحو الهاوية.

لقد أدت هذه العقلية إلى ضياع العراق , وتسببت في أفواج من الأرامل واليتامى والمعاقين, السؤال الذي يجب أن نطرحه الآن هو:  هل يمكننا أن نعيد لـ(( النقيق )) معناه النبيل , ونخرجه من قاع بئر الفشل واليأس؟ وهل سيتمكن الشعب العراقي من استعادة صوته , وتحويله من صوت الفساد والخراب إلى صوت التسبيح والإصلاح , كما كان في تراثنا؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات