13 ديسمبر، 2024 3:59 م

نشر صديق جزء من دعاء طاغور الذي ينطوي على جدلية في محتواه ((يا رب اذا اعطيتني مالا , لاتاخذ سعادتي , اذا اعطيتني قوة لا تأخذ عقلي , اذا اعطيتني نجاحا لا تأخذ تواضعي , اذا اعطيتني تواضعا لا تاخذ اعتزازي بنفسي وكرامتي)) .

تبعث الكلمة الجميلة شعوراً بالغبطة , وفي سرد هذا الدعاء غذاء للروح قبل غذاء العقل , وأنا أحب التفاؤل والمتفائلين فلولاهم لجلس الناس تحت ركام يأسهم وخيباتهم ,  أليس من الإيجابية أن ترغب في فعل الخير؟ وأن تملك الرغبة في مساعدة الآخرين؟  فعندما يكون لديك نية لمساعدة الناس , وإضافة قيمة لهم , فإن ذلك يجعلك شخصاً أفضل , لكن إن كنت لا تقوم بذلك على نحوٍ متعمِّد , فإن الأمر لن يُحدِث فرقاً , وكما هو معلوم للجميع أن النية أمرها عظيم , وهي روح الأعمال , وبها صلاحها حيث (( لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)) , وقال ابن القيِّم : (( النية قصد فعل الشيء , فكلٌّ عازمٍ على فعل , فهو ناويه , لا يتصوّر انفكاك ذلك عن النية , فإنه حقيقتها , فلا يمكن عدمها في حال وجودها, ومن قعد ليتوضأ , فقد نوى الوضوء , ومن قام ليُصلِّي , فقد نوى الصلاة , ولا يكاد العاقل يفعل شيئًا من العبادات ولا غيرها بغير نية , فالنية أمرٌ لازم لأفعال الإنسان المقصودة )) .

الدعاء المنشور مقتطع من دعاء شهير لطاغور يتم تداوله بكثرة , ويحتوي على جدليات التناقضات , وفيه أيضا , (( اللهم لا تجعلني جزارا يذبح الخراف ولا شاة يذبحها الجزارون ,ساعدني أن أقول كلمة الحق في وجه الأقوياء ولا أقول الباطل في وجه الضعفاء , وأن أرى الناحية الأخرى من الصورة ولا تتركني أتهم خصومي بأنهم خونة لأنهم اختلفو معي في الرأي , علمني أن أحب الناس كما أحب نفسي , وأن أحاسب نفسي كما أحاسب الناس , علمني أن التسامح من أكبر مراتب القوة , وأن حب الانتقام أول مظاهر الضعف , لا تدعني أصاب بالغرور إذا نجحت , ولا باليأس إذا فشلت , بل ذكرني دائما أن النجاح يسبق الفشل , إذا جردتني من النجاح فاترك لي قوة أن أتغلب على الفشل , وإذا جردتني من الصحة فاترك لي نعمة الإيمان , وإذا أسأت إلى الناس فأعطني شجاعة الاعتذار, وإذا أسأت إلى الناس فأعطني مقدرة العفو ,وإذا نسيتك فلا تنسني من عفوك وعطفك ورحمتك )) .

هناك علاقة جدلية بين مواضيع او اشياء هذا الدعاء ,  وهي علاقة بين أمرين لا يجتمعان, حيث يترتب على وجود أحدهما ذهاب الآخر,  وهذه العلاقة غير متحققة إلا بالحكم على الأمور , مثل قولنا : زيد موجود أو غير موجود , وقولنا : الحق  أو الباطل , العدل  أو الظّلم , الحُرِّيَّة  أو الاستعباد , والجدل قديم جدا وليس وليد اليوم , وقد رأينا كيف تعتمد النزعة المادية الفلسفية الماركسية على المبدأ القائل بان المادة والطبيعة والكينونة هي وقائع مادية موجودة خارج الوعي ومستقلة عنه , وهي بذلك تعارض النزعة المثالية التي تؤكد بان الوعي وحده موجود حقا , وان العالم المادي والكينونة والطبيعة لا توجد الا في وعينا وفي احاسيسنا وتصوراتنا .

قديما قالوا : ما ابعد المنى وما اقرب التمني , و رغم ان طاغور نوع من أناس مصنوعين من فولاذ عقلاً وعضلاً , الا ان بعضهم يقول بالا نتداول اقواله كونه كافر , ونقول لهم : (( سلام على كفرٍ يوحّد بيننا – واهلا وسهلا بعده بجهنمِ  )) , وللكاتب الفرنسي أندريه جيد قوله بهذا الصدد (( أن الناس مولعون بالصفات الحميدة كالشجاعة والكرم والنزاهة والصدق لعظمتها كمبادئ , ولكنهم يحبون ويمارسون في الواقع نقائضها كنتائج )) , وقد كنت أعلم , وبالطبع تعززت معرفتي , بأن قول الشيئ غير فعله , وحمل السلاح غير سحبه عند الضرورة , وأمتلاك المال لا يعني الكرم بالضرورة , والحديث عن النزاهة سهل ما لم يقترن بالواقع العملي , والتمثل بالمثل العليا غير ممارستها , وكم ترى من أشخاص يدعون الكثير لصفاتهم , ولكنهم من أخس وأرذل من اللصوص المحترمين , بل هم بمستوى أخلاق النشالة والسرسرية يستنكف المرء الجلوس معهم في مقهي حتى لخمس دقائق .

إذا أحببت أحدًا فادع له بمثل دعاء ( الجاحظ ) الذي يقول فيه:  (( جنّبك الله الشّبهة , وعصمك من الحيرة , وجعل بينك وبين المعرفة نسبًا , وبين الصدق سببًا , وحبّب إليك التثبّت , وزيّن في عينك الإنصاف , وأذاقك حلاوة التقوى , وأشعر قلبك عزّ الحقّ , وأودع صدرك برد اليقين وطرد عنك ذلّ اليأس , وعرّفك ما في الباطل من الذلّة , وما في الجهل من القلّة )) .