مقامة إدارة الفئران: استعارة لحال العراق بعد 2003

مقامة إدارة الفئران: استعارة لحال العراق بعد 2003

تحكي القصة المصرية عن فلاحٍ بسيط كان يحمل كيسا من الخيش مملوءا بالفئران الحية , وكان مسافرا في أحد قطارات الريف إلى القاهرة , وصادف انه يجلس إلى جوار أحدُ المهندسين الذي لاحظ أن الفلاحُ يهزَّ الكيس عدة مرات بين الفينة والأخرى , سأل المهندسُ الفلاحَ عن محتويات هذا الكيس , قال الفلاح : في الكيس عدد كبير من الفئران اصطدتها حية لأبيعها لمركز الدراسات والأبحاث في القاهرة , ليُجروا عليها التجارب العلمية , وهذا مصدر رزقي , سأل المهندس الفلاح مرة أخرى : ولكن لماذا تهزُّ الكيس بين الفينة والأخرى؟رد الفلاح : أنا أهزُّ الكيس حتى لا تتمكن الفئران من قرض الكيس المصنوع من قماش الخيش لتحرر نفسها , فأنا أهزها باستمرار لتنشغل بمعاركها الداخلية بين بعضها البعض ,لأن الفئران تعتقد أن حركة هزِّ الكيس ناتجةٌ عن مشاغبة وعبث بعض الفئران داخل الكيس , لذلك فهي تتعارك مع بعضها البعض , وتنشغل بحروبها الداخلية , وتنسى استخدام أسنانها الحادة لقرض كيش الخيش , فهي تنسى الحرية وتقتتل داخليا .

هذه القصة البسيطة تحمل في طياتها درسًا قاسيًا في فن السيطرة على الجماهير, وهو درسٌ يمكننا بسهولة أن نطبقه على الواقع العراقي بعد عام 2003 , فقد كان من المتوقع, بعد أحتلال العراق وأزالة هياكل ومؤسسات البلاد , أن يتجه الشعب العراقي بأسره لـ(( قضم كيس الخيش )) , أي بناء دولته وتأمين مستقبله , لكن ما حدث كان مختلفًا , فبدلاً من التركيز على المطالب الحقيقية المتعلقة بالخدمات الأساسية ومكافحة الفساد المستشري , انشغل العراقيون بـ (( حروب داخلية )) أبعدتهم عن هدفهم الأساسي , لقد تم خلق صراعات متعددة , بعضها على أساس عرقي , وآخر على أساس طائفي , وثالث على أساس مناطق , هذه الصراعات , التي كان يُنظر إليها على أنها قضايا جوهرية , لم تكن سوى أدوات لإشغال الناس.

هذه الاستراتيجية في إشغال الجماهير ليست جديدة , ففي عام 1895 م أدرك علماء مثل غوستاف لوبون في كتابه (( سيكولوجيا الجماهير)) أن الجماهير تُقاد بالعاطفة لا بالعقل, وأنها سهلة الانقياد تحت تأثير المحرضين , لقد بيّن لوبون كيف يتحول الفرد الواعي إلى غوغائي عندما ينخرط في حشود , وكيف يمكن إقناع الجماهير بارتكاب أفعال عنيفة باسم أي قضية , ولعل (( أحقر درس في تاريخ البشرية )) كما وصفه الأستاذ سامي عطاالله , يتجسد في قصة جوزيف ستالين الذي نزع ريش دجاجة حية أمام رفاقه , ثم ألقى لها حبات الشعير, لتركض نحوه مذعورة , معلّقة ببساطيله , لقد أراد ستالين أن يوضح لرفاقه أن الشعوب , مثل تلك الدجاجة , ستلحق بمن يعذبها , مقابل الحصول على أدنى لقمة عيش.

تُظهر قصة الفئران , وأفكار لوبون , ودرس ستالين , أن التخلص من ثورات الجماهير على الحكام الطغاة لا يتم إلا بإشغالهم بقضايا فرعية تسبب الألم والخصام , ففي العراق , تحولت المعركة من صراع على الانعتاق والحرية إلى صراع على السلطة والموارد , صراعٌ تغذى من الداخل , وبدلاً من أن يتحد الجميع ضد الفساد وسوء الإدارة , انقسموا إلى فرق متناحرة , كل فرقة تعتقد أن الخطر يكمن في الفرقة الأخرى , بينما (( الفلاح )) يواصل هزّ الكيس , مستفيدًا من انشغال الجميع.

إنّ واقع العراق بعد 2003 يطرح سؤالًا جوهريًا: هل كان العراقيون فئرانًا في كيس , أم أنهم ببساطة لم يدركوا أن الكيس كان مفتوحًا ؟ إنّ فهم هذه الاستعارة قد يكون خطوتنا الأولى نحو تغيير الواقع , فمتى ما أدركنا أن خلافاتنا الداخلية هي في معظمها صنيعة من يريد إشغالنا , يمكننا حينها أن نوجه طاقتنا لـ (( قضم كيس الخيش )) وبناء العراق الذي نحلم به.