يرميها المندلاوي الجميل ويمشي , سؤال نشره على صفحته اليوم : (( القرب يقصد ام البعد ؟ قال المتنبي : فياليت مابيني وبين احبتي من البعد ما بيني وبين المصائب )) , وقد فسرها المعري: يقول: ليت ما بيننا من البعد الحاصل , كان بيني وبين المصائب , أي يعني : ليت الأحبة قريبة مني والمصائب قد بعدت , واللغة خزان عقول الأمم , فيها تنبت الأفكار وتترعرع , وبها تتنقل بين الناس , اللغة كائن حي فاعل ينمو باستمرار, ويتطور مع مسيرة الحياة , والعربية من اللغات التي عاشت , وبقيت حية ورافقت العرب المسلمين في امتداد فتوحاتهم الواسعة , وتعلمتها شعوب كثيرة وصارت لغتها الوطنية .
يحمل ابو الطيب المتنبي , ذو النزعة العروبية الواضحة كل الوضوح في شعره , وقد تلقى دروساً في علم الأذواق والأحوال والمقامات والمجاهدات , على يد ابو علي هارون بن عبدالعزيز الأوراجي ( حسب ماسينيون ) , المقيم في ناحية من نواحي لبنان , قد تكون في بعلبك وقد تكون في الساحل , ولم تحدد كتب التراث أو ديوان المتنبي مكانه بالضبط , ولكن الأكيد أن المتنبي لقي أبا علي هارون بن عبدالعزيز في لبنان , وأقام في كنفه , ولزمه مدة من الزمن قبل ان يعود الى مهنته الأساسية وهي السفر من مكان إلى آخر, مما يؤكد لبنانية المتنبي وكونه عرج إليه مراراً , وأقام فيه , وعرف مواصفاته الطبيعية , ابيات له من قصيدته اليتيمة التي مدح بها الأوراجي وهي التالية : (( بيني وبين ابي علي مثله شم الجبال ومثلهن رجاء , وعقاب لبنان وكيف بقطعها وهو الشتاء وصيفهن شتاء , لبس الثلوج بها علي مسالكي فكأنها ببياضها سوداء , وكذا الكريم اذا أقام ببلدة سال النضار بها وقام الماء )) , ويقصد المتنبي ان الجبال العالية الشماء تفصل بينه وبين ابي علي , وهذه الجبال مكسوة على الدوام بالثلوج سواء في الصيف أو في الشتاء ولهذا يتعذر على المسافر أو على الزائر قطعها.
أن من أهواه ينأى عني , ومن أبغضه يقرب مني , لسوء صحبة الدهر أياي , كما قال لطف الله بن المعافى , أرى ما أشتهيه يفر مني , وما لا أشتهيه إليّ يأتي , ومن أهواه يبغضني عنادا , ومن أشناه يشبث في لهاتي , كأن الدهر يطلبني بثارٍ , فليس يسره إلا وفاتي , (( فيا ليت ما بيني وبين أحبتي من البعد ما بيني وبين المصائب )) , ويا ليتهم واصلوني مواصلة المصائب , وليتها بعدت عني بعدهم , كما قال أيضا : ليت الحبيب الهاجري هجر الكرى , من غير جرمٍ واصلي صلة الضنا , (( أراك ظننت السلك جسمي فعقتهِ عليك بدرٍ عن لقاء الترائب )) , وهنا أراد بالسلك الخيط الذي ينظم فيه الدر , وفي البيت تقديم وتأخير لأن المعنى فعقته بدر عليك , يقول لعلك حسبت السلك في دقته جسمي فمنعته عن مباشرة ترائبك , بأن سلكته في الدر يشكو مخالفتها إياه وزهدها في وصاله , والمعنى ميلك إلى مشاقتي حملك على منافرة شكلي , حتى عقت السلك عن مس ترائبك بالدر لمشابهته أياي في الدقة , وفيه يقول : (( أَعيدوا صَباحي فَهوَ عِندَ الكَواعِبِ .. ورُدّوا رُقادي فَهوَ لَحظُ الحَبائِبِ )) , قال البرقوقي : الكواعب : جمع كاعب , وهي التي بدأ ثدياها للنهود , والحبائب : جمع حبيبة ولحظ الحبائب أي رؤيتهن , يقول: أصبح دهري ليلاً كله بعد ظعن الأحبة , فليس هناك صباح إلا بردهن , وقد نفي عني الكرى فلا رقاد إلا برؤيتهن , والمعنى ردوهن علي حتى يرتد صباحي ورقادي , (( فَإِنَّ نَهاري لَيلَةٌ مُدلَهِمَّةٌ .. عَلى مُقلَةٍ مِن بَعدِكُم في غَياهِبِ )) , وهذا البيت كالتعليل لما ذكره في البيت السابق , ويقول : لما رحلتم لم أبصر بعدكم شيئاً : أي بكيت حتى عميت , فآض نهاري ليلاً حالك السواد (( بَعيدَةِ ما بَينَ الجُفونِ كَأَنَّما .. عَقَدتُم أَعالي كُلِّ هُدبٍ بِحاجِبِ )) , أي , تباعد ما بين أجفان عيني فلا يلتقي الجفنان , فكأن أعالي أهداب الجفون معقود بشعور الحاجب فلا ينطبق , (( وأَحسَبُ أَنّي لَو هَويتُ فِراقَكُم .. لَفارَقتُهُ والدَّهرُ أَخبَثُ صاحِبِ )) , وقد قال المعري: أي من عادة الدهر مخالفة هواي , فلو كنت أهوى أني أفارقكم لفارقت الفراق وواصلتموني , ثم ذم الدهر وقال : الدهر أخبث صاحب للإنسان , لأن كل صاحب خالفك فهو خبيث , والهاء في (فارقته) للفراق .
يقول: أظنك حسبت السلك الذي في قلادتك جسمي لمشابهته إياه في الدقة فحلت بينه وبين ترائبك بالدر المنظوم فيه لئلا يلامس صدرك , أي أن ولوعك بمشاقتي حملك على منافرة كل ما يشاكلني , يشكو مخالفتها إياه ورغبتها عن وصاله وهو من معاني المتنبي البديعة : (( ولَو قَلَمٌ أُلقيتُ في شَقِّ رَأسِهِ .. مِنَ السُّقمِ ما غَيَّرتُ مِن خَطِّ كاتِبِ )) , قال البرقوقي : يعني لشدة سقمي نحلت حتى لم يبق لي جثمان يحس به فلو ألقيت في شق قلم , لم يتغير بي خط كاتب , وهذا من مبالغات الشعراء , وقد افتنوا في هذا المعنى كل الافتنان فمن ذلك قول بعضهم : (( ذبت من الوجد فلو زج بي في مقلة الوسنان لم ينتبه )) وقول الآخر: (( فاستبق ما أبقيت لي فلعلني .. يوماً أقيك به من الأعداء )) .
تُروى في أسباب تصوف أبن الفارض حكاية جاء فيها أنَّه دخلَ يوما المدرسة السيوفية في القاهرة , فرأى شيخًا لا يُحسن الوضوء , فعاب على الشيخ فعلَه , فطلبَ منه الشيخ مخاطبًا إياه باسمه أن اتركْ مصرَ واقصد الحجازَ فلن يفتح الله عليك في مصر, تعجَّب ابن الفارض من معرفة الشيخ باسمه وهو يتلقيه أولَ مرة , فأشار الرجل بيديه فأبصرَ ابن الفارض مكةَ أمامه , فقصدها ودخلها في حينها , انقطع ابن الفارض في شعاب مكة خمس عشرة سنة سائحًا في وديانها وجبالها , ثم سمع يومًا صوت الشيخ يناديه ويطلب منه العودة إلى مصر ليحضرَ وفاته ويصلِّي عليه .
عزيزي المندلاوي الجميل : عندما تشعر أن نبضات قلبك بدأت تتزايد عندما يقترب أحدهم من محيطك .. إرحل , عندما تشعر بأنك تغار على أحدهم دون سبب منطقي .. إرحل , عندما تبدأ التلعثم بالحديث مع أحدهم .. إرحل , عندما تشعر بأن فلان مختلف .. وأن القصة مختلفة .. أرحل , صدقني إنه الوقت المناسب لمغادرة المكان بسلام .. ربما تكون الفرصة الأخيرة للسلام , أنت لا تمتلك قدرة على عضلة قلبك , ولكن بإمكانك تحريك عضلات قدميك وبإمكانك أن تلوح بيديك مودعاً .. إياك وميل القلب .