في تطوّر سياسي جديد على مسرح العبث السياسي حيث تتحوّل الحكايات من ملفات أمنية إلى دعوات رسمية، ومن قوائم الإرهاب إلى بطاقات VIP لحضور القمم، حيث نعيش الفصل الأحدث من مسرحية الشرق الأوسط الكبرىوهو الأكثر سريالية منذ أن استُقبل بشار الأسد بفرقة دبكة في أبو ظبي، أعلن مصدر سوري “يبدو أنه لم يشرب قهوته بعد” أن سيادة رئيس المرحلة الانتقالية السورية (والتوصيف هنا يُفهم حسب المزاج) أحمد الشرع، قد أعطى “موافقة مبدئية” على زيارة بغداد، وذلك تلبيةً لدعوة رسمية من رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، نعم، عزيزي القارئ، لا تفرك عينيك، فالأستاذ أحمد الشرع المعروف فنيّا باسم أبو محمد الجولاني، والموصوف سابقا بلقب “الظلّ الذي يرتدي عمامة”، قد وافق مبدئيا على زيارة العاصمة العراقية لحضور القمة العربية، لأن الحصانة الدبلوماسية تغسل كل الذنوب، تماما كما يفعل ماء زمزم لكن بلمسة من مجلس الأمن.
ولمن لا يعرف “الشرع”، فقد كان بالأمس “أمير القاعدة في العراق”، واليوم “سيادة الرئيس الانتقالي في سوريا”، وبعد غدٍ ربما يصبح “رئيس اتحاد الجمهوريات الإسلامية المتحدة”، وعرفته أجهزة الأمن العراقية ذات يوم تحت مسمى “أبو محمد الجولاني”، وكانت صورته مرفقة بعبارة “مطلوب حيا أو ميتا”، ثم، وبسحر من نوع خاص لا يباع في الأسواق، تحوّل هذا “المطلوب” إلى “مرحب به”، وإلى “ضيف شقيق” يحمل حقيبة دبلوماسية تحتوي على نُسخ مصورة من اتفاقيات جنيف، وعطر رجالي اسمه “حصانة“، ويُفرش له السجاد الأحمر ويُقدَّم له الكنافة بأسلوب دبلوماسي، فالذي كان حتى وقت قريب نجما في “لوائح المطلوبين” وأيقونة في قائمة “من يُرجى القبض عليه قبل الغروب”، كانت المكافآت تُعرض لقاء رأسه، قررت واشنطن مؤخرا أن تلغي الجائزة وكأنها تقول: “لقد أصبح الآن رجل دولة، دعوه يتحدث في القمة عن التنمية المستدامة“، وها هو اليوم يجلس إلى طاولة الدبلوماسية، ويتباحث بشأن “أمن الحدود”، تلك الحدود التي التي كان يخرقها ذات يوم وهو يحمل سلاحا لا تصريح إقامة، هو تجسيد حيّ لفكرة أن التاريخ في الشرق الأوسط لا يُكتَب بالحبر، بل يمسح بالسبورة، ففي منطقة فيها السياسي الحالي يتهم بالفساد بعد كل جلسة برلمان، والحلاق في الحي قد يكون عميلا مزدوجا، لا شيء مستحيل.
اللقاء الأول من نوعه بين السوداني والشرع تم بوساطة قطرية، لأنها ببساطة تتدخل في كل شيء، من تسوية النزاعات الإقليمية إلى إعداد وصفات الحُمص، وكان أشبه بلقاء أخوين افترقا يوم كان أحدهما يقاتل في الصحراء تحت راية “لا أمريكا بعد اليوم”، والآخر ينتظر موافقة البرلمان على موازنة وزارة الزراعة، جلسا سويّا، في الدوحة، بوساطة من الشيخ تميم، تبادلا أطراف الحديث، وربما أطراف ملفات أمنية، لأن الشرع أصبح خبيرا أمنيامحترفا بعد سنوات من التدريب العملي، بينما أمير قطر يتوسط المشهد كعرّاب عصري يرتب تحالفات الشرق الأوسط كما كان يفعل دون كورليوني في نيويورك، لكن مهلا، فالشيخ تميم قرر هذه المرة أن يلعب دور “العرّاب”، لا بين عشيرتين متنازعتين، بل بين رئيس دولة و… أحد زبائنه القدامى من قوائم الإرهاب، وحين اجتمع الثلاثة في غرفة واحدة، لم يُناقشوا الماضي “فهو مزعج“ بل ناقشوا الحاضر برحابة صدر، وتبادلوا الضحكات وربما بعض الذكريات، إذ قال الشرع: “أتعلم، مررت من هذه الحدود مرة وأنا أهرب من ملاحقة القوات الأمريكية.. ضحك السوداني وقال: “أما أنا فمررت منها وأنا أهرب من جلسة استجواب برلمانية“.. وضحك تميم بدوره، وقال: “مرحبا بكما… قطر تحتضن الجميع، بشرط أن يكون لديهم ملف أمني محترم“.. “مرحب به في بغداد” – رئيس وزراء العراق، الذي لم يقرأ الفقرة الثانية من تقرير المخابرات، لكن لا بأس، فالدولة الحديثة تُبنى بالتسامح، والمصالحة، وغض النظر… وخلع العدسات الطبية عند النظر في السجلات الأمنية.
من الناحية القانونية، هرع خبراء القانون “الذين يبدو أنهم يتنفسون دخان الدستور من النرجيلة“ لطمأنة الشعب بأن اللقاء “لا يخالف القانون”، وأن مذكرة القبض السابقة ضد الشرع “تبخرت” كما يتبخر الحياء في المؤتمرات الصحفية، لأن الرجل صار الآن محصّن أكثر من لقاح الجدري، فهو رئيس جمهورية، ولو كانت جمهورية مؤقتة، من ورق، وبلا طوابع بريدية، وبذلك، سقطت كل التهم الموجهة إليه… لا بقرار قضائي، بل بعبارة سحرية تُشبه افتح يا سمسم: “هو حاليا رئيس، وبالتالي معذور على كل ما فعله عندما لم يكن رئيسا“، ومعلوم أن رئاسة الجمهورية في منطقتنا تشبه جهاز إزالة البقع، تمحو أي ماضٍ، ولو كان مسلّحا،ويبدو أن الحصانة في الشرق الأوسط ليست حماية قانونية، بل غسيل شامل للذاكرة الوطنية، فبمجرّد أن يتحوّل الشخص إلى “فخامة” أو “دولته”، يتم شطب كل شيء،الفيديوهات، الوثائق، حتى النكات التي قيلت عنه في المقاهي، فالشرع نفسه نفى شخصيا في بيان صحفي قُرئ بلكنة مشكوك في مصدرها، أنه شارك في المعارك الطائفية، وقال إن “هيئة تحرير الشام” قطعت علاقتها بالقاعدة، وقطعت كذلك التيار الكهربائي والماء والإنترنت عن مناطق عدة، لكنها تعهدت الآن بربط الجميع بخدمة الـ5G مع مستقبل زاهر لا يحتوي على متفجرات.
وبينما تجهز بغداد السجاد الأحمر للرئيس القادم من دمشق، يؤكد الشرع أنه لا علاقة له بأي تنظيمات متطرفة حاليا، وأنه رجل دولة يعمل من أجل “المصالح السورية العليا”، صحيح أنه دخل العراق أول مرة متسللا عبر الحدود على ظهر شاحنة ذخيرة، لكن هذه المرة سيأتي على متن طائرة رئاسية، محاطا بوفد أمني، وربما بكاميرا قناة “الجزيرة مباشر“، ليجلس في قصر المؤتمرات ببغداد إلى جوار القادة العرب، يناقش قضايا الأمن الغذائي، ويمضغ ورقة نعناع بينما يسأل: “متى نبدأ بمشروع الربط السككي؟“، أما بشار الأسد، الذي فاته القطار (حرفيا ومجازيا)، فما زال يعيد تشغيل تطبيق “تليغرام” على أمل أن تصله دعوة ما، من نوع: “هل ترغب بالانضمام إلى مكالمة زووم مع القادة العرب؟“، بينما السوداني، يقول بكل وقار، إن الشرع “مرحب به في بغداد”، وكأنما يتحدث عن شاعر من العصر العباسي، بل لعل السوداني “إن وجد القمة مملة“ يسأله عن بعض “أسرار القيادة الميدانية”، أو يعرض عليه منصب مستشار شؤون “القتال الأخلاقي”، أو يرسل له دعوة لحضور مهرجان بابل الدولي كـ”رمز للتحول الوطني“.
ما بين قمة بغداد وذاكرة سجن بوكا، تتقاطع الخطوط، ويتداخل السياسي بالجنائي، وتنهار الحدود بين ما هو شرعي وما هو شرع… وبينما يلوّح بعض السياسيين السابقين بمذكرات اعتقال مؤجلة، يؤكد المستشارون أن “المصلحة الوطنية تقتضي غض النظر، وطأطأة الرأس، وربما الانحناء قليلا إن لزم الأمر“، فبعد هذه السابقة التاريخية، قد نتوقع في القمة العربية المقبلة دعوة شخصيات أخرى للم الشمل مثل: زعيم مافيا سابق قد يترأس وفد مكافحة الفساد، مُهرب آثار يعيّن مديراللمتاحف الوطنية، مستشار روحي لميليشيا يُمنح وسام التنوير الفكري، أما المواطن فعليه أن يحلم، فقد يكون لك منصب في يوم ما، حتى لو سرق مصرفا في 2006، أو أحرق مركز شرطة في 2008، أو كتب منشورا عدائيا في 2010، فما عليه إلا الانتظار قليلا، فالبوابة الدبلوماسية مفتوحة، وكل ما سيحتاجه هو وظيفة بعنوان غريب من ثلاث كلمات: “المرحلة الانتقالية للهيئة المشتركة العليا“، وقديعلن عن فتح باب الترشيح لمنصب “رئيس دولة مؤقت”، على أن تكون الأولوية لمن لديه خلفية أمنية قوية، ويفضل من كان اسمه مدرجا سابقا في قوائم المكافآت الأمريكية،فالدولة تتسع للجميع، والعدالة نائمة، والذاكرة مثقوبة… لكن الطاولة مستديرة، والكرسي شاغر، ففي هذا الشرق، كل شيء ممكن، حيث المستحيل ليس لغة، بل قاعدة دبلوماسية.