ولتسمع بأذنيك وفي ذات الوقت من بقايا أزلام وأبواق الانظمة الساقطة ،الزائلة ، المقبورة التي ظلت تحكم شعوبها بالحديد والنار لمدة 30 أو 40 أو 50 عاما عين ما كنت تسمعه من وعاظ المعارضة قبلا بوجوب الثورة على الاستبداد والطغيان وخلع يد من طاعة للسلطان لإصلاح الأوضاع ورفع الظلم ورد المظالم لأن السكوت على الظلم حرام حرام حرام ، ولو عاد الوضع الى سابق عهده في كل مرة لعاد كل واحد من طرفي المعادلة ليشغل ذات الاسطوانة المشروخة التي كان يرددها من قبل ومن بعد ..!
وهكذا وبين مفكري وإعلاميي وساسة وكتاب وأدباء ووعاظ وفضائيات – الخنادق والفنادق- لن تهدأ النفوس مطلقا ، ولن تستقر البلاد أبدا ، ولن ينجلي غبار الميادين ودخان المعارك بتاتا، ولن تتوقف لعلعة الرصاص ولن تُخرَسَ أصوات البنادق مطلقا ، وسيظل الشعب المطحون والمغلوب على أمره على اختلاف أطيافه ومكوناته يعيش حالة من التوجس والقلق والإكتئاب والإحباط خشية أن تتدهور الأمور وتطيش سهامها فتنفلت من عقالها لتذهب بالجميع إلى الهاوية السحيقة التي لا نور في دهاليزها وانفاقها المظلمة ولا مخرج ،علما بأن سياسة الإرجاف والاشاعة والتخويف ، هي سياسة مبرمجة وممنهجة غايتها اشغال الرأي العام عن حقيقة ما يجري من حوله واقعا ، وصرف انظارهم عن كارثة ملفات السرقة والاختلاس والرشوة والتزوير والعبث بالمقدرات، وإهدار الموازنات ،وخصخصة الشركات ، وشبهات ابرام العقود واحالة المناقصات وعقد الصفقات !
ويبدو جليا بأن الحاجة باتت ملحة لطرح وتبني فكر ثالث وسطي معتدل موضوعي وخلاق على تماس مباشر بالجماهير المسحوقة ، ولا علاقة له ، لا بكرسي الحكم والقصر والحاشية ، ولا بالطامحين بالحكم والجاه والثروة والسلطان والطامعين بها ممن يطلقون على أنفسهم لقب المعارضة ونصفهم عبارة عن حاشية سابقة أو لاحقة تتمتع بكامل الصلاحيات قبل أن تفقد بريقها و سلطتها وسطوتها ومكانتها لهذا السبب أو ذاك ، وانظر بنفسك اليوم الى المعارضة العراقية ومثلها المصرية والتونسية في الخارج ، وسرعان ما تكتشف بأن معظمهم كانوا جزءا لايتجزأ من منظومة الحكم قبل أن يتم اقصائهم وتهميشهم فتحولوا من فورهم الى معارضة خارجية ليتحدثوا بلسانها بعد أن كانوا من أكثر أبواق السلطة صخبا، ومن أشد طبالي الأنظمة الحاكمة ضجيجا،ولا أريد أن أعدد الأسماء لأنها طويلة ولأن معظمكم يعرفها وقد خبرها جيدا ، وما المقاول محمد علي المصري، وعلى منواله فائق العراقي ورغد وشبيه عدي ومثلهم غيث وأيهم وقنبر وإسماعيل وغيرهم من المناصب والمكاسب والمغانم العليا والدنيا السابقة منا ببعيد ، فهل على أمثال هؤلاء تراهن الجماهير لتضع على عاتقهم كل آمالها في إحداث الإصلاح المرتجى ، ومثلها المطلوب من التغيير ؟!ومثلما ردد كثير من المراقبين والمحللين والنشطاء عبارة تبا وبئسا وبعدا لجائزة نوبل للسلام تمنح لترامب مشعل الفتن والحروب حول العالم على رأس حكومة يمينية من الرأسماليين البشعين اللئام ، أقول تبا وبعدا وبئسا لتغيير وإصلاح يتأتى على يد متقلبين بين أقصى يمين ويسار، أو بين أقصى يسار ويمين، وجلهم عبارة عن إمعات رويبضات يحسنون إذا أحسن الناس ، ويسيئون إذا أساؤا في خضم واقع مدلهم الخطوب مظلم وحالك وقاتم حيث شعوب بأسرها تموت فقرا وبؤسا وجوعا في خيام النزوح وكرفانات التشرد والعشوائيات، وعلى بعد أمتار قليلة منهم تقام داخل القصور الفارهة ومن أموال الشعوب أطول وأكبر مآدب الطعام، وأفخر أنواع العزائم والولائم التي يدعى الى موائدها اللئام ، ويدفع حتى عن بقاياها وفتاتها المساكين والجياع والايتام !!
وتأسيسا على ما تقدم فإني أحذر وبشدة من خطر استشراء ظاهرة الجدال الإعلامي والفكري والعلمائي السيبراني وقد تحول في بعض الأحيان الى ما يشبه طريقة الـ WWE المتفق على أدق تفاصيلها من خلف الكواليس، و الـ MMA العنيفة والتي تنتهي بعض نزالاتها بمصرع الخصم فوق الحلبة، أو بتحطيمه كليا ونهائيا بالضربة القاضية ،وقد غادرت في غضون الايام القليلة الماضية العديد من الكروبات والمنصات والصفحات العراقية والعربية واحدة تلو أخرى،بعد أن صار بعض الاكاديميين والمثقفين والدعاة والإعلاميين يتجادلون من خلالها فيما بينهم جدالا بيزنطيا عقيما وصل الى حد التنابز بالألقاب ليجرح بعضهم بعضا، تارة بزعم الغضبة للحق وتصحيح المعوج والغيرة على الوطن الغالي، والدين الحنيف ، وبيان الحقائق للناس،وثانية بدافع الحسد والغيرة والتنافس غير المحمود التي لا يسلم من آفاتها وغبارها أحد بما فيهم العلماء الأعلام، وفي ذلك قال ابن الجوزي في كتابه ذائع الصيت ( تلبيس ابليس ) في باب” تلبيس ابليس على الكاملين من العلماء ” ما نصه ” وقد لبس إبليس على أقوام من المحكمين في العلم والعمل من جهة أخرى فحسن لهم الكبر بالعلم والحسد للنظير والرياء لطلب الرياسة فتارة يريهم أن هذا كالحق الواجب لهم، وتارة يقوي حب ذلك عندهم فلا يتركونه مع علمهم بأنه خطأ” ، وثالثة أخرى بدافع الصراع الدائم والمستدام بين المدارس الفكرية المختلفة ومحاولة ممثل،أو عراب،أو الناطق شبه الرسمي باسم كل واحدة منها تسقيط ممثلي وعرابي ومشاهير المدارس الأخرى ، وعلى رؤوس الأشهاد برغم حجم البلبلة المجتمعية ، وعظم الفتنة الدينية التي يحدثها أمثال هذا الصراع السيبراني العلني المقيت ، كل ذلك بخلاف المطلوب بضرورة التهدئة والتريث والتواضع والحلم والنصح بهدوء وعلى بصيرة بالحكمة والموعظة الحسنة،وفي ذلك قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم ج2/ ص107″ أنه ينبغي للعالم والرجل العظيم المطاع وذي الشهرة أن يُسكِن الناس عند الفتن ويعظهم ويوضح لهم الدلائل”، ورابعة بتحريض من دول وحكومات، بعيدة أو قريبة، وبتوجيه من جماعات ومنظمات وأحزاب لدواع عصبية،أو انتخابية ،أو سياسية ،ولتصفية حسابات داخلية وخارجية، وخامسة بحثا عن الشو الإعلامي والترند و”الطشة”التي تتطلب التعليق على أي موضوع وصورة ومقطع وخبر عاجل ولو كان غير ذي قيمة تذكر ، لطالما أنه يستأثر بانتباه الجماهير ويشغل بالهم ، ومادامه قد تحول الى محور سمرهم وأحاديثهم في دواوينهم ومجالسهم ،بينما عوام المتابعين ومعظمهم إما من الجهلة والعاطلين والأميين، أو من الصبية وحدثاء الاسنان وسفهاء الاحلام والمراهقين ، أو من جيل زد وألفا وأصحاب الغرض والوصوليين والانتهازيين ، جل احترامي وتقديري للخيرين والغافلين والذاهلين منهم فحسب ،وقد تحولوا الى ما يشبه الروابط واتحادات المشجعين الرياضية وهم يجلسون على طرفي نقيض على مدرجات الملاعب رافعين راياتهم وأعلامهم ولافتاتهم ،هذا يهتف ويصفق ويصفر ويعلق تشجيعا لصالح هذا الفريق، والآخر يفعل ذات الشيء ولكن لصالح الفريق المقابل، وما هكذا يا دعاة ، ويا صحافة، ويا وعاظ ، ويا فضائيات ، ويا فقهاء الأمة ووجهائها وشيوخ عشائرها وزعماء قبائلها ، ويا كبراء وعقلاء وحكماء الأمة التي تداعت على بلدانها وشعوبها من كل حدب وصوب سائر الأمم ، تورد الابل !!
إنها تغريدة طائر يحلق بحرية خارج السرب ، ويثرثر بعيدا عن الصندوق الأسود لعل بتغريداته وثرثراته المتتابعة تلك تتنبه عوام وخواص الجموع ،وعسى ولعل تتصافى بفعلها القلوب وتخضر بعد طول جدبها الربوع, لتعاود شمس الوعي السطوع ، بعد طول أفول وخضوع وخنوع، وبما يتماهى مع ما جاء في كتاب ( طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ) لعبد الرحمن الكواكبي في باب ” الاستبداد والعلم ” حين قال”والحاصل أنه ما انتشر نور العلم في أمة قط إلا وتكسرت فيها قيود الأسر، وساء مصير المستبدين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين”، بمعنى أن صناعة الوعي ،وتبصير الأنام، تعد من أشرف الواجبات،وأجل المهام ، وفي ذلك قال الكواكبي في موضع آخر ” وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى: أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ وفي قوله: وما كنا لنهلك القرى وأهلها مصلحون ” ، ففي أزمنة الفتن والمحن ، وفي حقب الإنهيار والانحطاط عادة ما يكثر الصخب واللغط والضجيج وفي ذلك قال ابن خلدون في مقدمته الشهيرة “عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والأفاقون والمتفقهون والانتهازيون وتعم الاشاعة وتطول المناظرات وتقصر البصيرة ويتشوش الفكر”وهذا هو عين ما يحصل واقعا بين الفرقاء الى الحد الذي أرغم العقلاء على مغادرة عشرات المنصات والكروبات بعد أن تحولت الى ساحة لاستعراض العضلات وتصفية الحسابات،ولكثرة ما يقال ويكتب فيها من آراء متناقضة، وأفكار متضادة، وطروحات متنافرة، وبما يشوش الأفكار، ويقصر الاعمار ، وبما يطمس البصيرة ويعمي الابصار،في وقت نحن أحوج ما نكون فيه الى تصفية القلوب والأذهان بعيدا عن العصبيات المضرة بالعقول والأبدان ، المهلكة للشعوب والأوطان !!
وأضيف بأنه وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي كان معظمنا يردد المقولة الذهبية الرائعة ” لنعمل على ما اتفقنا عليه ، وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ” إلا أن تطورات الاحداث ، وتشابك الوقائع ، وتداخل الخنادق ، وتسارع الفتن ، وعظم التحديات ، بات بحاجة الى مقولة ذهبية جديدة مبنية على ما سبقها وتتمة لها ولا سيما في شطرها الاول الراقي والواقعي ، وخلاصتها ” لنعمل على ما اتفقنا عليه ، وليًعِد كل منا النظر ومن باب النقد الذاتي البناء بكل موضوعية وحيادية وشفافية بعيدا عن التحيز والتعصب فيما اختلفنا فيه ” ، لأن معذرتنا لبعضنا وعلى ما يبدو في المختلف فيه ، وهو أس البلاء ، وبيت الداء ،وموطن الجفاء، وثغرة الاعداء ، كان وخلال السنين القليلة الماضية وبخلاف المتمنى والمرتجى والمأمول دافعا ومحرضا وبقوة للعودة الى الوراء مجددا في كل مرة حيث نقطة الصفر ومربع الخلاف الاول ، وقد فطنت الوحدة الكيانية 8200 لمعضلة الخلاف العصي على الحل بيننا فباتت تلقي بمزيد من الزيت على نيرانه المستعرة لتؤججها من خلال ذبابها وبعوضها وقملها الالكتروني كلما خمدت ، وصارت تعتاش على ذلك وتعده نهجا سهلا وميسورا ومتاحا للجميع لتفريق الصفوف ، وايغار الصدور ، وشق الكلمة ،واضعاف الامة ، وبالتالي فإن الحل الامثل يكمن حاليا باعادة كل جماعة النظر بنفسها وبأعلامها وعلمائها وعلية القوم فيها ومن – زمكانها – بالمختلف فيه لكي لا نكرر اخطاءنا ولا نجدد خلافاتنا وإلا فإننا سنظل ندور داخل الحلقة المفرغة إياها وذلك في دور وتسلسل لا نهائي ليظل بعضنا يردد ” إن البيضة من الدجاجة ودليلي في ذلك كذا وكذا”، فيجالده ويجادله الآخر ” بل أن الدجاجة من البيضة ودليلي هو كذا وكذا ” وهكذا دواليك ، ليل وصبح ، وصبح وليل ، بينما العدو الغاشم يتربص بنا الدوائر على الابواب تمهيدا للانقضاض علينا جميعا ومن دون استثناء وأخاله سيستهدفنا ساعة انشغالنا بجدال بعضنا ، وأخال أن بعضنا لن ينقذ بعضنا ولن يأخذ بيده حتى في ساعة العسرة لأنه على خلاف معه، وبكل ما تعني الكلمة من معنى ، ولات حين مندم ، وخلاصة القول ” لقد سئمنا وجزعنا ومللنا من الخلافات والاختلافات المستمرة على مواقع التواصل الاجتماعي والكل وعلى ما يبدو إلا ما رحم ربك لم يعد يعترف بـالحكمة الرائعة التي تدعو الى النصح في السر وليس بالعلن ، لأن من نصح أخاه سرا فقد زانه ، ومن نصحه جهرا فقد شانه ، ولله در القائل ” إذا نصحتَ فانصَح سرا لا جهرًا، أو بتَعريضٍ لا بتصريحٍ، إلا لمن لا يفهم، فلا بُد من التَّصريح له، ولا تنصح على شرط القبول منك” ، وتذكروا على الدوام ماجاء في الاثر ” أقيلوا ذَوي الهَيئاتِ عثرَاتِهِم إلَّا في الحدودِ”، فما بال أقوام باتوا يحرصون أشد الحرص على الجهر باللوم والعتاب والتسقيط علنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي متذرعين بأن “من أخطأ من العلماء جهارا نهارا ، عيانا بيانا وأدلى بدلوه في مسألة شرعية وفقهية ما على مواقع التواصل وأمام الملايين فلابد من الرد عليه وبنفس الطريقة وأمام الملايين “والنتيجة هي = أن الناس صارت تتابع وبشغف كبير جملة خلافات العلماء فيما بينهم عبر الفضاء السيبراني وتتناقل بسعادة غامرة كيف صار الدعاة يتنابزون بالالقاب فيما بينهم عبر منصات السوشيال ميديا ،وبذات الطريقة التي يتابعون بها أبطال ونزالات الملاكمة التقليدية، ومنافسات الفنون القتالية المختلطة MMA ، وبطولات حلبات المصارعة الحرة WWE ، ولا أستبعد مطلقا من أن بعض المتابعين الشغوفين بهذا النوع من الجدالات العقيمة سيراهن ويقامر بالمال على من سيفوز منهم ، أو يخسر خلال المواجهات الالكترونية حامية الوطيس بينهم !!
ارحمونا يرحمكم الباري وثوبوا إلى رشدكم ،هذا وتقبلوا تحياتي أنا أخوكم الطائر الحر المحلق خارج السرب، المثرثر بعيدا عن الصندوق ، المحب لكل علماء الأرض في مشارقها ومغاربها على اختلاف أقطارهم وقومياتهم وألوانهم ومدارسهم، فمن شاء أن يحلق مع تغريدتي ويتعاطف معها فليفعل ، ومن شاء أن يرمها بحجر فليفعل ، ومن شاء أن يشيح بوجهه عنها لأنها غير ذات قيمة عنده ومن وجهة نظره فليفعل ..المهم عندي هو أن يكف الجميع عن الخلاف المفرق للامة وهي جمعاء ولاسيما في أوقات المحن والفتن ، وأن يعيد كل منا النظر بنفسه فيما اختلفنا فيه فلعل كلامه صواب يحتمل الخطأ ، ولعل كلام غيره خطأ يحتمل الصواب ،وكلنا بشر نصيب أحيانا ونخطئ أحايين ، ولا عيب ولا قصور في ذلك البتة ، وكفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه ،وإنما العيب في مواصلة الخطأ والاصرار عليه والعناد دفاعا عنه،يرحمكم الباري ويوفقكم الى كل ما يحب ويرضى جميعا، اللهم هل بلغت ، اللهم فاشهد، وفي أمان الله .