في عالم لاتسود فيه العدالة , ولا تحتفظ السياسة فيه بفنها الممكن والمبني على آلية الحرية والتسامح بين الشعوب , وهذا يعني ان العدالة الموجودة على الورق إما تحولت الى نصوص للتفاخر والتمجيد فحسب بنصوصها القانونية المرنة التي تعد بتطوير آلية القضاء على الفساد بشكل عام في المجتمع , واما تحولت الى ند شبح للنصوص المكتوبة , فيقوم هذا الند بخلق التوتر ومن ثم الإستفزاز في مهمة الفرد الذي يحارب الفساد ,
لينقله من الإحتجاج على الفساد الى الرضوخ له بقوانين غير دستورية تتوافق مع رأي رجال القانون في المؤسسات الرقابية المعنية بمراقبة الخروق بالقوانين الشرعية . اما السياسة فقد تحولت , على سبيل المثال , في الجانب المتعلقبعقد المؤتمرات الدولية الخاصة بالعرب , من آلية جمع شمل البلدان العربية للوقوف ضد تطلعات دولة الإحتلال الصهيوني في شن الحروب من اجل تأمين امنها الجيوسياسي ,
الى آلية عقد القمة بهياكل دول خاملة لا تقوى على اتخاذ اي موقف ثورييتجاوز حالة النظر الى دولة الإحتلال من نوافذ الإدانة والإستنكار المألوفة , وهم بذلك لا يدفعون الواقع العربي لكي يخطو بخطوات تؤدي الى إثارة الإزعاج لدولة الكيان , فالقرارات المنبثقه عن هذا الواقع منذ عقد من الزمان , كانت ولم تزل بلا طابع إثارة للعدو وبلا تشخيص لما يقوم به من مجازر بشرية وبشكل علني ,
وذلك يعني ان العرب تبينوا انهم بآلية سياسة خاملة وجديدة لاتشخص مايقوم به العدو من خطط واهداف ترمي الى القضاء عليهم انفسهم , وهذا يؤكد انهم فعلآ اصبحوا دولآ خاملة وبآلية سياسية خاملة , ما تسببت اولآ بتشجع وانتشار الفساد على نحو مستتر بين شعوبها , على الرغم من بلوغ قواها المسلحة المتنوعة بالصنوف التي تمتلكها , اعلى المراتب في التدريب والتكنولوجيا , وكأنها قوى تشكلت للقمع وليس لغيره .
أما السياسة فقد تحولت الى فن الكذب مثلما تحوّلت الحروب الإمبريالية الغربية من حجة ” عبء الرجل الأبيض ” وحجة ” نشر الوعي والتحضّر” في البلدان المتخلفة , الى حجة نشر الحرية والديمقراطية والدفاع عنهما , اما في عالمنا العراقي الصغير الذي صنعته الولايات المتحدة الأمريكية بكذبتها الكبرى اصبحنا نقف موقف الند لبعض الأنظمة العربية والأجنبية من الناحية السياسية والإقتصادية والعسكرية ,
بسبب خضوعها الواضح لإملاءات السياسات الأمريكية والغربية المهيمنة على تلك الدول منذ عهود طويلة , والتي تجاوزت بها في احيان عديدة على سيادة عالمنا بنواح مختلفة , ففي منطقة الخليج العربي , تحوّل مجلس التعاون لدول الخليج العربي , الى حلف معادٍ للعراق لمّا تقترب مصالح قادته الى حافة الإستبداد وخاصة مع عراق بلا اسنان , فهم يعرفونها نُزعت بإنتقائية سياسية كانوا لها متعاونين وداعمين فرحين , بما تعوّدوا عليه من خضوع لأنياب امريكا والصهيونية ,
فتتكشر أنيابهم الصفراء بدلآ عن ابتسامة هوليوود التي يظهرونها في الأحايين الفارغة من مصالحهم وبأجمل مايكون , وهذا ليس غريبآ ان تصنع امريكا لعالمنا الصغير بوابتين ; الأولى يدخل منها الضيوف العظماء , والأخرى يدخل منها الضيوف الجبناء , لأن هناك شعوب اخرى بهاتين البوابتين في الواقع البشري الكبير , الذي استحدثته امريكا لجني الأموال وحلب الثروات كما تفعل هذه الأيام لقادة ذلك المجلس الذي يسير بلا بوصلة حكيمة اوبلوصلة دينية بسبب الخضوع السياسي لأمريكا والصهيونية .
فبالنظر الى عالمنا الصغير , نجد ان الحكومة خصصت بقبضة المشاريع , تنظيم اقنية لبوابة العظماء بما يليق بعاصمة البلاد التأريخية من جمال , امتدت الى مناطق كثيرة , لتعكس بذلك الحرص على ان يتأمل الضيوف انهم في محل تقدير واحترام كما هي عادات العرب الأصيلة قبل الدخول الى ديوان الحوارات ووجهات النظر وكل الإحتمالات السلبية والإيجابية المتعلقة بالأوضاع الحالية , وفي مقدمتها القضية الفلسطينية المتمثلة الآن بقطاع غزة ,
وموجوداته الحاضرة من مجازر بشرية مستمرة يوميآ ومجاعة منتظرة . ولكنينبغي لكل تأسيس بنية اساسية ( = مشاريع ) في أي واقع جديد , ان يسبقه التفكير بالتصدي لأي نقد محتمل من حيث قبول تلك البنية او رفضها , لذلك ومثلما يقول ” هيدجر ” : ان اختلاف الواقع الجديد عن القديم يظل محتجبآ عندما لايدل إلا على إغراق لا حد له في العمى عن العلة الخفية , والعلة الخفية هي ; ان تنفيذ اعمال ومشاريع المسؤول من اعلى منصب الى ادناه , حسب القاعدة التي تنطبق على جميع الأفراد في المجتمع , يجب ان تتلخص بما يأتي ; اولآ , ان يكون صادقآ بالإصلاح وغير مشغول بالتجميل ,
لينفق جهده وماله وطاقته في مايرضي الله , أي ان يسير وفقآ لمبدأ ” كلوا واشربوا ولا تسرفو ” ومبدأ ” المال تحرسه الحكمة ” ليصنع بذلك اثرآ نافعآ له وللمجتمع حتى لو لم يكن مبهرآ في اعين الناس واعين المستفيدين من العمل او المشروع .
ثانيآ , ” ان يكون سلوكه ونواياه واثره في الواقع واضحآ وبعيدآ عن حب العجالة بالتنفيذ ومميزآ بين اقرانه ليكون مشروعه امتدادآ لحقيقته وليس قناعآ لحقيقته ,
ثالثآ , ان يشتري رضا الله ثم رضا الناس تبعآ لحاجتهم لذلك المشروع ومن دون غاية شخصية مستقلة له , لأن الناس لديهم الحدس والفراسة وعيون تراقب مايفعله المرء من مشاريع سواء كانت بنيّة الإصلاح , او بنيّة دفع تهم الفساد عن نفسه , ففي نيّة دفع التهم عن النفس , ثبت من قبل أن هناك لفيف من السياسيين الفاشلين يقومون بتنفيذ مشاريع لدفع تهم الفساد عن انفسهمفحسب , ولا يتبعون السلوك الحقيقي الذي يقرّبهم الى الله والشعب ,
فتراهم فاشلين حتى في إدارة الصراعات المحيطة بالمجتمع وكأنهم خرجوا من اجساد بشرية لادين لها ولا مذهب , رابعآ , أن يدرس المسؤول حماسة المجتمع والمستفيدين من المشروع بشكل مباشر من ناحية , ومدى ارتباطه بالحاجات والمصالح الملحة الخاصة بهم , وهذا يقع على عاتق السياسي المتبني للمشروع , ليكون فعالآ في كسب التأييد الشعبي والدولي وخاصة عند دخول البلاد الى الساحة الإقليمية أو الدولية بأهداف سياسية وإستراتيجية جديدة ,
ولو نختار مشروع إقامة قمة القادة العرب الأخيرفي بغداد كنموذج لما سبق من الحديث , نرى انه جاء وكأنه لإصلاح تهمة وهي الفساد المنتشر بأركان البلاد وخاصة من جراء البعض من السياسيين الصغار الذين لجأوا الى تنفيذمثل هذا النوع من المشاريع ذات البريق الأخّاذ , الذي يجذب المدح والتصفيق وهو في حقيقته للتمويه ودفع التهم عن انفسهم وإغلاق الطريق على المعارضين , لذلك طالته الإتهامات والألسن بالإنتقادات ,
مما شكل تحديآ للسيد السوداني من ناحية التخصيص المالي المبالغ به وبجدول الكميات المليء بالترف لغرض الجذب الإرستقراطي , ليجعل من السيد السوداني ان يسأل نفسه ; مالسبب الحقيقي الذي جعلني في زاوية الظن والإتهام ؟ وما الخلل في الظروف الاجتماعية الحالية , وفي النيّة وفي الأهداف المعلنة للمشروع الذي اقيمه ؟
ليلقى الإجابة وهي ; ان لايركض خلف الزينة الظاهرة ولا وراء المشاريع المبهرة شكليآ ويكون مشغولآ بها كأنه يسعى الى دفع تهمة الفساد عن نفسه من ناحية ,
بل ان يراقب الفاسدين الذين خرجوا من اجساد لا دين لها ولا مذهب وانتشروا في كل مفاصل الدولة , ويختار لهم العين الحمراء , ويراقب الكادحين من الشعب لأنه وعشيرته منهم ليقلب الصورة السلبية عن الشعب العراقي العظيم بالحق , الى صورة إيجابية خالية من التمزق , فالزينة الظاهرة التي مارسها من قبل قادة من الدول المتخمة بالتبعية للإستعمار , جعلتهم خاضعين ليسقطوا في احضان الإبتزاز الأمريكي والصهيوني ,
وهاهم الى الآن كالعبيد يبنون لأسيادهم القصور لإستقبال قادتهم ليغدقوا عليهم بالهدايا المليارية , ليشتروا رضاهم في مقابل بقائهم بالسلطة وبالترف الذي صنعوه بلاءآ لأنفسهم , لذلك تجاهل البعض من القادة الدخول من بوابة العظماء الى قمته المنعقدة بشتى التبريرات المذهبية والطائفية والسياسيةوبسوء التمييز بين الأخ والعدو من ناحية , لأنهم يعرفون انهم لايستحقونها , فضلآ عن كونهم لايحملون الهمّ الفلسطيني ,
كما حملوا همَّ انفسهم بالبقاء على السلطة عندما استقبلوا رجل الإرهاب الأول بالعالم , بالمنطقة بحفاوة بالغة خارجة عن العقلانية وعن مسار احترام الشعوب التي عانت من جرائمه السابقة وخاصة العراق من ناحية اخرى , فأشتروا له طيب الخاطر من الرئيس ترامب وأزالوا من امامه العقوبات الإقتصادية بتلك الدوافع وليس غيرها ,
علمآ ان هؤلاء العبيد كانوا يعلمون ان الجولاني كان صديق الولايات المتحدة اثناء الصراع مع النظام السوري ,
وكانوا يقدمون له المساعدة بتوجيهات منهم احتجبوها عن الإعلام , وهذا اكبر مبرر للحكومة العراقية ان لاتدعوا الجولاني للإشتراك بالقمة العربية الموعودة يوم 17 مايس , لأنه ومعه الداعمين لايستحقون ان يطأوا ارض العراق من تلك البوابة , لأنهم بهذا الدعم للجولاني بدا واضحآ عليهم انهم غيّروا مواقفهم السابقة , بل انقلبوا ثانية الى المسار القديم والى ما اعتمل في نفوسهم من كره وإقصاء للعراق , إذ لا احد لا يقر ان ارواحهم قد انصهرت بالولاء للإرهاب ولأمريكا والصهيونية ,
للبقاء على الحياة الباذخة التي يعيشونها , ولا فائدة مرجوّة منهم , بعد ان وجدوا رجل الارهاب الذي اختاروه ودعموه بالأموال قد اعتلى سدة الحكم في سوريا , فتذبذبوا عن الحضور الى القمة متذرعين بأعذار ابتزازية لها مساس بالسيادة العراقية , وخاصة في قضية خور عبد الله المتنازع عليه بين العراق والكويت الشقيق , متناسين ان موقف العراق كان منذ تولي السوداني منصب رئاسة الوزراء , كان يركز على بناء توازن دبلوماسي بينه وبين العرب ,
فضلآ عن عودته الى الحضن العربي والتمسك بالهوية العربية بوعي ونضج سياسي جديد لصنع بيئة تعاون جديدة كخيار يفرض توحيد الصف وان كانت بعض هذه الدول بمثابة هياكل خاملة إلا انها افضل من الفراغ التام , وهاهو ينظم جهوده السياسية وخاصة في عقد مؤتمر القمة على اساس ذلك الجوهر والمنظر , لأن العراق عانى كثيرآ من عبء الماضي المؤلم والفاجع , الذيجرّه الى تقديم الشهداء الكبار عند الله ,
ومن المؤسف ان يكون هذا الشعب في محل اقصاء من البعض والسخريةالمبطنة على الرغم مما يفعل , ولايوجد من يقدره سواء من اخوة مجاورين جبناء, او من دول اخرى هي بالأصل لاتحمي عقالها من امريكا والصهيونية , فضلآ عن سياسيين فاسدين يحاولون , خاسئين , انتزاع مكانته التأريخية او تقسيم اراضيه بأفعالهم الرخيصة , بينما الأجدر ان يعتلي قمم المجد بتأريخه, وامجاده وابطاله الذين نالوا اعجاب الكون بشجاعتهم وبسالتهم وهم يدافعون عن العراق ,
ضد عدو كافر تلبّس بثوبين , ثوب الإسلام زيفآ وكذبآ , وثوب القتل والبطش من اجل الزنا والغنوم واقتراف المحارم , ولعل سائل يسأل ; كيف إذن يعتلي العراق قمم المجد ثانية وبالنظام السياسي نفسه ؟ الجواب ; أولآ , ببناء نظام سياسي بإكتفاء اقتصادي ذاتي وقدرة حماية ذاتية , ومنفتح بشكل انتقائي بعلاقات سياسية مدروسة ذات مصداقية داخلية وخارجية مستقلة . ثانيآ ;تثبيت الإستقرار الحالي بعيدآ عن ضغوط الإستقطاب والصراعات الإقليمية ,
ثالثآ ; حماية القرار السيادي من تأثيرات المحاور والمساومات الإقليمية. رابعآ ;التركيز على التنمية الداخلية العقلانية دون استنزاف للموارد المالية والبشريةبالمغامرات والعواطف الخارجية , خامسآ ; المحافظة على الحياد الدبلوماسي لتعزيز قبول البلاد لفرص الوساطة والقبول الدولي , وهذا ماتفعله دولة عُمان الشقيقة بعيدآ عن نفوذ السياسات الإقليمية المتقلبة . سادسآ ; الحد من التدخلات الأجنبية التي تنفذ دائمآ من الدول الإقليمية ,
والإنفتاح على العالم وخاصة جمهورية الصين بشروط متوازنة , كما فعلها السيد عادل عبد المهدي , من اجل التنوع في مصالح الدول الموجودة داخل العراق , سابعآ ; تعزيز السيادة بكل ابعادها الجيوسياسية وذلك بتقليل عدد السياسيين
المرتبطين اجتماعيآ مع شعوب الدول الإٌقليمية في الترشح ضمن وفودتفاوضية ترتبط بمشاكل الحدود والسيادة الوطنية واعتبار ترشّحهم خط احمر إلا على اهل الإختصاص ,
وهؤلاء يتم ترشّحهم بتزكية برلمانية موثّقة تبيّن عدم ارتباطهم بتلك العلاقات الإجتماعية المتعلقة بالدول المجاورة , ثامنآ ; تعزيز ثقة المواطن بمؤسساتهالوطنية وخاصة الرقابية عندما يراها تعمل للمصلحة العليا للوطن وتحت مظلة قوانينه الدستورية , وهذا يعني إقتلاع الفساد المستشري بها من جراء تدخل الفاسدين المرتبطين بأجندات عابرة للحدود ولايعجبهم ماورد اعلاه . تاسعآ ;بتنفيذ هذه العوامل , ينمو نموذج سياسي فريد ,
يتسم بالتوازن من جراء شرعيته وليس من جراء اصطفافه مع العبيد , كما يمنح هذا النموذج الكرامة للدولة العراقية وخاصة بالموقف من ناحية , وهيبة في نظر مواطنيه والعالم , وتغلق به ابواب كثيرة , اهمها باب الفساد وباب التدخلات التي شوّهت علاقات العراق مع العالم ومع شعبه , وباب النقد وسفاهة وثرثرة اعداء العراق بالقنوات الإعلامية من ناحية اخرى , وبشرط ان لاينخرط في محاور مع فلان ضد عِلان , عندئذ , سيجد المتسائل مع نفسه , الراحة والرضا .
ختامآ , ان الإصرار على عدم تحويل مضمون اكثر القمم العربية الى اداة فعالة وبإرادة سياسية حرة وشجاعة وموحدة , والبقاء على مقررات تصلح ان تتم بواسطة التلفون بدلآ عن تداولها تحت سقف تلك الأداة , لتكون ابعد منالآ من تحقيق اي شيء للقضية الفلسطينية , هو ازدياد عدد الدول التي تحولت الى هياكل سياسية خاملة بسبب ولائها للسياسات الأمريكية , وتمزّق دولآ اخرى بسبب الولاءات المرهونة بالمصالح الإقليمية والدولية وخاصة امريكا ,
ولكن مع ذلك نرى السيد السوداني مصرّآ على الإبقاء على تكرار هذه القممكإرث احتفالي وإطار تنسيقي لمواقف العرب , ولو رمزيآ , وبابآ مفتوحآ لا يستغنى عنه تمامآ لذلك , فقد تأتي ظروف تفرض توحيد الصف , او على الأقل تمنع التمزق الكامل , واحيانآ يأمل ان وجود هذه الهياكل وإن كانت خاملة هي افضل من الفراغ التام كما اسلفنا , وإن كان مايأمله , كمن يأمل من المرأة العقيم ان تلد ذكرآ , إلا اننا مؤيدين لهذا الأمل ان يتحقق بخطوات عملية تترجم الى دعم حقيقي على الأرض تجاه فلسطين العزيزة .