تشير الدراسات والكتب التاريخية إلى أن المجتمع الفلسطيني، قبل عام 1948، كان نموذجًا للتعايش السلمي بين يهود ومسيحيين ومسلمين، ضمن نسيج اجتماعي مترابط قائم على التسامح والتكامل. ولكن هذه الصورة الإنسانية انقلبت رأسًا على عقب مع تأسيس الكيان الإسرائيلي في ذلك العام، حيث بدأت سياسات التهجير والتمييز العنصري والتفتيت المنهجي تدمر هذا الانسجام، مفسحة المجال لصراعات وانقسامات داخلية ممنهجة وعميقة غيرت معها وجه فلسطين إلى الأبد.
ورسخت إسرائيل لوجودها المستقبلي في العقل الجمعي اليهودي مفهوم يعبر عن رؤيتها كدولة يهودية خالصة، وتتناقض مع محيطها العربي الرافض لوجودها. هذا الرفض القاطع، والمرتكز في حينها على مشتركات الوحدة العربية والتي كانت من اساسياتها قائمة على الانتماء الديني والقومي والهوية واللغة الجامعة، شكّل منذ بدايته تهديدًا حقيقيآ ووجوديًا لها. ولتثبيت أركانها بين مختلف تيارات المحيط العربي المضطرب، اعتمدت بدورها إسرائيل على استراتيجية خبيثة ترتكز بصورة مباشرة على بث روح التفرقة بين الدول العربية بالإضافة لاستغلال الخلافات والنعرات الطائفية والمذهبية ، وبث روح العداء والخلافات بين أبناء المجتمع الواحد، وتأجيج الصراعات الداخلية لتحقيق مكاسب استراتيجية طويلة الأمد يحافظ على وجودها وكيانها المصطنع وسط هذا المحيط العربي الرافض لها. واليوم، مع تشكّل حكومة سورية جديدة، تتكشف يوما بعد يوم التحذيرات من مخططات إسرائيلية لإعادة إشعال فتيل الحرب الأهلية وتمزيق نسيج فسيفساء المجتمع السوري وبشتى الطرق المخادعة والأساليب المتاحة لها؟.
وهذا ما تكشفه لنا من خلق احداث مدروسة بعناية ومخطط لها ومفتعلة بين الحين والآخر وما تشهد منطقتا أشرفية صحنايا ومدينة صحنايا بريف دمشق، منذ أيام، من اشتباكات مسلحة مفاجئة بين قوات الأمن العام السورية، مدعومة بوزارة الدفاع، ومجموعات مسلحة مجهولة الهوية استهدفت نقاط تفتيش ومواقع أمنية تابعة لوزارة الداخلية . هذه الأحداث، التي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 16 عنصرًا أمنيًا وإصابة العشرات واتسمت معها بتدخل جوي إسرائيلي مثير للريبة، حيث قصفت طائرات مسيرة إسرائيلية مركزًا ونقاط تفتيش تابعة لوزارة الداخلية السورية لدعم الجماعات المسلحة لفرض سيطرتها بالقوة على المنطقة ، وفي خطوة تكشف عن أجندة خفية تهدف إلى إشعال فتيل الفتنة الطائفية وأبعاد خطيرة لمخطط يستهدف تمزيق فسيفساء النسيج الاجتماعي السوري.
هذه الاشتباكات، التي اندلعت على خلفية توترات طائفية مفتعلة ومرتبطة بتسريب مقطع صوتي لأحد شيوخ الدروز مسيء للنبي محمد (ص) وهو ما تبرع به مختلف العناوين الوظيفية لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وتندرج ضمن استراتيجية مدروسة تهدف إلى إشعال الفتنة الطائفية وتغذية الانقسامات الداخلية وتم ترجمتها حرفيا من خلال بيان الجيش الاسرائيلي حيث سارع الى الاعلان رسميًا عن تنفيذ غارات “تحذيرية” تحت ستار وبحجة حماية الأقلية الدرزية، ولتكشف معها ومن خلال تدخلها العسكري عن نوايا مسبقة خفية , تتماشى مع رؤيتها لـ”شرق أوسط جديد” يتكون بالدرجة الاساس ومن خلال ايجاد وإنشاء دويلات طائفية واثنية صغيرة ومبعثرة، يسهل السيطرة عليها وإخضاعها عبر سياسات الترغيب والترهيب.
هذه الاشتباكات المسلحة وكما يحاول ان يصورها البعض في الاعلام بانها مجرد نزاع محلي، بل في حقيقته يعتبر جزء من هدف لمخطط إسرائيلي مدروس لزعزعة استقرار سوريا وعبر إيجاد شرخ ومنفذ للانقسامات الطائفية والعرقية والإثنية. والهدف الاستراتيجي هو محاولة تشتيت وتمزيق النسيج الاجتماعي السوري وإعادة تشكيل الخريطة الجغرافية للمنطقة بما يتماشى مع رؤية “الشرق الأوسط الجديد”، حيث تتفتت الدول إلى كيانات طائفية ومذهبية ضعيفة وممزقة حتى فيما بينها، يسهل السيطرة والتحكم بها والتي تسعى لإضعاف أي وجود محتمل لكيان عربي موحد يكون غير خاضع حتى ولو بالقوة العسكرية ، وترى اليوم في سوريا الموحدة والقوية والتفاف مختلف النسيج الاجتماعي حول حكومتهم الوليدة عائقًا رئيسيًا أمام تحقيق هذه الرؤية التقسيمية.
إسرائيل، وبحسب دراسات استراتيجية أعدها مفكرون وسياسيون إسرائيليون على مدى عقود، تسعى لخلق محيط عربي ممزق يشبهها في تشتته الطائفي والاثني . هذا المخطط الماكر يهدف إلى تفكيك الدول العربية المجاورة إلى كيانات و كانتونات صغيرة متناحرة فيما بينها طوال الوقت ، وذلك عبر مخطط لدعم الأقليات مثل الدروز، العلويين، الأكراد، الشيعة، المسيحيين، الإسماعيليين، وغيرهم، تحت ذريعة حمايتهم من “اضطهاد” الأغلبية السنية . والهدف؟ يتركز في إضعاف الكيانات القومية الكبرى التي قد تشكل خطرًا سياسيًا أو ديمغرافيًا وجوديا على مستقبلها ، وخلق بيئة طائفية مشتتة تُسهّل السيطرة عليها عبر أساليب الترغيب والترهيب .
في سوريا اليوم ، تتجلى هذه الاستراتيجية في محاولات إسرائيل محمومة لزعزعة استقرار الحكومة الجديدة عبر استغلال التوترات الطائفية ودعم الانفصاليين بين الحين والآخر . وتكشف معها عن تحركات خفية تشمل شراء ذمم بعض القادة الدينيين والسياسيين المحليين لترويج أفكار تقسيمية تحت ستار التهميش والاضطهاد ، وإلى جانب حرب نفسية تستهدف إحياء الانقسامات القديمة وجعلها منبرآ للدعاية التقسيم . هذه التحركات الخبيثة ليست سوى جزء من خطة أوسع لإعادة سوريا إلى مربع الفوضى ، حيث يصبح شبح الحرب الأهلية وشيكًا، مما يخدم أهداف إسرائيل المستقبلية في إضعاف جبهة عربية موحدة.
ولذا يجب على الحكومة السورية الجديدة وباسناد ودعم والعمل مع جميع مكونات المجتمع لفضح مثل تلك الاساليب والتحذير منها والعمل على التثقيف لها وسط العقل الجمعي السوري وتوخي الحذر من هذه المخططات التي تسعى لتحويل سوريا إلى ساحة صراعات إثنية ومذهبية. وإسرائيل، باستراتيجيتها القائمة على “فرّق تسد” سوف لا تكتفي فقط بالتلاعب بالهويات ، بل تسعى لخلق كيانات طائفية (ظاهرها) تكون “مستقلة” و(باطنها) مسيطر عليها كليآ لتُبرر وجودها كدولة يهودية استثنائية، وتُضعف أي إمكانية لظهور دول عربية قوية قادرة على مواجهة طموحاتها التوسعية.
إن استمرار إسرائيل في هذا النهج الخطير يهدد ليس فقط سوريا وحدها، بل استقرار المنطقة برمتها. المطلوب اليوم هو وعي جمعي يتصدى لهذه المحاولات عبر تعزيز الوحدة الوطنية فيما بين المجتمع ، ورفض أي دعوات تقسيمية، والتصدي لأي محاولات لإحياء الصراعات الطائفية. فالنسيج الاجتماعي، بكل تنوعه وتفرعاته وتوجهاته، سيكون دون شك هو خط الدفاع الأول ضد هذه المخططات الخبيثة التي تهدف إلى إغراق المنطقة في دوامة من الفوضى والتشتت والحروب الداخلية.
أن التدخل الإسرائيلي المباشر في صحنايا، تحت ستار ذريعة “حماية الأقليات” من الاضطهاد والتهميش يكشف عن استغلال ممنهج وخبيث للتنوع الطائفي في المنطقة. هذه التحركات تهدف إلى تحويل سوريا إلى دوامة مفتوحة وساحة صراعات مذهبية لا تهدأ ، مما يمهد لإنشاء دويلات طائفية تخدم المصالح الإسرائيلية وتضمن بقاءها كدولة استثنائية وفي ايجاد وإدامة محيط عربي مشتت وممزق . والسلطات السورية يجب عليها العمل مع وجهاء والقادة السياسيين و الروحيين والشيوخ وعلماء الدين للدعوة العامة إلى التصدي لهذه المحاولات عبر تعزيز وبث روح الوحدة الوطنية ونزع فتيل التوترات حتى قبل أن تشتعل.
وأمام هذا التصعيد الخطير الذي نشاهده حاليا ونتابع أحداثه عن كثب والذي نتوقع بصورة أكيدة بانه سوف لن يكون الأخير حتما وما يخبئه المستقبل او الايام القادمة قد يكون اكثر خطورة من احداث صحنايا، ولذا يتعين على قادة الحكومة السورية والمجتمع بكل مكوناته العمل المشترك والتصدي بحزم لمحاولات إعادة إشعال فتيل الحرب الأهلية . ولان وحدة سوريا غير منقسمة على نفسها يعتبر بمثابة حائط صد وخط الدفاع الأول ضد مخططات التفتيت التي تسعى إسرائيل لفرضها، وليس فقط على سوريا، بل على المنطقة بأسرها. إن إفشال هذه الأجندة يتطلب وعيًا جماعيًا يشترك في بلورته الجميع وبدون اي اقصاء او تهميش طرف على طرف آخر ، ورفضًا قاطعًا للدعوات التقسيمية التي تنطلق بين الحين والآخر ، وتعزيزًا وإيجاد سبل للتعايش السلمي كضمانة اكيدة وفعالة لاستقرار البلاد وإحباط مخططات وأطماع مختلف القوى الخارجية.
وأخيرآ وليس أخرآ تكشف التصريحات المبطنة للمسؤولين الإسرائيليين ,وقراءة ما بين سطور جمل وعبارات تصريحاتهم عن رؤية استراتيجية خبيثة تهدف إلى تحويل سوريا إلى دويلة وليس دولة بمفهومها المعاصر الحضاري وبلا جيش قوي، تكون شبه منزوعة السلاح، ومستبعدة نهائيًا من صفوف دول الطوق والمواجهة. هذا المخطط الذي تسعى اليه اليوم وحتى في المستقبل ويخدم طموح إسرائيل الأوسع في إعادة تشكيل المنطقة وفق صياغة رؤيتها التلمودية ، وعبر إنشاء خريطة جيوسياسية جديدة تضمن هيمنتها الإقليمية المطلقة وتحكم قبضتها فيما بعد . ومن خلال إضعاف القدرات العسكرية السورية وأشغالها دائما بالانقسامات الداخلية، وتسعى لتحييد سوريا كقوة مقاومة قد تكون فعالة ومؤثرة في المستقبل, وهذا ما تخشاه حاليآ اسرائيل ، مما يتيح لها التفرغ لفرض واقع جديد يتماشى مع أهدافها التوسعية ويرسخ سيطرتها الكلية على المنطقة وبدون أن يكون لها أي منازع.