21 ديسمبر، 2024 7:21 م

بين محتج ومتسائل، واجهني عدد من الاصدقاء وغير الاصدقاء بشان  لقاء اجري معي دعوت فيه   اي انسان مهما كان تخصصه لقراءة كتاب – فن الممثل – لستانسلافسكي . هناك من راى في ذلك تهكما على  الاوضاع العامة متصورا ان هذا اسم مجهول لاوجود له  ! ، وهناك مَنْ عدّهُ حنينا عتيقا الى المسرح والفن والنقد ومقاعد اكاديمية الفنون الجميلة بداية الثمانيات بعد ان جرفنا الهروب والمنفى والحديث في السياسة الى حضيضها . وهناك من ذهب بعيدا بالقول:  (هذا اذا ضاج يحجي كلشي)، لكني لم اكن جادا كما كنت خلال دعوتي تلك لفهم واحد من اعظم قرّاء النفس البشرية ، خالق المشاعر ومبتكر غموض واسرار الفعل ورد الفعل نفسيا وبدنيا معا . مرجع المناهج المسرحية التي عنيت بفن التمثيل – الحقيقي –  في القرن التاسع عشر ، معلم المسرح الحديث ومؤسس ستديو الممثل،انه ( كوسنانتين سيرجيفيتش ستانسلافسكي  1863- 1938 ) .
خلّف ستانسلافسكي كتابا فريدا هو (فن الممثل) وسلسلة من تجاربه مع تلاميذه في كتابه البارع –  حياتي في الفن –  كلها تتصل بعمل الممثل مع نفسه ، وتفاصيل كثيرة جدا حول هذا الفن المركّب الذي يرفع صاحبه منازل عليا وهو يتقمص شخصيات غير شخصيته، مختلفة الطباع والمواقف بكل تحولاتها وانفعالاتها في ما اصطلح عليه (بالمعايشة) . (المعايشة) اذن ، مفتاح دعوتي الناس للاطلاع على هذه التجارب الثمينة ، الصعبه  التي لن يغني مقالنا الموجز هذاعن الذهاب مباشرة الى عوالمها الرحبة .
فالمعايشة وتقمص شخصية اخرى في وظيفتها وطبيعتها وتلمس ردة الفعل الانفعالية لحظة مواجهتها مواقف في حياتها، ووضعُ نَفسِكَ دائما مكان الاخر كأنك هو، لو اجادها الناسُ جميعا  لفهمو كيف يفكر الاخرون ، لماذا يتحسسون،  بماذا يعتقدون ومتى ينفعلون ، ولقاسموهم حتى مآسيهم، وساهموا معهم في تجاوزها او التخفيف من وطاة تاثيرها ، ولأوقفْنا العمل بالامثلة  الشائعة عن فردية مواجهة المآسي اليومية . (اللي ايده بالماي مو مثل اللي ايده بالنار ) ( وماحك جلدَك مثلُ ظفرك )  وكيف ان الانسان لايشعر بالظلم  او فقدان عزيز الا حين يقع عليه شخصيا، ومفاهيم كثيرة  تدل على  ان الناس لاتحس ببعضها ولاتقدّر ماسيها ولاتتوانى عن اهمالها اوجرح كرامتها ومس معتقداتها ،ولا تفكر لحظة (بمعايشة) حالها .
انه عالم افتراضي عميق معقد ،  لكننا هنا نستدرجه للواقع الانساني،ولذلك حين يتدرب   الانسان – اي انسان مهما كان تخصصه – على المعايشة والتقمص والذاكرة الانفعالية ، يستطيع استحضار الاخرين ملوك، موظفين، محاربين، مراجعين، زبائن، مدراء، نساء، رجال، ضحايا جلادين، لصوص، مؤمنين ،ملحدين،مدمنين   مهجّرين ،قضاة ، نازحين،  موالين ، معارضين،   سيعرف بالفعل كيف يفكرون وماهي امراضُهم او معاناتهم وكيف ينبغي التعامل معهم حسب الموقف المناسب تماما ،وسنستبدل تلك الامثال البائسة بالمثل ( حُط ايدك على قلبك كلّ القلوب سوى )  . هل كنت مخطئا وانا ادعو ستانسلافسكي من القرن التاسع عشر الى السوق اليوم، وادعو الناس لان تلتقيه وتتعلم من دروسه مبدأ المعايشة و فلسفة التقمص ، ومعرفة الآخر و شيء ولو بسيط من اسرارالنفس البشرية ؟ ام انني فعلا ( اذا ضجت احجي كلشي)؟