شهدت فنلندا تحولات جذرية في تموضعها الجيوسياسي خلال العقود الأخيرة، حيث انتقلت من دولة محايدة تلعب دور الوسيط بين الشرق والغرب إلى عضو رسمي في حلف الناتو. هذا التحول، الذي جاء في سياق التغيرات العميقة التي طرأت على النظام الدولي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، يحمل في طياته انعكاسات عميقة على مكانتها الدبلوماسية والأمنية. فبينما كان هذا الانضمام وسيلة لتعزيز القدرات الدفاعية، فإنه جرّد فنلندا من أحد أهم أوراق قوتها الناعمة: الحياد الدبلوماسي الذي طالما منحها مكانة الوسيط الموثوق به بين المعسكرات الدولية المتصارعة.
يمكن أن يكون الحياد خيارًا مؤقتًا أو دائمًا في السياسة الخارجية. قد تختار الدول طواعيةً الحياد أو تُجبرها دول أخرى على ذلك. في الحالة الفنلندية، ترتبط سياسة الحياد ارتباطًا وثيقًا بمعاهدة الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة مع الاتحاد السوفيتي، والتي شكلت أساس علاقاتهما الثنائية بين عامي 1948 و1992. وقد أدى ذلك إلى نشأة تقليد فريد يجمع بين معاهدة الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة والحياد: فمن جهة، قُدِّم الحياد كفضيلة، ومن جهة أخرى، رُوِّج له بدافع الضرورة. وفقاً للأختبارات الدولية التي إجتازتها فنلندا بجدارة، اتبعت فنلندا سياسة الحياد للحفاظ على استقلالها وتجنب الانجرار إلى صراعات بين الكتلتين الشرقية والغربية. ومن خلال دبلوماسية بارعة وسياسات رعاية اجتماعية، نجحت فنلندا في الانضمام إلى مجلس دول الشمال الأوروبي (1955) وبناء علاقات وطيدة مع الغرب. ومع ذلك، كان الحياد الفنلندي ضعيفًا ومثيرًا للشكوك بشكل خاص في نظر كلتا الكتلتين. بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي، تغير الموقف الفنلندي بشكل كبير – حتى مع استمرار فنلندا في البقاء خارج التحالفات العسكرية. في عام 1995، أنهت عضوية فنلندا في الاتحاد الأوروبي رسميًا حيادها الذي حددته لنفسها وحل محله التزام قوي بعدم الانحياز العسكري. منذ عام 1995، أكدت التقارير الحكومية المتعلقة بالسياسة الخارجية والأمنية والدفاعية على أهمية عضوية الاتحاد الأوروبي وعدم الانحياز العسكري – على الرغم من أن فنلندا طورت شراكة وثيقة وقابلية تشغيلية مشتركة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) وشاركت في أشكال مختلفة من التعاون العسكري الدولي ومهام إدارة الأزمات. كما قامت فنلندا بتقييم مستمر للتغيرات في بيئتها الأمنية وعواقب الانحياز العسكري من خلال التقارير والدراسات، وتم الحفاظ على خيار الناتو في البرامج الحكومية.
فمنذ الحرب العالمية الثانية، اعتمدت فنلندا سياسة الحياد الإيجابي كضمانة لأمنها القومي في ظل الجوار الروسي. وقد مثّل هذا الحياد حجر الزاوية في ما عُرف بـ”الفنلدة”، وهو نموذج قائم على التوازن الدقيق بين الشرق والغرب، أتاح لها لعب أدوار دبلوماسية ووساطية فاعلة في الساحة الدولية. طوال عقود، حافظت فنلندا على موقعها كوسيط موثوق في النزاعات الدولية، مدعومة برموز كمارتي أهتيساري، الحائز على جائزة نوبل للسلام، ومبادرات مثل “مجموعة أصدقاء الوساطة” في الأمم المتحدة. وقد توجت هذا الدور بتأسيس مركز وطني للوساطة عام 2020، وتركيز جهودها على إشراك النساء والشباب والدبلوماسية المائية.
إن انضمام فنلندا إلى الناتو، والذي شكّل قطيعة مع سياستها التقليدية كدولة محايدة، يتجاوز كونه تحولًا عسكريًا فقط. فقد فتح الباب لتحديات جديدة على الصعيد الجيوسياسي، من بينها احتمالية زيادة التوترات مع روسيا على الحدود الفنلندية. في الوقت ذاته، فقدت فنلندا جزءًا من استقلالها السيادي الذي كانت تتمتع به تحت غطاء الحياد، إذ أصبحت ملزمة بتعهدات عسكرية وسياسية واقتصادية مع حلف الناتو. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى هذه الخسارة الاستراتيجية كعائق أمام قدرة فنلندا على المناورة في المستقبل، خصوصًا في مجال الوساطة الدولية، الذي لطالما كانت تلعب فيه دورًا محوريًا.
لقد كانت فنلندا على مر العقود منصة موثوقة للمفاوضات بين المعسكرين الشرقي والغربي، وهو ما تجسد في استضافتها لقمم أمريكية روسية عديدة بين عامي 1975 و2018. هذه المكانة الخاصة لم تأتِ محض صدفة، بل كانت نتيجة لسياسة خارجية متوازنة وضعت الحياد كركيزة أساسية لبقاء الدولة في منطقة ضبابية بين الشرق والغرب. إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022 قلب المعادلات، ومن ثم كانت الخطوة التالية في هذا التحول هي انضمام فنلندا إلى الناتو في عام 2023، وهو ما شكل تحولًا استراتيجيًا يعكس تراجعًا للحياد الفنلندي إلى الخطوط الأمامية للمواجهة مع روسيا.
لكن الانضمام إلى الناتو لم يقتصر على الجوانب العسكرية فقط، بل جاء أيضًا مع تداعيات اجتماعية واقتصادية ملحوظة. فمن الناحية الاجتماعية، لم يكن التحول مرحبًا به من قبل جميع الأطراف، حيث أصبح واضحًا أن الحكومة الفنلندية اتخذت إجراءات صارمة ضد الجالية الروسية المقيمة في البلاد. تم فرض قوانين تسمح للحكومة بالاستيلاء على الممتلكات والشركات الروسية في فنلندا، وهو ما أثار تساؤلات حول مدى توافق هذه الإجراءات مع مبادئ القانون الدولي، خاصة في حالة انتهاء النزاع الروسي الأوكراني. هذه التدابير قد تثير توترًا طويل الأمد في العلاقات بين فنلندا وروسيا، مما يضع الحكومة الفنلندية في موقف صعب في حال سعى الطرفان إلى بناء علاقات جديدة بعد نهاية النزاع. أما اقتصاديًا، فشهدت فنلندا مكاسب من اندماجها في السوق الغربية، مقابل تحديات القطيعة مع شريكها التجاري التقليدي، خاصة في قطاعي الغابات واللوجستيات الحدودية.
من جهة أخرى، إن انخراط فنلندا في التحالف الغربي عزز من موقفها الدفاعي على المدى القصير، ولكنه، في الوقت ذاته، أضاف أعباء اقتصادية جديدة، حيث اضطرت الحكومة إلى إعادة تخصيص الموارد المالية لمصلحة الإنفاق العسكري، مما أثر على قطاعات أخرى مثل التعليم والرعاية الاجتماعية. كما انعكس هذا التحول في الرأي العام الفنلندي، حيث ارتفعت نسبة التأييد لانضمام فنلندا إلى الناتو من 20% إلى أكثر من 80% في غضون عامين، مما يشير إلى تحول جذري في التصورات الأمنية.
وعلى الرغم من هذا الاصطفاف الاستراتيجي مع الغرب، لم تتخلَّ فنلندا عن دورها التقليدي كوسيط دولي. ولكن هذا الدور أصبح مهددًا، حيث بدأت بعض الدول الأخرى في المنطقة مثل النرويج وسويسرا، إضافة إلى دول الشرق الأوسط مثل السعودية وقطر وعمان، في تعزيز أدوارها كوسطاء دوليين. ويعكس هذا التحول فراغًا نسبيًا تركه تراجع الحياد الفنلندي، وهو ما يطرح تساؤلات حول مستقبل الوساطة الدولية في ظل هذه الديناميكيات المتغيرة. إنَّ التحّول يطرح تساؤلات حول مستقبل الوساطة العالمية في ظل تآكل نماذج الحياد التاريخي. وهنا يكمن التحدي الأكبر: كيف يمكن لدولة أن تبني أمنها دون أن تفقد سيادتها أو تخسر دورها في صنع السلام؟
في النهاية، يمثل هذا التحول في السياسة الفنلندية نقطة تحول تاريخية، غير أن تساؤلات تبقى قائمة حول مدى قدرة فنلندا على تحقيق توازن بين تأمين مصالحها الأمنية مع الحفاظ على مكانتها كداعم للسلام، خصوصًا في ظل تزايد التدخلات الدولية من القوى الناشئة التي تسعى للعب دور أكبر في تسوية النزاعات العالمية. كيف ستستجيب فنلندا لهذا التحدي، وكيف ستواجه تداعيات الإجراءات ضد الجالية الروسية، تظل أسئلة مفتوحة ستكشف عنها الأيام المقبلة.
فنلندا من الحياد إلى الاصطفاف: تحولات جيوسياسية وارتدادات دبلوماسية
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مثّلت فنلندا نموذجًا فريدًا للحياد الإيجابي، حافظت من خلاله على توازن دقيق بين الشرق والغرب، ونجحت في لعب أدوار دبلوماسية ووساطية محورية، تجلّت في استضافتها لأربع قمم أمريكية-سوفيتية/روسية بين 1975 و2018، ومبادرات نوعية كـ”مجموعة أصدقاء الوساطة” ومركز الوساطة الوطني (2020). كان هذا الموقع ثمرة سياسة خارجية متزنة ومعاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفيتي (1948-1992)، التي أسست لفكرة “الفنلدة” كضمانة للأمن القومي في ظل جوار روسي مقلق.
غير أن الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 شكّل نقطة تحوّل استراتيجية. في 2023، أنهت فنلندا حيادها التاريخي وانضمت إلى حلف الناتو، في تحول غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، نقلها من “منطقة عازلة” إلى “خط تماس أولي” في مواجهة روسيا. ورغم ما وفره هذا الانضمام من مظلة ردع عسكرية، إلا أنه أضعف أهم أوراق قوتها الناعمة: الحياد والمكانة كوسيط دولي موثوق.
هذا التحول الجيواستراتيجي ترافق مع إعادة هيكلة شاملة في البنية الدفاعية، تعاون عسكري مع الولايات المتحدة والسويد، انسحاب من الاعتماد الطاقي على روسيا، وربط البنية التحتية بشبكات الغرب. داخليًا، شهد الرأي العام تحولاً جذريًا، إذ ارتفعت نسبة تأييد الناتو من 20% إلى أكثر من 80% خلال عامين، مما يعكس تبدلاً عميقًا في التصورات الأمنية الوطنية. لكن الانخراط الأطلسي لم يخلُ من أعباء: تكاليف اقتصادية بسبب القطيعة مع روسيا، ضغط على الموازنة العامة نتيجة تصاعد الإنفاق الدفاعي، ومخاطر استقطاب سياسي إقليمي.
سياسيًا، أفقد هذا الاصطفاف فنلندا دورها كمنصة تفاوضية حيادية. إذ بات من الصعب على موسكو وواشنطن معًا اعتبار هلسنكي ساحة موثوقة للحوار، ما أفسح المجال لصعود بدائل دبلوماسية. ففي حين حافظت دول مثل النرويج وسويسرا وإيرلندا على مواقعها كوسطاء محايدين، برزت دول الشرق الأوسط، وعلى رأسها السعودية وقطر وسلطنة عمان والإمارات، كلاعبين جدد في الوساطة الدولية، مستفيدين من علاقات متوازنة وخبرات تراكمية في التفاوض متعدد المسارات. استضافة الرياض ومسقط مفاوضات أمريكية-روسية عام 2025 مثال على هذا التحول.
اليوم، تتساءل نخب فنلندية عديدة: هل وفّر الانضمام للناتو ضمانة أمنية حقيقية، أم أنه قيّد القرار السيادي ووسّع هامش التوتر مع روسيا؟ الأمن لا يُبنى على التحالفات فقط، بل على قدرة الدولة على إدارة علاقتها مع الخصوم، والحفاظ على هامش مناورة سيادي. تجربة فنلندا تطرح سؤالاً مفتوحًا أمام صُنّاع القرار في الدول الصغيرة والمتوسطة: كيف يمكن بناء الأمن دون التخلي عن السيادة، أو التفريط بالدور الدبلوماسي في عالم يعيد رسم خرائط الوساطة والنفوذ؟
إن انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي لا يُقرأ فقط من زاوية التحول العسكري، بل يستبطن تحولات أعمق تطال بنية الهوية السياسية والثقافية للدولة. فمع انخراطها الكامل في المنظومة الأطلسية، دخلت فنلندا في شبكة الاستخبارات الغربية، ما يثير تساؤلات جدية حول استقلال القرار السيادي، وحجم التنازلات التي قدمتها على مستوى الأمن السيبراني والمعلوماتي. كذلك، فإنّ حيادها السابق كان يلعب دورًا مهمًا في حفظ خصوصيتها الثقافية وهويتها الإسكندنافية المتفردة، وهو ما قد يتعرض للتآكل بفعل الاصطفاف ضمن خطاب استراتيجي قائم على الردع بدل الوساطة، والتحالف بدل التوازن.
هذا التحول ألقى بظلاله أيضًا على علاقات فنلندا الإقليمية، لا سيما مع السويد، التي رغم تشاركها ذات الهواجس الأمنية، لم تحسم أمر انضمامها للناتو بعد. وهو ما يضع النموذج الإسكندنافي التقليدي القائم على الحياد الجماعي والتكامل السياسي في موضع مساءلة تاريخية. داخليًا، تغيّر الخطاب السياسي الفنلندي من لهجة التهدئة والانفتاح إلى نبرة أكثر حدة، وهو ما تجلّى في سلسلة من التشريعات التي استهدفت الجالية الروسية داخل البلاد، شملت مصادرة بعض الممتلكات، وتشديد الرقابة، في خطوات تفتح الباب لتوترات مستقبلية مع موسكو قد تستمر حتى بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا. هذه الإجراءات، التي يرى فيها البعض خرقًا لمبادئ القانون الدولي، قد تترك أثرًا طويل الأمد على العلاقات الثنائية بين البلدين.
والمفارقة أن هذا التحول الجيوسياسي لم يُغلَق من جميع الجهات، بل أحدث في المقابل دينامية دولية جديدة. فبينما تقهقرت فنلندا عن موقع الوسيط المحايد، برزت دول أخرى لملء هذا الفراغ، سواء من أوروبا مثل سويسرا والنرويج وإيرلندا، أو من الشرق الأوسط كالسعودية وقطر وعُمان والإمارات، وهي دول نجحت في مراكمة رصيد من الحياد البنّاء والفعالية التفاوضية. ولعلّ السؤال الذي يُطرح بإلحاح اليوم هو: هل كان بإمكان فنلندا أن تعيد تعريف حيادها وتطوره بما يتماشى مع تهديدات العصر، بدلاً من التخلي عنه؟ أم أن منطق الاصطفافات الكبرى لا يترك متسعًا لمناورة الدول الصغيرة، في عالمٍ تعيد فيه القوى الكبرى رسم خرائط النفوذ والتحالفات؟ في كلتا الحالتين، يبدو أن فنلندا تواجه الآن تحديًا مزدوجًا: الحفاظ على أمنها دون فقدان سيادتها، والبقاء فاعلاً دوليًا دون أن تصبح مجرد واجهة في لعبة كبرى لا تصنع قواعدها.