“حين يبحر جسد صغير في وجه آلة الحصار، تصبح الروح حجّة ضد التاريخ كلّه.”
ليست “غريتا تونبرغ” مجرّد اسم يتردّد في الأروقة البيئية، ولا فتاة قرّرت أن تتخلّى عن دفء العمر السويدي لتستبدله بشوك البحر قبالة غزة. هي ملامح لحظة كاشفة، بل مرآة مُرّة وضعتها فتاة في وجه العالم لتقول: “هذا أنتم.. هذا نحن!”
في كل منعطف تاريخي، تبرز أرواح تسبق أعمارها وتشقّ القالب الزمني الذي وُضِع لها، وتُعرّي الطمأنينة الزائفة التي نعيشها. غريتا ليست سوى واحدة من أولئك الذين تصنعهم النار لا المدارس، وتصوغهم الشجاعة لا المسلّمات.
ابنة الأوبرا والممثلين، كانت غريتا مؤهلة لأن تكون وردة في حدائق الرفاهية الاسكندنافية. لكنها اختارت أن تكون شوكة في عنق النسيان. أتدري ماذا يعني أن تولد على الهامش.. ثم تصير المركز ؟ أن تولد بمتلازمة أسبرجر، بوسواس قهري، وخرس انتقائي، ثم تقف لتخاطب قادة العالم، ليس إنجازاً فردياً فحسب، بل صفعة صامتة على وجه الثقافة الطبية والسياسية التي تحاول تأطير الإنسان داخل “الوظيفة الطبيعية“.
غريتا لم تكتفِ بالتحدّي، بل استخدمته كرافعة أخلاقية. “لا يمكننا تغيير العالم ما لم نغيّر قواعده” تقول. أيّة روح في القرن الواحد والعشرين، تقول هذا دون أن تساوم على ذاتها؟ من فينا لم يُساوم؟
عندما أعلنت عزمها الإبحار نحو غزة على متن “مادلين”، لم تكن تغامر بجسدها بقدر ما كانت تحاكم الجسد الأخلاقي للعالم. لم تكن رحلة بحرية بل لحظة مسرحية فاوستية، تتقاطع فيها قوى الظلام مع الشاهد الأخير على صمت الكوكب. السفينة ليست مادلين فحسب.. بل الضمير !
أن تضع فتاة في العشرين وجهها مقابل بندقية بحرية إسرائيلية، فإنها تُعيد تعريف المعنى الحقيقي للبطولة. ليس لأن البطولة نادرة، بل لأن بطولتنا نحن قد تراجعت إلى حدود التغريد والتنديد.
قال محمود درويش ذات مرة :
“حين نكون بلا حلمٍ، نصير أرخصَ من غبار الطريق.”
وغريتا تحمل هذا الحلم بيدٍ صغيرة، وتواجه به إمبراطوريات الجهل والتطبيع والخراب.
غريتا ليست شخصية “تايم” فحسب، بل شخصية ضميرنا المستقيل. إنها كائن صغير، لكنه يقول ما عجزت الجيوش والمثقفون والزعماء والمذيعون عن قوله: أن الخطر لا يكمن في “عدونا” بل في صمتنا، في رعبنا المتواطئ، في فوات أدوارنا.
كم زعيمًا عربيًا حمل على وجهه ملامح شجاعة غريتا؟ كم جامعة عربية أعلنت الحداد حين اختُطفت “مادلين” في الظلام؟ كم مؤسسة ثقافية أدركت أن هذه الفتاة تكتب، بجسدها، بيانًا إنسانيًا يعادل قرنًا من البيانات الفارغة؟
أن تُختَطف “مادلين” تحت جنح الظلام هو المشهد المكشوف الأخير في مسرحية طويلة عنوانها: “العار الدولي”. البحر الذي فضح اليابسة حين كشف المشهد برمته : زوارق الكوماندوز الإسرائيلية لا تخاف القوارب بل تخاف الكاميرات. تخاف النور. تخاف أن يُقال إن فتاة واحدة كانت أكثر رجولة من مئة نظام.
ما حدث في البحر ليس هزيمة، بل إعلان بدء لمعركة من نوع جديد: معركة الذاكرة. الذاكرة التي تُكرهنا على الاعتراف، والتي تُقبح وجوهنا كلما نظرنا في مراياها.
تمامًا كما قال نيرودا:
“يمكنك أن تقطع كل الأزهار، لكنك لا تستطيع أن تمنع الربيع من القدوم.” وغريتا هي هذا الربيع الذي لا يُقتل، لأنها لا تأتي من جذرٍ واحد، بل من جذرٍ أخلاقيٍّ كونيٍّ، سُمِّي في يومٍ من الأيام: “الإنسان“.
اختُطفت السفينة، نعم. لكن ماذا عن الفكرة؟ عن الشجاعة؟ عن الضوء الذي أُشعل في صدور المراهقين حول العالم؟ ماذا عن الموجة القادمة من القوارب؟ ماذا عن درسٍ أخلاقي قد يظل قائمًا لمئة عام: أن فتاة واحدة تستطيع أن تحرّك العالم إذا امتلكت الشجاعة الكافية. تذكروا .. إن بعض الأجساد أقوى من جيوش !
غريتا لم تذهب إلى غزة بل ذهبت إلى جوهر الزمن. إلى قلب الحكاية. إلى تلك النقطة التي تذوب فيها الهويات، وتنقلب فيها الأوطان، ويمتحن فيها الإنسان ذاته: هل أنا حرّ؟ هل أنا حيّ؟
في اللحظة التي توقّفنا فيها عن المحاولة، كما قالت، فقدنا إنسانيتنا. لكن في اللحظة التي قرّرت فيها غريتا أن تحاول، استعادت الأرض صوتها.