انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية أفلام مصورة وفي مشهدٍ يدمي القلب ويُثير الغضب ويمزق الكرامة ويُشعل الحنق، حيث تزدحم العوائل الفقيرة والمتعففة أمام أبواب مقرات الأحزاب الطائفية و مرشحيهم ، تلهث وراء صندوق غذاء زهيد يُقدم كطعمٍ رخيص لسرقة أصواتها الانتخابية مستغلين حاجاتهم للغذاء والدواء ووضعهم المعيشي الاقتصادي السيئ . تنتشر هذه المشاهد المؤلمة كالنار في الهشيم عبر منصات السوشيال ميديا ، تُظهر بوضوحٍ فاضح كيف تتحول بطاقة الناخب إلى أداة ابتزاز في يد مرشحين لا يعرفون من الأخلاق السياسية إلا لغة الاستغلال واللصوصية. هؤلاء، الذين يتاجرون بآلام الشعب وعوزه الغذائي والمادي، يسعون إلى مقاعد البرلمان ليس بحلم ورؤية لبناء دولة القانون والمؤسسات ، بل بنزوة وشهوة جامحة لنهب مقدرات وخيرات البلد . فإذا كانت هذه هي عقلية من يتسلقون إلى سدة الحكم على أكتاف المعوزين ويترشحون لتمثيل الأمة، فكيف سيكون حال برلمانٍ يُشيَّد على أنقاض الضمائر وكرامة الفقراء؟ إن هذا الواقع ليس مجرد فضيحة واستغلال سياسية، بل جريمة اغتصاب غير أخلاقية تُنذر بمستقبلٍ مظلم يُكرّس الفساد ويُعمّق معاناة العراقيين وجريمةٌ بحق وطنٍ يئن تحت وطأة الفساد والخيانة!؟
في ظلّ الواقع العراقي المأزوم، تبرز ظاهرة سياسية خطيرة تُجسّدها الأحزاب الإسلامية بمختلف توجهاتها الطائفية والمذهبية، أو ما بات يُعرف بـ”شيعة السلطة”. هذه القوى، التي تسيطر على مفاصل الحكم، لا تملك في قاموسها السياسي أي رؤية لبناء دولة مؤسسات حديثة قائمة على العدالة والكفاءة. بدلاً من ذلك، تُظهر هذه الأحزاب براعة استثنائية في استغلال مقدرات الدولة، نهب مواردها، وتحويل السلطة إلى أداة لتعزيز النفوذ الحزبي والشخصي. هذه الحقيقة المرّة، التي قد تغيب عن وعي شريحة من المجتمع، ليست مجرد افتراءات، بل واقع يومي موثّق بالفساد المستشري، سواء في صفقات المحاصصة أو في توزيع المناصب على أسس طائفية بعيداً عن معايير الكفاءة. من مشاريع إعادة الإعمار المتعثرة إلى الثروات الطائلة التي تُهرَّب إلى الخارج، تتجلى هذه الثقافة السياسية المدمرة التي تُعيق نهضة العراق وتُغرقه في دوامة الفوضى والفقر.لذا، لا يمكن السكوت عن هذا الواقع أو التغاضي عنه تحت أي ذريعة. يجب فضح هذه الممارسات أمام الرأي العام، وتعرية الأحزاب التي تتاجر بآلام الشعب وتستغل حاجته لتعزيز قبضتها على السلطة. إن التصدي لهذه الثقافة السياسية الفاسدة ليس مجرد واجب وطني، بل ضرورة وجودية لإنقاذ العراق من براثن الفوضى وإعادة بناء دولة تحترم مواطنيها و تستثمر مواردها لخدمتهم، لا لنهبهم.
إن معالجة الواقع المعيشي البائس التي تمر بها العوائل الفقيرة والمتعففة تتطلب مقاربة شاملة ومتعددة الأبعاد، تركز على الجذور الهيكلية للفقر بدلاً من الاعتماد على حلول مؤقتة أو استغلالية مثل توزيع المواد الغذائية مقابل الأصوات الانتخابية. ما يظهر في منشورات وسائل التواصل الاجتماعي من مشاهد تجمع العوائل أمام مقرات الأحزاب للحصول على مساعدات غذائية مقابل بطاقاتهم الانتخابية يعكس استغلالاً سياسياً للفقر، وهو ممارسة تُعزز التبعية وتُضعف كرامة المواطن بدلاً من تمكينه.
في خضم هذا العبث السياسي المقيت، تقف مفوضية الانتخابات كشاهدٍ اعرج، عاجزةً ومشلولةً تماماً عن اتخاذ أي إجراءات قانونية رادعة ضد هؤلاء المرشحين وسماسرتهم الذين يتلاعبون بحاجات الفقراء المعدمين. هذه الأحزاب الطائفية، بأساليبها الشيطانية المبتكرة، تبتز أصوات الشعب عبر توزيع مبردات مياه وعلب أدوية للمرض وصناديق غذاء مشروطة بعدد بطاقات الناخب، في مسرحيةٍ مكشوفة لشراء السلطة. لكن أين المفوضية من هذا الابتزاز ؟ إن صمتها المريب وتقاعسها عن محاسبة هؤلاء اللصوص السياسيين يجعلها شريكةً في هذه الجريمة، تاركةً الشعب العراقي فريسةً لمن يحوّل جوعه إلى أداةٍ للاستيلاء على مقاعد البرلمان. هذا العجز ليس مجرد فشلٍ إداري، بل خيانةٌ للأمانة الوطنية، تُكرّس واقعاً يُذل فيه المواطن وتُدنّس كرامته على مذاهب الفساد والنفاق!لذا على “مفوضية الانتخابات” إذا تريد أن تستعيد مصداقيتها ونزاهتها وكفاءتها أمام الشعب وجمهور الناخبين وحتى أمام الإعلام المحلي والعربي والعالمي أن تسارع باتخاذ الإجراءات الرادعة والعقابية القانونية ومنها على سبيل المثال وليس الحصر :
(*) أيجاد تشريعات صارمة ضد شراء الأصوات : توزيع المواد الغذائية أو المبالغ النقدية والعينية مقابل الأصوات الانتخابية هو شكل من أشكال الفساد الانتخابي. يجب على المفوضية العليا المستقلة للانتخابات فرض عقوبات صارمة على الأحزاب والمرشحين الذين يمارسون هذه الأفعال، مع مراقبة دقيقة للحملات الانتخابية؟.
(*) تعزيز مبدأ الشفافية والنزاهة: ومن خلال إنشاء هيئات رقابية مستقلة لمراقبة تمويل الحملات الانتخابية والتأكد من أن كافة الأحزاب لا تستغل حاجة الفقراء لكسب أصواتهم. يمكن أن يشمل ذلك نشر تقارير علنية عن مصادر تمويل الأحزاب وحتى التشهير بهم علنا.
(*) توعية المواطنين: إطلاق حملات توعية عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي لتثقيف المواطنين حول أهمية اختيار المرشحين بناءً على كفاءة ونزاهة برامجهم الانتخابية وليس على المساعدات المؤقتة. يجب أن تُظهر هذه الحملات أن الأحزاب التي تستغل الفقر لا تهتم فعلياً برفاهية المواطن.
(*) استغلال وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي لغرض أن تقوم بعمل جهة رقابية محايدة ومستقلة لمراقبة الدعاية الانتخابية للمرشحين وعدم استخدامهم موارد الدولة .
لا يمكن لا ي جهة سواء أكانت حكومية أو رقابية بإلقاء اللوم على المواطن العراقي الذي يلجأ إلى قبول المساعدات الغذائية مقابل بطاقته الانتخابية، فهو في كثير من الأحيان مضطر بسبب العوز والفقر الحاد الذي يعاني منه . المشكلة الأساسية تكمن في النظام السياسي الحاكم والذي يسمح بهذا الاستغلال، وفي غياب البدائل الحقيقية التي تمكن المواطن من العيش بكرامة. الحكم يجب أن يوجه إلى القادة السياسيين والمؤسسات التي فشلت في بناء نظام اقتصادي واجتماعي عادل.لانتشال العوائل الفقيرة من واقعها البائس المتخلف المريض ، يجب التركيز على تمكينها اقتصادياً واجتماعياً من خلال التعليم، والصحة وتوفير فرص العمل بكافة المجالات ، وإصلاح النظام التمويني. في الوقت نفسه، ينبغي محاربة الفساد الانتخابي وتعزيز الشفافية والنزاهة والعدالة والمساءلة في العملية السياسية. المواطن العراقي ليس مسؤولاً عن هذا الواقع المأساوي بقدر ما هو ضحية لنظام سياسي طائفي يعتمد على استغلال الحاجة بدلاً من معالجتها. التغيير يبدأ بإصلاح النظام من الأعلى، مع تعزيز وعي المواطنين ومشاركتهم الفعالة في بناء مستقبل أفضل.
وأخيرا وليس اخرا وفي فضيحةٍ أخرى تُكشفها لنا احدى البرامج الحوارية السياسية من على قناة فضائية “التغير” ومن خلال كذلك الأفلام المصورة، حيث يتفاخر أحد قيادات أحزاب الإسلام السياسي الطائفية (( مختار العصر)) بوضع صورته المتعجرفة على مبردات مياه تُوزّع كصدقةٍ على العوائل الفقيرة والمتعففة، ولكن بشرطٍ : أن تملك كل عائلة ما لا يقل عن خمس بطاقات انتخابية لتستحق هذه “الهدية” المشروطة. هذا المشهد البائس ليس مجرد استغلالٍ فج لآلام الشعب، بل هو تتويجٌ لثقافة الابتزاز السياسي التي تُحوّل كرامة المواطن إلى سلعةٍ تُباع وتُشترى في سوق الانتخابات. ويبقى السؤال الذي يُطارد هؤلاء اللصوص بلا هوادة: من أين لكم هذه الأموال الطائلة التي تُنفقونها على مبرداتٍ وصناديق غذاءٍ تُستخدم كطعمٍ لشراء أصوات الفقراء؟ أهي من جيوب الشعب المنهوبة، أم من صفقات الفساد التي أغرقت العراق في مستنقع المحاصصة؟ إن هذا السقوط الأخلاقي ليس مجرد فضيحة، بل جريمةٌ مكتملة الأركان بحق وطنٍ يُذبح على مذبح الطمع والنفاق!.