16 يوليو، 2025 12:33 م

شعرية الالقاء (الشاعر موفق محمد)

شعرية الالقاء (الشاعر موفق محمد)

المعروف أن استيعاب مناهج التلقي في الالقاء ، من اصعب ما يواجهه الشاعر والناقد …لهذا وضع نقاد الاستجابة جل اهتمامهم بالنصوص السردية والمسرحية وليس النصوص الشعرية ..الرواية التي تتسيد المشهد الادبي والثقافي في كل مكان ، لا تلقى شفاها بل تقرأ إلا في بعض أنواع السرد كالاقصرصة والقصة القصيرة ..لقد دأب النقاد المعاصرون على الاهتمام بالرواية اكثر من الشعر … ربما كان جاكوبسون وغيره اكثر اهتماما بالشعر واحتفاء به لكن في إطار التوجهات الحداثية والمعرفية الخاصة بالنص .
ومن اجل دراسة القصيدة في إطار الالقاء فإن موفق محمد يمكن ان يكون انموذجا حيا لذاكرة شعرية تعنى بالإلقاء في المحافل اذ لا تزال الذائقة الشعرية العربية معنية بجمال الصوت وحركيته .. ويمكن قياس مدى افادة أي شاعر من هذا المنجز الشفهيّ المهم إذ إن شعرية الالقاء وسيميائيته تشكل منجزاً من منجزات أي شاعر …مع أننا نعلم أن أن توظيف هذا المنجز العالمي في قراءة الشعر ما زال محدودا وغير معروف لاسيما في القصيدة العربية التي تعرف تاريخيا بأنها قصيدة إنشاد …
تعتمد على الصوت والتلوين فيه والنبر وحركات اليدين وربما الوجه ايضا في تعبير ينم عن انفعال الشاعر الذي سرعان ما ينقل إلى المتلقي
لقد ضعف الإنشاد او كاد لاسيما مع قصيدة النثر وادخال السرد في الشعر وهي ظاهرة عالمية لكن الإنشاد غناء والشعر صنو الغناء ، وهذا المنحى الإنشادي الشفاهي يبقى ميزة الشعراء وإن ضعف بعضهم عنه او قصرت أدواته الصوتية …
وقد تفرض عالمية الشعر موت الإنشاد لضعف في الموسيقى ومع ذلك يظل هذا الحدث الشعري ميزة محلية وهي لا تقل اهمية عن منزلته العالمية … الالقاء تعود اليه بعض مكانته المهمة في إطار التقنيات الحديثة واقصد به الذكاء الاصطناعي حين حاكى قصائد قديمة وقدمها بإنشاد جديد هو إنشاد الذكاء
قد يكون ذلك محفزا على اعادة الاهتمام بالإنشاد وعودة إلى العناية به فهو جزء لا ينفصل عن الشعرية في مضمونها المعاصر
وهذا مصدر تفاؤل في ايجابيات الذكاء رغم سلبياته الكثيرة ،ر …لقد تنبأ بعض الدارسين بموت القصيدة إذ لم يعد هناك من يهتم بها إلا الشعراء انفسهم … كما ان تأثيرها الثقافي منعدم فلا دور للقصيدة في التثقيف الاجتماعي ولا في تنمية الذائقة الجمالية ولا دور لها في بناءمعمار ثقافي يزيد الوعي ويقوي الأواصر الانسانية ، ويسهم في بناء الإنسان نفسيا وجماليا ..وليس هناك اهم من البعد النفسي والجماليّ للفن ،الذي لولاه لما استطاع الفن ان يقوي النزوع الانساني الطبيعي للأفراد وان عزوف الأفراد عن الفن يقود إلى التوحش وهو ما يحدث ربما في مجتمعاتنا بدا انها غير مكترثة بالنتاج الفني والفكري الذي ينتجه الادباء والشعراء خاصة
غير ان اشكالنا الخاص ورؤيتنا للفن ودوره ..جعل التلقي او التقبل او الاستقبال للنصوص الادبية ، يقتصر على عاملين : احدهما يكمل الاخر الاول الجزالة والفخامة في اللغة والقدرة على التلاعب بالكلمات وصياغتها وتوظيفها ، والثاني الأزمة النفسية العميقة التي تعاني منها مجتمعاتنا والتي اساسها سياسيي واجتماعي واحدهما مرتبط بالآخر والسياسي يتعلق بازمة المواطن وطريقة تعامله مع السلطة او طريقة تعامل السلطة معه ، ضمن رؤيتين متعارضتين. من هذه الزاوية استطاع الجواهري ان يحظى بنجاح مطلق فقد ادرك مية هذين البعدين ، فقصائد الجواهري ونقده السياسي اكثر رواجا واكثر تقبلا من أشعاره الاخرى .. وهو في الماًل الاخير طريق لتخفيف المعاناة الكبرى والأزمة الخانقة التي يعيشها الشعب العراقي في معظم مراحل حياته الحديثة .. ولولا الأزمات السياسية والاجتماعية لاصبح الشعر محلقا في فضاءات اخرى جمالية وانسانية يناجي الورد والأغصان وطيب الحياة ويلتقط من بعيد بعض مظاهر الوجود الانساني وما فيها من خلل كما هو الحال في معظم بلاد الدنيا التي تشهد استقرارا سياسيا وأمنيا معقولا وأمست شعوبها اكثر تحضرا وقدرة على تلمس طريقها الحضاري.
وبالانتقال من الجواهري إلى موفق محمد فإن (موفق) شاعر اللحظة الراهنة يراه المتلقي ببصيرة قوية ، وهو يعمل على تجسيدها وتجليتها بكل ما في نفسه ،وبقدرة عجيبة على الوصف والتقاط التفاصيل الصغيرة وصهرها في كل موحد ..ويبدو إنشاده مطابقا تماما للواقع وهو في الوقت نفسه مخالف له مخالفة تامة ،بين هذين الضدين يتسلل نص الشاعر إلى الجمهور ليشد المستمع شدا قويا …وهنا يكون الالقاء مهما بل بالغ الأهمية ، فقد استهلك الالقاء الفضاء المكاني كله واصبح بديلا للقراءة الفاعلة والشاعرية للقصيدة ..وبسبب انشغال الشاعر بالتلقي ، ضمًن قصيدته كلمات او مقاطع من العراقية الدارجة وهي ليست طريقة مفتعلة من موفق بل هي جزء مكمل للنص..اي ان الشاعر لا يستطيع إلا ان ياتي بالمقطع الدارج فهو يتسق مع المقاطع الأخرى لايصال الدلالة ولا اقول الانفعال كما يريد ان تصل ..وتشيع انطلاقا من ذلك في قصائده مقاطع من اللغة المستعملة واللغة الفصيحة .. وهناك كلمات لا يمل من تردادها مثل (أمي ) خبز أمي .. وهذه الكلمة رمز لما يمكن ان يكون حميما ودافئا ،وكلمة أم في الموروث الشعبي العراقي شديدة الإيحاء ..
في عام 2005 كان العراق يعاني من إرهاب شديد إو كارثي ،ولا سيما السيارات الملغمة التي تقتل يوميا عشرات بل مئات العراقيين، وكانت هذه الأعمال الرهيبة تأتي مشفوعة ربما
بفتوى من رجال دين متنفذين أصوليين او من بعض دول الجوار .. وقد تصدر الفتوى مباشرة من الفضائيات بطريقة ملتوية او من مواقع التواصل
ذهن المتلقي مشغول بالقتل الجماعي ، ولم يوجّه اللوم كثيرا إلى السلطات الحاكمة ،وهي لما تزل ضعيفة واجهزتها الأمنية لم تكتمل بعد ،ووجد الارهابيون الفرصة سانحة للقتل والانتقام .. وحين ألقى موفق محمد قصيدته عام 2005 فقد عكست هذه اللحظة التاريخية كان يوجّه كلماته إلى الإعلان او الفتوى .. التقاط واقعي لحالة سياسية واجتماعية ودينية ،
في الكويت في تلك السنة ألقى قصيدته في مهرجان أقامته مؤسسة البابطين …احدثت القصيدة بإلقاء موفق وباستعمال من إشاراته المعروفة لاسيما في تحريك اليدين استجابة حارة حين جعل قصيدته قريبة جدا من الحدث : من يقتل عراقيا خيرا ير ومن لا يقتل عراقيا شرا ( ير ) وقد وضعت الأقواس من عندي للإشارة إلى فعل هذه الكلمة في إطار الإنشاد
يلاحظ ان الجملتين التقطتا من موروث قديم قبل الإسلام وموروث ما بعد الإسلام ، وهما مؤكدتان بلاغيا بتقديم المفعول في سياقات قولية راسخة ، وهذا التناص مع نصوص قديمة إشارة إلى أصحاب الفتوى الذين يكتبونها بلغة تراثية عادة .
لكن هاتين الجملتين وما تبعهما في القصيدة ليستا شعريتين وأصبحتا كذلك بفعل التلقي والإلقاء والتناص ، ولقيت جمل من هذا النوع في قصيدة موفق انذاك تلقيا صاخبا ،استطاع الشاعر ان يدمج وعيه بوعي الجمهور إن هاتين الجملتين ، تحملان إيحاء مهما كما اسلفنا وهو إيحاء الفتوى ، وجعل هذا الإيحاء منهما جملتين ديناميتين انتزعتا من سياق خاص .. نزوع تاريخي مهم يمكن الإفادة من نصوصه خارج الإطار المرجعي الذي وضع له ، وجاءت هذه الجمل في إطار مناخ يسوده قتل باسم الدين والمذهب ، لذلك احتازتا على اهتمام من الجمهور ،نادرا ما ياتي لو قيلتا في غير هذا الوقت او في غير هذا السياق الاجتماعي والثقافي
في نهاية عام 2011 ألقى الشاعر موفق محمد قصيدة في مهرجان الجواهري الذي عقد في تشرين الاول من ذلك العام .. والفاصلة الزمنية بين الالقاء الاول عام 2005 والإلقاء الثاني في بغداد ستة أعوام كاملة .. وقصائد موفق توحدها العنوانات او هي تتجلى في بلاغة العنوان ويمكن لأي قارىء او سامع ان يضع لها عنوانا وموفق هو المتخلي عن عناوينه والمتخلي عن عذاباته …
ومن اجل التركيز في عذاب أكبر لايمكن غض الطرف عنه ، موفق هذه المرة ومع استمرار أعمال القتل بالمفخخات والفتاوى اختلف مقامه إن صحت التسمية ، لقد تحقق شيء من السلام النسبي على الرغم من استمرار القتل ، فاتجه اتجاها آخر .. كانت قصيدته نقدا لاذعا للحكام وكأن الحيرة إوقعته في واقع لايمكن فهمه او تفسيره او تأويله .. هنا في كل حدث يتحد الفن بالواقع اتحادا يقود فيه الواقع مديات القصيدةً ويتحكم بانفعالاتها هذه المرة لا تقتصر المحاولة الشعرية على الذبح العشوائي او المنظم الذي حدث عام 2005 وفي الأعوام التي تلت لكن الأمر يتعلق الان بالجهات التي أضعفت المشروع الوطني ومضت سنوات وهي لا تؤدي ما يجب تأديته في حقول اجتماعية وسياسية عديدة ولا سيما انتشار الفساد
وموفق حين يلجأ إلى الرمز فإن هذا الرمز معروف ومكشوفة دلالاته وقد لا يقبل الشعر مثل هذه الرموز لكن التلقي الشفاهي يقبلها فهو يستمد حضوره من اللحظة التي يجد الشاعر صدى لصوته فيها والتواصل قد يكون سببه هوى سياسيا او ايديولوجيا او اجتماعياً او حتى شخصيا …
لكن هذه الاتجاهات جميعا التقت في مقاطع من قصائد موفق .. وظف الشاعر المحكية العراقية وقد عرف بهذا الاتجاه وعرفه ايضا الشعر المعاصر ، ولا سيما في قصائد سعدي يوسف او في الرواية كما في أعمال غائب طعمة فرمان لكن موفق له قدرة وتمرس في ادراك وظيفة المحكية في الشعر يقول في لغة فصيحة سهلة : لا حرية تحت نصب الحرية ويلاحظ ان هذه ( اللا) تتناسب و ( لا) اخرى اكبر حجما واكثر انسجاما مع الاولى حين يقول ( لا خمر في كأس ابي نواس )
هاتان الجملتان ليستا جملتين شعريتين ، لكنما الإنشاد وطريقة الالقاء فوق المسرح جعلتهما كذلك … الشاعر يمكن ان يحور ما هو ليس بشعر إلى شعر بالإنشاد إذا ما عرف نوازع الجمهور واتجاهاته .
واغلب ما يمكن ان يقال هنا ان السخرية اللاذعة طريق لدمج وعي الشاعر بوعي الجمهور
. إن الإضحاك ليس مأساويا فحسب بل هو في الاخير فاقد لحس المأساة حين يقول موفق محمد ( هم يلعبون الدومينو على مؤخراتنا المكشوفة ) .. سخرية انزاحت من مكانها العادي لتكون خاتمة لقصيدة ينشدها موفق في حفل شعري
لقد نجح موفق حين أوجد معادلا خصبا لمناخ قصيدة تبدو سريعة الوقع سهلة التلقي واقعية المنحى ذات خيال طليق .. لقد وفى الشاعر بحدود التعبير في الإلقاء إلى ابعد حد ممكن أو إلى ابعد مدى ممكن وحقق لإنشاده تعاليا شعبيا في الاقل على مستوى القاعة والحضور
وترك للمتخيل مساحة يحتاجها الخلق الشعري فيتجاوز بذلك الإنشاد الشفاهي إلى القراءة المتأنية

الهوامش:
موفق محمد ، ملتقى البابطين ، الكويت أيار 2005 ، وكاتب هذه السطور كان حاضرا في المهرجان متلقيا شفاهيا.
موفق محمد ملتقى الجواهري بغداد 2011وكاتب هذه السطور كان حاضرا ورصد إلقاء قصيدته ، وقارن بين قراءتين جماهيريتين في محفلين مختلفين تفصل بينهما ستة أعوام.

أحدث المقالات

أحدث المقالات