10 ديسمبر، 2024 11:42 ص

سر قوة النظام السياسي في العراق

سر قوة النظام السياسي في العراق

يعتقد الكثيرون أن النظام القائم حالياً في العراق هو أضعف الأنظمة التي شهدتها هذه البلاد منذ تأسيسها قبل أكثر من قرن. ويضربون مثلاً على ذلك بالأزمات السياسية المتلاحقة، ونزوع بعض المكونات للانفصال أو الاستقواء بالخارج، والانقسام المجتمعي الناجم عن وجود مرجعيات دينية وسياسية متنافرة، وهشاشة ما يصدر عنه من قوانين، وغير ذلك من الأمور.
إن من ميزات هذا النظام الذي تشكل بعد عام 2003، أنه لم يؤثر فئة على فئة، ولا طائفة على طائفة، ولا مكوناً على مكون. ومنح الجميع كل ما كانوا يحلمون به من سلطة ومال واعتبار. مثل هذا الأمر يحدث للمرة الأولى في تاريخ العراق الحديث، وربما كان هو سبب عجز النظام عن فرض القانون، وإدارة ملف التنمية، وفرض سلطة الدولة على الأفراد والجماعات، والمؤسسات العامة والخاصة.
غير أن هذا النظام برهن على قوة غير عادية في مواجهة الأخطار الخارجية والداخلية. واستطاع القضاء على كل التهديدات التي استهدفته، قبل وبعد انسحاب الجيش الأميركي من العراق. فقد استطاع دحر القاعدة والمنظمات السلفية المتناغمة معها أو المتفرعة عنها. كما استطاع احتواء هجوم “داعش” وإلحاق الهزيمة بها بعد حرب استمرت ثلاثة أعوام. وتمكن من تفكيك جيش المهدي في أربع محافظات عراقية من بينها العاصمة بغداد. ولم تجرؤ أي فئة على الخروج عن التركيبة المفترضة للنظام، أو العبث مع السلطة المركزية، دون أن تلحق بها الهزيمة. فالاختبارات القليلة التي حدثت أكدت قدرة النظام على التعامل معها بجدية. وقد منيت المحاولات الانفصالية الكردية التي حدثت في ذروة معركة الدفاع عن المناطق الغربية، بالفشل الذريع. أما السعي الدائب للاستيلاء على حقول النفط أو قضم الأراضي في المنطقة الشمالية، فهي تحديات مؤقتة وغير مسؤولة. ولا بد أن تحسم يوماً في معركة مصيرية مؤجلة.
من أين استمد هذا النظام “الضعيف” قوته، ومن أين وطد أركانه، مع كل ما في البلاد من تناقضات وخلافات وتنوع عرقي ومذهبي؟ ولماذا لم تستطع فئة ما من المجموعات التي حملت السلاح أن تزعزع استقراره، أو تنزع نقاط القوة لديه، مع كثرة الأتباع، وتعدد الأطماع، والتدخلات الخارجية، وغير ذلك من المغريات؟
إن العنصر المهم الذي جعل النظام السياسي العراقي يقف في مواجهة كل هذه الأعاصير، هو التبادل السلمي للسلطة، وقدرة أي فرد أو حزب أو تجمع وطني في الفوز برضا وإعجاب الناس، وبالتالي الصعود إلى قمة الهرم الحكومي. مثل هذا الأمر لم يكن متاحاً من قبل. إذ كان المعيار في تقلد المناصب في الماضي الولاء السياسي، أو العبودية المطلقة، لرأس النظام، والانصياع التام لإرادته. ومانزال نلمس حتى اليوم جماعات تنتهج ذات السبيل للوثوب إلى السلطة (أي إعلان العبودية لرأس الجماعة أو زعيمها الديني)، فثقافة الحزب الواحد، والقائد الفرد، ماتزال تستهوي بعض الفئات حتى يومنا هذا.
وهناك بالطبع قوى خارجية أسهمت في دعم النظام في المراحل الأولى لتأسيسه مثل الولايات المتحدة، وفي المراحل اللاحقة إيران. لكن هذا العامل بات اليوم أضعف من أي وقت مضى، بعد أن تبلورت قوى داخلية قادرة على دفع الأخطار عنه، وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح. وإذا ما نجحت حكومة قوية قادمة في كبح جماح الأمراض الاجتماعية الخطيرة التي تعصف بالبلاد مثل الفساد والفئوية وسوء الإدارة، فإن العراق سيستعيد مكانته القديمة، ويكون مؤثراً أكثر منه متأثراً، ويستأنف مسيرته الحضارية التي توقفت منذ عقود طويلة. وتكون له الكلمة العليا في المنطقة، وفي المجتمع الدولي أيضاً.