27 ديسمبر، 2024 1:07 ص

رواية علي بدر (الزعيم خرائط وأسلحة) .. نص رشيق لحدث متورم

رواية علي بدر (الزعيم خرائط وأسلحة) .. نص رشيق لحدث متورم

لم يغفَل علي بدر شاردة او واردة في الحكايات المنسوجة حول 14 تموز و8 شباط، إلا و ابتسرها في رواية” جيب” ربما كان تقصّد عند سردها على الورق ان تصل لجيل القراء البطرين البعيدين اجيالا عدة عن الحدثين الغارقين بالدم والسلاح والحديد.

تساعد معرفة علي بدر الواسعة بتأريخ العراق المعاصر عبر مؤلفات بالفرنسية والإنكليزية الى جانب لغته الأم، ورحلاته في العالم وتجربته الروائية المتنوعة في ان ينسج مشروعه الجديد ليصدر جزئه الأول وسط جدل يصل كعادة العراقيين الى الشتائم والطعون والاتهامات بالعمالة حول ” انقلاب” تموز او ” ثورة الزعيم”.

وخلافا لقناعة لا تقبل الجدل، كما تشي عبارات المؤلف بأن انقلاب شباط” جاء بقطار أميركي” فان علي بدر في موزائيك روايته المكتوبة بأسلوب المقاطع، لا ينحاز لروايات وحكايات من إستعان بأوراقهم الحقيقية او المتخيلة في نحت صورة البطل الرئيس الزعيم عبد الكريم قاسم.

في خلط متعمد، تتلاشى الحدود بين الوثيقة التاريخية والعالم الافتراضي للشخوص والأحداث، لكن النسغ الرئيس يبقى قريبا من الوقائع الصادمة لحقبة زمنية تصل الى نصف قرن، ستدفع ربما قراء رواية ” الجيب” الرشيقة الشباب الى التنقيب بأنفسهم عن احداث قرن من الصخب والعنف في العراق، تمتد ألسنته النارية الى قرن جديد آخر.

لا يتنطع علي بدر لدور المؤرخ او عالم السياسة؛ كما اعتقد، لكنه فخور فيما يبدو بجهده الأرشيفي سواء بالوثائق او المشافهات مع أشخاص تقصدهم عند إعداده للثلاثية.

كنا نعرف ان عبد الكريم قاسم ولد في أسرة معيلها خياط متوسط الحال، لنقرأ عند علي بدر انه نجار معدم.

وعرفنا ان الزعيم كان في عديد القوات العراقية التي حاربت في فلسطين العام 1948، ومنها تاثر مع مؤسس خلايا الضباط الأحرار رفعت الحاج سري بهزيمة ضياع فلسطين وخيانه نظام” ماكو أوامر ” والأسلحة الفاسدة؛ محطة لم تلفت كثيرا اهتمام الروائي المتأثر بأدب أجاثا كريستي البوليسي المثير حتى قطع الأنفاس.

ينتقل الزعيم من صبي رث إلى ضابط تتلامع النجوم على كتفيه النحيلين، ليستقر في “عرين الاسد” منذ الخامس عشر من تموز 1958 ولم يخرج من مبنى وزارة الدفاع إلا نهار الخامس عشر من رمضان 1963 / المصادف التاسع من شباط/ متوجها نحو حتفه في مبنى الإذاعة والتلفزيون.
المفارقة ان مبنى الاذاعة واستوديو البث المباشر فيها، كان حاسما في تموز وشباط وكان حاسما في 17- 30 تموز لان السلطات قبل مجيء البعث في انقلابه الثاني عام 1968 تعاملت برعونة مع مؤسسة يعني دخولها إعلان النصر على النظام وإجبار الجماهير على الرضوخ للأمر الواقع.
وتعلم البعثيون الدرس فجعلوا من مبنى الاذاعة والتلفزيون ثكنة حشدوا فيها عسكريين وضباط أمن علنيين وسريين.

في ثورة اكتوبر البلشفية ولم تكن العام 1917 لروسيا القيصرية دار للإذاعة او التلفزيون، لكن لينين رسم بأن السيطرة على مبنى البريد والبرق أول خطوة في الاستيلاء على الحكم وانتزاعه من الحكومة البرجوازية المؤقتة ومن ثم التوجه نحو البنك المركزي والمصارف الأهلية واخيراً اقتحام قصر الشتاء.

ربما أراد علي بدر في حديثه عن تاثر عبد الكريم قاسم بالثورتين الفرنسية والروسية وميول الزعيم اليسارية المهجنة، إشارة الى كراسات لينين في الثورة وليس مؤلفاته عن الدولة.
ففي احدى نقاشات الزعيم مع ضابط في خليته يرد على السؤال ماذا ستفعل إذا استلمنا السلطة يرد عبد الكريم قاسم
لا تستعجل… السياسات تناقش بعد الثورة!
وفي العبارة تلخيص دقيق لانعدام ايديولوجية ثورة تموز وسبب دمارها المروع ونهايتها الدموية.

لم يثقل الروائي الاستقصائي على قارئه بتفاصيل كما في رواياته الممتعة الأخرى
” بابا سارتر” و” حارس التبغ” و” عازف الغيوم” وغيرها حين يستقصي حيوات أبطال حقيقيين او افتراضيين، ذلك لأن سيرة عبد الكريم قاسم وكل الرهط الذي رافقه منذ البداية وحتى النهاية، ليست ملفات لم يطلع عليها احد غير الراوية، وإنما مسيرة حياة تواصلت أربعة عقود إلا عاما واحدا ، انتهت بمصرع ملحمي كما في طعن يوليوس قيصر.

لن تغلق رواية علي بدر الجدل الناري بين العراقيين حول انقلابية أو ثورية تموز وشباط، لكن المؤكد ان الرواية الكثيفة بأحداث متورمة، المكتوبة برشاقة لوحات رينوار ونعومتها رغم الطابع العنيف لاحداثها المروعة، قد تدفع جيل القراء حملة الهواتف الخفيفة على معرفة وتأمل تاريخ بلد مثقل بالأحزان والدماء والصخب والصراخ منذ قرون.