في غابة الإعلام المُعاصرة، حيث تتحول الكلمات إلى كيانات هلامية تسبح في فضاءات افتراضية، يبرز “رئيس التحرير المريض والمعقد والمنتفخ بكافة الاورام السرطانية ” ككائن هجين بين الحارس الأسطوري للبوابات المعرفية ومهرج البلاط والجهات المشبوهة الذي يلوّن الحقائق بألوان أيديولوجيته وعقده النفسية ومصالحه المادية وارتباطاته السياسية … ؛ إنه ليس مجرد موظف يدير الصفحات، بل ساحرٌ يُعيد تشكيل الواقع عبر مرآة مشوّهة، يختزل فيها الكون إلى صدى لصوته وفكره ورؤاه وارتباطاته … ؛ هنا، تتحول حرية التعبير إلى سرابٍ يطارده الكُتّاب الاحرار واللامنتمون عطشى، بينما يقف الحارس/الساحر عند مفترق الطرق، يوزع التراخيص للنشر كأنها أوراق لعب في مقهى عبثي … .
رئيس التحرير المريض
المرضُ هنا ليس عضويّاً، بل هو انزياحٌ وجودي: رئيس التحرير “المُصاب بالانغلاق العقائدي والبرجماتية ” يتحول إلى تمثال ملحِيٍّ يذوب كلما اقترب من ضجيج الآراء المُختلفة , ونار العصيان الفكري , والتمرد العقلي , والثورة الثقافية على كل ما هو موجود وعتيق ومكرر … ؛ إنه يلبس عباءة “الحياد” بينما يحمل في جيبه قائمة سوداء بأسماء الكُتّاب الذين يهددون تماثيله الفكرية المقدسة ومصالحه المادية الضيقة … ؛ والمفارقة السريالية تكمن في ادعائه حماية “الحقيقة” بينما يُشغّل آلة تشويهها عبر رقابة مُبطَّنة، كفنانٍ يُمسك بفرشاة الرقابة ليرسم فوق لوحة الحرية خطوطاً حمراء لا تُرى إلا بعينيه.
الكاتبُ، في هذا المسرح، ليس سوى دمية مارِيُونيت تُحاك خيوطها بأيدي “حراس المعبد”… ؛ يُرفض نصه ليس لأنه ضعيفٌ لغوياً أو فقيراً فكرياً، بل لأن ظله يُلقي بُقعة سوداء على جدار العقيدة المُطلقة لرئيس التحرير او يهدد ارتباطاته السياسية ومصالحه المادية … ؛ وهنا يتحول النشر من فعلٍ إبداعي إلى طقسٍ شعوذي: يُحرق النص المُخالف في الميدان العام، بينما تُقدَّم نصوص “المُوالين والسطحيين والمكررين ” كقرابين على مذبح الأيديولوجيا والبرجماتية والدوغمائية … ؛ إنه نظامٌ هرمي مقلوب: الحقيقة تُختطف من قبل مَن يفترضون أنهم خدّامها.
الخطيئة الكبرى ليست في الانتماء الأيديولوجي لرئيس التحرير هذا او ذاك – فكل كائنٍ بشري هو نتاج تشابُهات ثقافية ورواسب فلسفية – بل في تحويل المنصة الإعلامية إلى “مُختبر لتجميد الأفكار”… ؛ حين يُعلن رئيس التحرير الحرب على التنوع تحت ذريعة “حماية القيم والمقدسات او محاربة الطائفية والعنصرية … الخ “، فهو يشيِّد سجناً للعقل مُغطى بستائر الحرية… ؛ و الأكثر غرابةً هو استخدامه لغة “الوطنية” و”الأخلاق” كفخاخٍ لغوية : فكل مَن يعبر الخط الأحمر الوهمي يُوصم بـ”الطائفي” أو “الهدّام أو المشبوه أو الشاذ أو الخطير … الخ “، بينما تُغتال أفكاره في دهاليز التحرير قبل أن تُولد.
السلطة هنا ليست في منع النشر، بل في تحويل الكاتب إلى شبحٍ يطوف حول المنصات المؤدلجة و المتحجرة والمرتبطة بالدوائر المشبوهة ، حاملاً نصوصه كرسائلَ في زجاجة تُلقى في بحرٍ من الصمت… ؛ وفي هذا المشهد الكافكوي، يصبح “رئيس التحرير” قاضياً وإلهاً وزبوناً في آن واحد : يمنح الشرعية لفكرٍ ويَسحبها من آخر، كأنه يلعب دور “الخالق” في عالمٍ موازٍ… ؛ لكنّ المرض الأعمق هو إيمانه بأن حصون الرقابة التي يبنيها تحميه، بينما هي في الحقيقة تُحوِّله إلى سجينٍ داخل متاهة أوهامه وتكشف عقده وارتباطاته .
البلاغة المُعَطَّلة في هذا النموذج تكمن في التناقض بين الخطاب والواقع : فبينما يُعلن رئيس التحرير أن “الصحافة سلطة رابعة”، يُمارس سلطته كحاكمٍ مطلق في إمبراطورية النصوص… ؛ واللغة هنا ليست أداة تواصل، بل سلاحٌ لفرض التبعية: فـ”الحرية” تُختزل إلى مجرد شعار يُزيّن العناوين، بينما تُفرغ من مضمونها كالهواء في بالون مثقوب.
اما الكاتبُ المتمرد، فيتحول إلى أورفيوس سريالي: ينزل إلى عالم تحت الأرض لاستعادة “يوريديسه” – نصه الممنوع – لكنه يفشل لأن “رئيس التحرير-هاديس” يرفض إطلاق السراح، متمسكاً بسلطته كحارسٍ للعالم السفلي… ؛ وفي النهاية، تبقى النصوص الممنوعة كطيورٍ مُقيَّدة بأسلاك الحدود، تُحلّق في أقفاص الخوف.
السؤال الفلسفي الأكبر: مَن يملك الحق في تعريف “الخط الأحمر”؟
إذا كانت الأفكارُ كائناتٍ حية تتكاثر بالتنوع، فلماذا يُصرّ البعض على تحويل الصحافة إلى متحفٍ للتحنيط الفكري؟
إن محاربة “الآخر” تحت شعارات الحرية أشبه باحتضان شبح: فكلما ضغطت عليه، تسرب من بين ذراعيك.
الخلاصة المُروّعة : ما دامت “المراكز الإعلامية والصحف والمنصات الالكترونية والفضائيات ” تُدار كدكاكين أيديولوجية وحانات لاصطياد بائعات الهوى ومحطات للاستخبارات والمخابرات والدوائر المشبوهة والاحزاب السياسية … ، سيظل الكُتّاب مُجبرين على البحث عن “جزيرة يوتوبيا” حيث تتحول الكلمات إلى جسورٍ بين العقول، لا إلى سكاكين تُغرز في خاصرة الفكر… ؛ لكن هل توجد مثل هذه الجزيرة أم هي مجرد سرابٍ في صحراء الرقابة الذاتية؟
الإجابة تكمن في المرآة المُشَطَرة التي يحملها كلُّ كاتبٍ بين جنبيه: نصفها يعكس الواقع، ونصفها الآخر يُخفي حلم الحرية.
وللحديث بقية ..