كان شتاء عام 1985 قاسيًا بكل معنى الكلمة، والحرب العراقية–الإيرانية ما تزال مشتعلة تحصد يوميًا أرواح العشرات من الطرفين.
في ذلك الزمن لم تكن العربات العسكرية متطورة كما نراها اليوم، فلم يكن في الخدمة غير “الإيفا” و”الزيل” وسيارات “الجيب”، وهي لا تقارن بالمصفحات والمدرعات الحديثة.
وصلنا في أولى رحلاتنا إلى مدينة أربيل. ورغم صغرها آنذاك، لفت انتباهي نظافة شوارعها ومطاعمها وفنادقها، فقد كان أهلها يعتنون بمدينتهم بشكل لافت. مهمتنا كانت “معايشة” مع إحدى الوحدات العسكرية في قاطع “ديانا”، حيث صدرت الاوامر العسكريه بأن نقيم شهرًا كاملًا مع المقاتلين.
من كراج أربيل استأجرنا سيارة خاصة نقلتنا عبر طريق جبلي وعر نحو منطقة ديانا. كانت المنعطفات خطيرة، وشاهدت بعيني أكثر من سيارة انقلبت إلى الوادي العميق. كانت تلك المنطقة تُسمى منطقة الگلي، وهو طريق يشبه طريق الموت في زمانه. وصلنا أخيرًا إلى مقر الفرقة العسكرية.، والثلوج قد غطت كل شيء.
سألت عن أحد معارفي من منتسبي الفرقة، فجاء للقائي بعد دقائق قليلة، وأخذني إلى ملجأ كبير يتوسطه “تنور حطب” ومدخنة بدائية تبعث الدفء وسط هذا البرد القارس.
أشار إليّ من بعيد بيده نحو قمة جبل شاهق وقال:
”هناك، في أعالي جبل كردمند، ستجد الوحدة التي تبحث عنها… المكان خطير جدًا، ليس بسبب الثلوج فقط، بل لأنه يتعرض لقصف مدفعي يومي، وعدد من الشهداء يصلنا منهم باستمرار.”
سلّمنا أمرنا لله، وفي الصباح حملتنا سيارة “الإيفا” إلى ذلك المقر. الطريق كان أشبه برحلة موت: مرتفعات شاهقة، منعطفات ضيقة، وخوف دائم من انزلاق السيارة نحو وديان عميقة. وزّعوا علينا بطانيات للاحتماء من العاصفة الثلجية.
هناك، في احد.سفوح جبل كردمند، لم يكن في انتظارنا سوى ملاجئ محفورة في الجبل أو مشيدة بأكياس ترابية. المقاتلون كانوا خليطًا من أبناء مدن العراق كافة، جمعتهم الخدمة العسكرية والقدر. استقبلونا كضيوف في اليوم الأول، ثم بدأنا نتعلم منهم فنون الحراسة، وكيفية تجنّب قناص العدو الذي كان يتمركز أسفل الجبل ويصيب المقاتلين من مسافات قريبة.
المعيشة كانت صعبة رغم توفر الأرزاق الجافة التي تأتي كل ثلاثة أو أربعة أيام، مع صمون “حجري” يحتاج إلى قوة لكسره قبل أكله. أما الحطب فكان روح الحياة بالنسبة لنا، فهو وسيلة البقاء الوحيدة أمام تلك الطبيعة المتجمدة وثلجوها القاتلة. والتي لم تكن تحمينا من القذائف التي كانت تسقط على الملاجئ بين حين وآخر.
في الأسبوع الأول قُصف ملجأ قريب منا واستشهد اثنان من المقاتلين، أحدهما يلدا ميخائيل من الاخوة المسيحيين من بغداد والآخر سيد عمران من الناصرية. وكانت طريقة إخلائهم لمستشفى ميداني معاناة بحد ذاتها. ورغم ذلك، كان الجميع يتأقلم مع الموت وكأنه رفيق دائم.
بعد أكثر من خمسين يومًا، انتهت مهمتنا. وكانت فرحتنا بالعودة كبيرة ولم تكن خوفًا من الموت، بل لأننا أخيرًا سنفارق ذلك الكابوس الذي كان يرافقنا في كل لحظة. ودّعنا جبل كردمند بثلوجه وملاجئه وصمونه الحجري وحطبه، وركبنا السيارة عائدين إلى ناحية ديانا. هناك استقبلني صديقي الذي لم يصدق أنني عدت حيًا، وكانت دموعه أبلغ من الكلمات.
اليوم تغيّر كل شيء كردمند الذي كان طريقه محفوفًا بالخطر أصبح متنزهًا سياحيًا، والجبل الذي لم تصعده سوى “الإيفا” والجيب صار مخترقًا بالأنفاق والطرق المعبدة السريعة. ذكريات الرعب تحوّلت إلى مجرد حكايات يرويها جيل عاش هناك بين الثلوج والموت، ثم ترك خلفه آثارًا لا تمحى.