ذكريات حمام العليل وامتحانات الطفولة

ذكريات حمام العليل وامتحانات الطفولة

كتب لي صديقي العزيز، العميد الركن رافع حميد حويجة، رسالة أعادتني إلى الماضي، إلى أيام مرت كلمح البصر، لكنها بقيت محفورة في الذاكرة بكل ما حملته من براءة وفرح صادق غير مصطنع. كتب لي قائلاً:
‏‏(( يا صاحبي أبو عبد، هل تتذكر امتحانات الوزاري للصف السادس الابتدائي في ناحية حمام العليل سنة 1974؟ كانت تلك أول مرة أتعرف فيها عليك… وإن شاء الله نبقى طول العمر أصحاب.))
‏‏نعم يا أبا أحمد، أتذكرها جيدًا، وأتذكر بعض أصدقائنا الذين أدّوا معنا تلك الامتحانات الوزارية. منهم من رحل إلى جوار ربه، ومنهم من ما زال القدر يجمعنا به في المناسبات العامة فقط.
‏ما أسرع السنين يا صديقي… ففي عام 1974 كان طلاب منطقة جنوب الموصل يؤدون امتحانات الصف السادس الابتدائي في ناحية حمام العليل، إذ لم تكن هناك مراكز امتحانية في قرانا. ولأن الطرق في تلك الأيام لم تكن ميسّرة كما هي اليوم، كنّا نقيم طيلة فترة الامتحانات في أحد البيوت القديمة في الناحية، ونعود بعدها كلٌّ إلى قريته.
‏كان استقبالنا في القرية بعد عودتنا يشبه استقبال المسافرين من خارج العراق، وكأن عشرة أيام من الغياب كانت سفرًا طويلاً. واليوم، وبفضل تطور وسائل النقل والتكنولوجيا، أصبحت حمام العليل تبعد نصف ساعة فقط عن قرانا، بينما كنا نعتبرها في الماضي رحلة كاملة بحد ذاتها.
‏أتذكر جيدًا صباحاتنا هناك… كنا نذهب إلى صاحب الفرن الوحيد في السوق، قرب الجامع القديم، لنشتري الخبز. ثم نشتري اللبن من النساء اللواتي كنّ يجلسن في ساحة مفتوحة قريبة، وكان اللبن يُقدَّم في أوعية صغيرة يسمونها “باطية”، وكان سعر الباطية عشرة فلوس فقط.
‏بعد الفطور، نتوجه مباشرة إلى المدرسة التي احتضنت قاعة الامتحانات، ننهي امتحاناتنا ثم نعود إلى المنزل المشترك الذي جمع تحت سقفه طلاب عدة مدارس من مختلف القرى. كانت لحظات مليئة بالود، والضحكات، والأحلام الصغيرة التي كانت تكبر في قلوبنا مع كل يوم جديد.
‏حين أستعيد أسماء أولئك الأصدقاء، يتألم قلبي كثيرًا… أغلبهم رحلوا في ريعان شبابهم، وخاصة أولئك الذين التحقوا بالكلية العسكرية وتخرجوا ضباطًا في الجيش العراقي. لقد أخذتهم حرب الثمانينات وهم برتب صغيرة، إذ كانت الحرب بحاجة إلى وقود دائم، وكنّا نحن الشباب وقودها تحت شتى المسميات التي رسمتها السياسة.
‏ذكرتني يا أبا أحمد بناحية حمام العليل، تلك البلدة التي لم تكن مجرد مكان امتحانات، بل كانت وجهة سياحية يقصدها الزائرون، ومنتجعًا مميزًا في محافظة نينوى. اشتهرت بكلية الزراعة والغابات، وبحماماتها المعدنية، وبكورنيشها الجميل. وكم تغنى الشعراء بتلّ السبت هناك، حيث جلس العاشقون مع حبيباتهم، وسهروا ليالي الربيع على ضوء القمر.
‏ها نحن اليوم يا صديقي، ننظر إلى الوراء، فإذا بين عام 1974 ويومنا هذا أكثر من خمسين عامًا مضت كأنها حلم عابر. لم تُبقِ لنا سوى الذكريات التي نستحضرها بحلوها ومرّها، فتفتح جروح الماضي وتعيد شجون الروح من جديد. كانت أيامًا بسيطة، لكنها غنية بالمعنى، وأحلامنا فيها كانت أجمل وأنقى من حاضرنا.
‏عزيزي رافع أبو أحمد…
‏لقد أعدتني برسالتك إلى تلك الأيام التي حملت في طياتها أجمل لحظات العمر. اليوم لم يعد لنا أغلى من الصحة، فهي أثمن ما يمكن أن نتمسك به في هذه المرحلة من حياتنا. أما بقية الأشياء فهي لا تساوي شيئًا أمام عافية الجسد وسلامة الروح.
‏تحياتي لك يا صديقي، ولكل من شاركنا تلك المرحلة، سواء من رحل عنا إلى دار الحق، أو من ما زال بيننا. وربما أجد أسماءهم يومًا ما في التعليقات حين يمرون على هذه الكلمات، فيبتسمون كما ابتسمتُ الآن وأنا أكتب هذه الذكريات.

أحدث المقالات

أحدث المقالات