تمثل قصيدة “لون أصفر” لمحمود درويش مثالًا واضحًا على أسلوبه في الجمع بين الرهافة الحسية والعمق التأويلي. هي نص قصير من حيث الحجم، لكنه مشحون بالدلالات الوجدانية والفلسفية.
تبدأ القصيدة بصورة بصرية هادئة: “أزهار صفراء توسع ضوء الغرفة”. هذه الجملة لا تنقل مجرد مشهد، بل تمنحه طاقة اتساع داخل فضاء مغلق، لتصبح الزهرة وسيطًا بين الخارج (الربيع والطبيعة) والداخل (الغرفة، الذات). اللون الأصفر هنا ليس صفة لونية فقط، بل يتحول منذ البداية إلى مفتاح تأويلي يتكرر ويتمدد مع كل سطر.
في الحوار الضمني بين الشاعر والأزهار يكشف النص عن علاقة وجدانية تتجاوز الإعجاب الجمالي إلى نوع من الشفافية المتبادلة، حيث يتحول الضوء إلى طاقة تطهير داخلي: “تضيئني وتذيب عتمتي”. هذه المراوحة بين الداخل والخارج، وبين الذات والموضوع، تعبر عن قدرة درويش على جعل الصورة البسيطة معبرًا عن تحول نفسي وفكري.
التأويل المجازي للون الأصفر باعتباره “لون الصوت المبحوح” و”صوت عباد الشمس الذي لا يغير دينه” يفتح النص على أفق فلسفي رمزي. اللون يصبح صفة للصوت، أي للحضور الوجداني والصمود الثابت أمام التغيرات. هذا التداخل بين الحواس (البصر، السمع، الإحساس الداخلي) يعكس ما يُعرف بالانزياح الحسي، وهو أحد ملامح شعرية درويش المتمكنة.
يربط الشاعر اللون الأصفر بالغيرة بوصفها دافعًا أخلاقيًا للتأمل وإعادة النظر في الذات، في صيغة من “فروسية الخاسر” التي تنطوي على اعتراف بالهزيمة مع الحفاظ على النبل. هذه النهاية تمنح النص بعدًا فلسفيًا وتمنع الصورة من الانغلاق في جمالية التأويل.
كلمحة أخيرة، تأسس النص على وحدة لونية تتحول إلى محور رمزي متعدد الدلالات، ويعتمد على التداخل الحسي التصعيدي للصورة البسيطة، ليبني جسرًا بين الجمالي والوجودي، وبين المشهد الملموس والتأمل العميق. هذه القدرة على استخراج المعنى من تفاصيل الحياة اليومية مع الحفاظ على النبرة الهادئة والشفافة هي من سمات شعر محمود درويش المميزة.
النص
لون أصفر
للشاعر محمود درويش
أزهارٌ صفراء توسِّع ضوء الغرفة. تنظر
إليّ أكثر مما أنظر إليها. هي أولى رسائل
الربيع . أهْدَتنِيها سيِّدةٌ لا تشغلها الحرب
عن قراءة ما تبقَّى لنا من طبيعة
متقشفة. أغبطها على التركيز الذي يحملها
إلى ما هو أبعد من حياتنا المهلهلة…
أغبطها على تطريز الوقت بإبرة وخيط
أَصفر مقطوع من الشمس غير المحتلة.
أُحدِّق إلى الأزهار الصفراء ، وأُحسّ
بأنها تضيئني وتذيب عتمتي ، فأخفّ
وأشفّ وأجاريها في تبادل الشفافية .
ويُغويني مجاز التأويل : الأصفر هو
لونُ الصوت المبحوح الذي تسمعه الحاسة
السادسة. صوت مُحايدُ النَّبرِ ، صوت
عبّاد الشمس الذي لا يغيِّرُ دِينَه .
وإذا كان للغيرة – لونِهِ من فائدة ،
فهي أن ننظر إلى ما حولنا بفروسية
الخاسر، وأن نتعلم التركيز على تصحيح
أخطائنا في مسابقاتٍ شريفة !