25 يوليو، 2024 10:41 م
Search
Close this search box.

حكومات .. وشعب !

Facebook
Twitter
LinkedIn

منذ بداية القرن العشرين توالت على سدة الحكم في العراق عدد من الحكومات تسلم بعضها الحكم إما نتيجة حدوث ثورات أو انقلابات كانت في معظمها دموية انتقامية خلفت وراءها (ومازالت) ثقافات انتقامية ونهايات مأساوية حزينه .. أما ضحايا الحروب العبثية فلا حصر لهم ولا عدد وجميعهم عراقيون من ابناء هذا الشعب المظلوم  .. وأخيرا” وليس آخرا” ثروات مهدورة انعم الله بها علينا ولم نحسن استغلالها طيلة قرن من الزمان حتى أوشكت على النضوب .
شهد العهد الملكي أول انقلاب عسكري (1936) قاده الفريق الركن بكر صدقي قائد الفرقة الثانية آنذاك والذي اغتال وزير الدفاع (جعفر العسكري) الذي ذهب للتفاوض معه , وكانت النتيجة اغتياله هو نفسه بعد أقل من عام .
 وكنتيجة لفشل ثورة رشيد عالي الكيلاني (1941) تم إعدام العقداء الأربعة وهي العملية التي دفعت العائلة المالكة بشخص الملك الشاب فيصل الثاني ونساء القصر الملكي ثم خال الملك الوصي عبد الاله ونوري السعيد الى النهاية المأساوية المعروفة مع قيام ثورة 14 تموز /1958 بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم الذي لم يخلوا عهده من مآسي تمثلت في المحاكمات الشهيرة للعقيد فاضل عباس المهداوي  وأحكام الإعدام بحق المعارضين العسكريين والمدنيين , ولايمكن نسيان المجازر التي حدثت في كل من كركوك والموصل (1959) وما تخللها من “ثقافة انتقام” بسحل المعارضين في الشوارع .
لم تشفع انجازات الزعيم عبد الكريم قاسم له بعد كل تلك الأحداث المأساوية التي اقترنت بعهده , فكانت نهايته أيضا” مأساوية بطلقة في الرأس (في دار الاذاعة) حيث لم يتحمل قادة الانقلاب البعثي الاول في 8 شباط 1963 الانتظار لمحاكمته ثم اعدامه لاضفاء نوع من الشرعية على الحادث والسبب ببساطة يعزى كذلك لسيطرة “ثقافة الانتقام” .
 لم تمضي سوى بضعة اشهر حتى حدث انقلاب ضد البعثيين في 18 تشرين الثاني نفس العام  قبل ان يعودوا مجددا” للحكم  بثورة البعث في 17 تموز عام/1968 التي اطلقوا عليها اسم الثورة البيضاء كدليل على عدم اهراق قطرة دم واحدة اثناء قيامها , الا أن هذا البياض لم يدم طويلا”  فقد بدأ الرفاق بتصفية بعضهم كابعاد عارف عبد الرزاق (30 تموز) واعتقال عبد الخالق السامرائي ثم اغتياله في السجن واغتيال حردان التكريتي وعبد الكريم الشيخلي وغيرهما.
يمكن اعتبار عقد السبعينات الأفضل من حيث البناء والاعمار حيث شهدت العاصمة بغداد تطورا” ملموسا” بانشاء الشوارع المعلقة (السريعة) والعمارات السكنية في شارع حيفا وقاعة المؤتمرات التي كان مقررا” لها أن تستضيف مؤتمر دول عدم الانحياز بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي , وإنشاء الأسواق المركزية في معظم المحافظات العراقية , ولا ننسى تأميم النفط عام 1972 اعتمادا” على الكوادر العراقية الكفوءة  والمتخصصة , وشهدت الجامعات العراقية تطورا” نوعيا” ملموسا” باعتراف الجامعات العالمية ومنها البريطانية والامريكية بالشهادات التي تمنحها جامعاتنا وقبول طلبتنا للدراسات العليا فيها بسهولة , كما شهدت بناء الاقسام الداخلية الحديثة للطلبة الوافدين من محافظات أخرة والذين كانوا يمنحون راتبا” شهريا” قدره (15) دينارا” كانت كافية لتؤمن حياة كريمة للطلاب بالاسعار التي كانت سائدة في حينه ولابد أن الكثيرين منكم يتذكرون جيدا” تلك الحقبة ومنهم بعض سياسيينا الحاليين , اما على المستوى السياسي فقد شهدت توقيع اتفاقية 11 آذار 1970 بمنح الأكراد حكما” ذاتيا” .. وقيام حرب أكتوبر 1973 مع الكيان الصهيوني ثم حركة الأكراد عام 1974 في الشمال والتي انتهت بتوقيع اتفاقية الجزائر 1975 بين صدام حسين وشاه إيران التي كانت تدعم الأكراد عسكريا” آنذاك .
يبدو أن دوام الحال من المحال في العراق اذ عصفت به الخلافات السياسية واضطر البكر إلى التنحي عن الحكم الذي استقر لصدام حسين في تموز/1979 حيث شهد نفس العام إعدام العديد من الرفاق البعثيين في المؤامرة المزعومة للمجموعة التي اتهمت بالتآمر لمصلحة البعث السوري وعلى رأسهم محمد عايش وعدنان الحمداني ورفاقهما , ثم لم يمضي عام واحد فقط (لاحظوا تسارع الأحداث) حتى اندلعت شرارة الحرب مع إيران نتيجة تصرفات رعناء من سياسيي كلا البلدين  واستمر نزيف الضحايا من الشعبين لثمانية أعوام كاملة حافلة بالمآسي والضحايا وتدمير البنى التحتية للبلدين لدرجة ان الدول التي تنتج السلاح وتجار ومافيا السلاح قد جمعوا  ثروات مالية ضخمة على حساب ضحايا الشعبين العراقي والإيراني معا”  وصرّفوا أسلحة وعتاد بالمليارات ماكانوا يحلمون ببيعها كحديد خرده , ولكنها استنزفت خزينتنا مثلما استنزفت دماء أبناء شعبنا.
 ثم ما ان تنفس الشعب العراقي الصعداء بعد اعلان وقف اطلاق النار وانتهاء الحرب في الثامن من آب عام 1988  واستبشر ببداية عهد جديد من السلم والحياة الحرة الكريمة حتى كان موعده مع ما هو اشد وأقسى ب الأحداث والتداعيات التي أدت إلى اجتياح الكويت في الثاني من آب عام 1990 لخلافات تافهة حول اسعار النفط بحجة أن الكويت (التي كان موقفها استفزازيا” أيضا” واستغلت ظروف العراق بقضم كيلومترات من الحدود العراقية في حينه) وكذلك دولة الإمارات تتعمدان إغراق السوق العالمية بالنفط لتنخفض اسعاره فيتضرر العراق الخارج لتوه من حرب الثمان سنوات مع إيران وتتأثر عملية البناء والاعمار فيه .. هكذا ببساطة وكأن دولة الكويت العظمى هي التي تتحكم باسعار البترول العالمية , متناسين أن لا الكويت ولا اي دولة خليجية اوعربية بقادرة على إنتاج برميل واحد من النفط دون مساعدة الدول الأوربية وأميركا من خلال شركاتهما العالمية المعروفة بالمعدات وأبراج الحفر التي يصنعونها , فاشتعلت شرارة حرب الخليج الأولى (17 كانون الثاني 1991) بقيادة الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها الذين بلغ عددهم (33) دولة بما فيهم بعض الدول العربية والتي دمرت البنية التحتية وألحقت بأبناء الشعب العراقي الذين سيقوا الى تلك الحرب خسائر فادحة ولم تسلم محافظة عراقية من القصف والتدمير والشهداء من المدنيين الأبرياء ..
ثم كانت انتفاضة 1991 (الشعبانية) التي بدأت مع التوصل إلى وقف إطلاق النار في خيمة صفوان الشهيرة مع الجنرال الأمريكي (شوارزكوف) والتي كانت نتيجتها المزيد من المقابر الجماعية واحتراق عدد من دوائر الدولة ومؤسساتها فضلا” عن عمليات السلب والنهب التي حدثت , والشعب هو الخاسر الوحيد دوما” .
أعقبت كل تلك الأحداث فترة من الحصار الاقتصادي الذي فرضه مجلس الأمن الدولي على العراق دامت (13) عاما” كان أبناء الشعب هم أكثر المتضررين منها , وكالمعتاد فقد دفعـوا  ثمن السياسات الحكومية الرعناء , فقد توفي العديد من أطفالنا ونساءنا وشيوخنا وعانى مرضانا الكثير من نقص الأدوية والأجهزة والمعدات الطبية وانقطع العراق عن العالم الخارجي من حيث التقنيات الحديثة والتطور العلمي والتكنلوجي وتدنى مستوى التعليم في المدارس والجامعات , واضطر ابناء شعبنا لتناول الرمل والشوائب المخلوطة مع طحين الحصة التموينية وهاجر منه من هاجر بحثا” عن لقمة العيش , وأصبح العراق أشبه بالسجن الكبير لان لصعوبة السفر البري خارج العراق بسبب حظر الطيران بكافة إشكاله وأنواعه ولفرض رسوم سفر عالية جدا” لايتمكن من دفعها سوى الميسورين وتجار الحروب الذين اغتنوا على حساب معاناة الشعب الصابر .
 ومع كل تلك المعاناة بدأت خيوط الحرب على العراق بحجج شتى تتوالى إلى أن بدأت حرب الخليج الثانية في آذار من عام 2003 حيث انهالت الصواريخ وقنابل الطائرات على رؤوس أبناء شعبنا في جميع مناطق العراق ودمرت ماتبقى من البنى التحتية وخاصة الكهرباء واستخدم اليورانيوم المنضب الذي سرعان ما بدأت نتائجه بالظهور بشكل ولادات مشوهة وأمراض سرطانية مختلفة بلغت (7) آلاف حالة سنويا حسب الاحصاءات الرسمية واصيبت ثروتنا الزراعية والسمكية بهجمات غريبة واوبئة غير معهودة يعلم الله الجهات التي تقف وراءها وغيرها الكثير , ودمرت أو تعطلت صناعتنا , وغزت أسواقنا مخلفات العديد من الدول من سيارات قديمة  وأثاث ومعدات ثم مواد غذائية ومعلبات كما تأثرت زراعتنا سلبا” وفتحت أسوقنا لكافة منتجات دول الجوار بصورة خاصة الردئ منها قبل الجيد  , مع ذلك لم تقصر تلك الدول معنا بشئ فقد خفضت حصصنا المائية أو قطعتها وتجاوزت على حدودنا وصدرت إلينا العبوات الناسفة واللاصقة والإرهابيين كي تشغل المحتل عن بلدانها أو لغاية في نفس يعقوب بدل أن تمد يد العون لحكومتنا الفتية التي كان معظم اركانها مقيمين في تلك الدول , وفي كل الاحوال كان شعبنا الصابر هو من يدفع الثمن.
وهكذا تلاحظون أن أبناء الشعب هم من دفع ومازال يدفع ثمن السياسات الرعناء للحكومات المتلاحقة المتعطشه للانتقام من كل من سبقها وفقد العراق إضافة إلى الخسائر المادية خيرة أبنائه من أطباء وعلماء وأساتذة وقادة عسكريين لاذنب لمعظمهم فيما انتهجته حكوماتهم وطيارين حتى أننا بدأنا من الصفر تقريبا” في تأسيس كل شئ وفي ذلك أبشع صورة من صور ” ثقافة الانتقام” من العراق وشعبه.
لا اعتقد أن هنالك بلد في العالم حدثت به ثورات وانقلابات وخاض حروبا” ضروسه وتغيرت حكوماته خلال الـ (100) عام الماضية  وغير دستوره وعلمه وسلامه الجمهوري عدا العراق ,  فماذا استفاد الشعب من كل ذك؟.
ولا أعتقد أن هنالك بلد في العالم يمتلك من الثروات الطبيعية والموارد المائية والسياحة الحضارية والدينية والطبيعة الجغرافية من الجبال الى السهول والى الصحراء مثلما جمعت في بلد واحد كالعراق , فماذا استفاد  الشعب الذي ما زال يطمح بالحصول على الكهرباء التي يبدو أنها أصبحت حلما” بعيد المنال , والعالم من حولنا قد وصل الى مراحل متقدمة في البحث عن الطاقة البديلة .. فاحدى مدن الصين تعتمد في تغطية 99% من احتياجاتها من الكهرباء على خلايا الطاقة الشمسية ؟ .
في الوقت الذي تتناحر فيه القوى السياسية بمختلف مسمياتها عندنا على هذه الكرسي أو تلك فان بقية البلدان تنموا وتتعمر , تبني وتتعلم , وتزدهر فيها العلوم والآداب والفنون بشتى فروعها , وأبناء العراق من الأطباء والعلماء والأدباء والفنانين منفيين في ارض الله الواسعة تارة لأنهم كانوا معارضين لذلك النظام وطورا” لأنهم مضطهدين من قبل هذا النظام وهلم جرا” , فمن هو المستفيد؟.
منذ سنوات والحديث عن “المصالحة الوطنية” التي لاتحلوا الا اذا عقدت مؤتمراتها في اسطنبول أو بلجيكا أو ألمانيا أوفي اليابان قريبا” بدعوة من الوزير الياباني الذي زارنا مؤخرا” ,  فهل زعل الشعب من بعضه  حتى  يأتي من يريد أن يصالحه ؟.
ونحن كشعب يحق لنا أن نتساءل : من قال لكم اننا بحاجة لمصالحتكم؟ فما يربطنا أقوى بكثير رغم كل محاولات الاعداء المتربصين بنا , فللعشائر العراقية امتدادات جغرافية وعرقية وطائفية . وشعبنا يرتبط بعلاقات المصاهرة والنسب وما أكثرها بين مختلف فئاته وقومياته فلمن المصالحة إذن ؟.
لا اهدف من مقالتي هذه الوقوف مع طرف ضد طرف آخر , فالطرف الوحيد الذي أقف الى جانبه وتهزني معاناته هو أبناء شعبنا الصامد , هم أمهاتنا وآبائنا , نسائنا وأطفالنا الذين نتمنى لهم حياة كريمة .
رسالتي للكتل السياسية كافة والى الحكومة الحالية خاصة أن ينظروا جميعهم بعين واحدة إلى أبناء الشعب (بكافة فئاته) لأنه تعرض إلى المآسي والظلم على يد الحكومات السابقة على مدى قرن من الزمان وتذوق المر من الثورات والانقلابات والصراعات والحروب العبثية التي استنزفت دمائنا وطاقاتنا وثرواتنا وثروات أجيالنا اللاحقة وأن يفعلوا كل ما بوسعهم من أجلهم , وأن ينبذوا خلافاتهم على مكاسب اغلبها شخصية وان تسموا أخلاقياتهم فوق مستوى ” ثقافة الانتقام ” لأنها والله سلاح ذو حدين كما لاحظتم أخشى أن تدمرنا جميعا” أو أن تفرقنا أشتاتا” متناحرة لاسمح الله .
 انظروا إلى أين وصلت الدول المجاورة لنا , بل انظروا إلى كردستان , أليسوا هم شركائكم في العملية السياسية , فما هو عذركم أمام أبناء شعبكم ؟.انتبهوا للعراق وحافظوا على اسمه بين الأمم ولا ترهنوا مقدراتنا بدول الجوار الإقليمية مهما ادعت حبها ودعمها لكم  تحت أية مسميات طائفية أو قومية فإنها والله لاتسعى سوى لمصالحها الخاصة , ولا تسلموا العراق بيد محتل جديد بعد أن تباهيتم بانسحاب المحتل الأمريكي فعيون الله والشعب تراقبكم , اعملوا على أن لايكون العراق ساحة لتصفية الحساب بين هذه الدول مع بعضها أو مع المحتل فقد تعب شعبكم واجهد وضحى مافيه الكفاية أو يزيد , اصنعوا لشعبكم كيانا” تحترمه كافة دول المنطقة والعالم , هكذا تنالون حبه بكافة فئاته وأطيافه , ولا أجد أفضل من أن اختم واذكّر بالآية الكريمة ” وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون – صدق الله العظيم”.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب