9 أكتوبر، 2024 3:48 ص
Search
Close this search box.

حكاية التركمان في بلاد الشام التي لم تحكى بعد

حكاية التركمان في بلاد الشام التي لم تحكى بعد

ورد أقدم ذكر للـ “تركمان” في كتاب (أحسن التقاسيم) للجغرافي العربي الكبير المقدسي البشارى (4هـ/10م) وذلك أثناء وصفه مدينتي (بروكت) و(بلاج) الواقعتين على نهر سيحون.والتركمان هم شعب تركي يعيش في تركيا وتركمانستان وأذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان وقيرغيزستان وجزء من الصين يعرف بتركستان الشرقية وجزء من أفغانستان وفي شمال شرق إيران وشمال العراق وفي أنحاء متفرقة من سوريا ولبنان وفلسطين.يَتكلّم التركمان بشكل عام اللغةَ التركمانيةَ، وهي إحدى لهجات اللغة التركية التي تبلورت كلغة مستقلة. وكان تعبير التركمان قد استخدم تاريخيا كمرادف لتعبير “الغز” وهي قبائل سكنت خلال عهود أواسط آسيا ، ولعل هذا التعبير شاع وتعمم عندما بلغت لسلاجقة الأوائل مبلغ القوة والسيادة. وردت لفظة التركمان في كتاب (تاريخ سيستان) لمؤلف مجهول من القرن الخامس. ويبدو أن هذا الكتاب ألف بأقلام ثلاث مؤلفين وفي ثلاث فترات. وأن كلمة التركمان لها علاقتها بدخول السلاجقة إلى منطقة سيستان وذلك عام 428هـ / 1026م، وهنا يقصد المؤلف بالتركمان جماعات السلاجقة

وردت اللفظة في تاريخ أبن الفضل البهيقي (ت 470/ 1077) مع الإشارة إلى السلاجقة فيدعوهم المؤلف مرة بالتركمان وأحيانا فرق بينهم وبين السلاجقة. وكذلك يشير إليهم بالتركمان السلاجقة وفي مواضع أخرى يكتفي بالقول بالسلاجقة. ومن المحتمل أن المؤلف ميز مجموعة معينة من التركمان (الغز) قادهم من جماعات التركمان الآخرين الذين جاء قسم منهم قبل السلاجقة نحو جهة المغرب وآخرون تدفقوا نحو هذه البلاد بعد الحملات السلجوقية

وفي كتاب (زين الأخبار) للغرديزي من القرن الخامس عشر (الحادي عشر) يسمى المؤلف جماعات السلاجقة بالتركمان فتجده يسمي (جغري بك داود) بـ (داود التركماني) ومرة أخرى يذكره (داود) مجرداً من أي لقب كما يسمي (طغرل بك) بـ (طغرل التركماني) أو طغرل وحده دون أن يلحق به لقباً ما، فيبدو أن هذا التعريف شاع بقيام السلاجقة الأوائل وأستخدم فيما بعد لدلالة على جميع قبائل الغز سواء كانوا أتباع السلاجقة أو غيرهم.وهناك مؤلفون فرقوا بين “التركمان” و”الغز”. ولعل سبب ذلك كما يقول (مينورسكي) : “أن السلاجقة استحسنوا لأتباعهم تعريفاً معيناً ليميزوا أنفسهم عن القبائل الغزية الأخرى”.كانت الحروب والفتوحات سببا رئيسا لهجرة التركمان مواطنهم الأصلية في أواسط آسيا وتدفقهم للاقامة في البلدان والأقاليم المجاورة كالعراق وبلاد الشام وغيرها. ففي العراق الذي يشكل فيه التركمان اليوم مكونا رئيسيا في خريطته العرقية (3% من السكان)تواجد التركمان منذ سنة 54 هجرية، حيث استدعى القائد الأموي عبيد الله بن زياد (2000) من الأتراك إلى البصرة كجنود خدمة. وقد بدأ إطلاق اسم التركمان على أتراك العراق في عهد السلاجقة، حيث يتفق المؤرخون إن هذه التسمية لا تعني بأي حال من الأحوال عرقا آخر غير الترك، كما يتفقون أن مصطلح التركمان أطلق على قبائل الغز بعد اعتناقهم الإسلام. واسم التركمان جاء نتيجة دمج كلمتي (ترك وايمان).من جهة أخرى يلاحظ الؤرخون أن طلائع التركمان التي دخلت بلاد الشام، وفلسطين بشكل خاص مع القائد صلاح الدين الايوبي فتحت الباب امام هجرات التركمان التي تدفقت خلال العهود اللاحقة واستوطنت سورية ولبنان وغيرها. الا أن فتوحات العثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول لبلاد الشام ( 1416) والعراق (1417) شكلت الانطلاقة الفعلية لاستيطان التركمان في العراق وبلاد الشام

ومع دخول الحرب في سوريا عامها الثالث سلّط قصف نظام للمنطقة الشمالية من حلب الضوء على مسألة السكان التركمان السوريين.فتواجد التركمان السوريين المتمركز بكثافة في محافظة حلب كان جزءاً مكمّلاً من التراث السوري لفترة تنوف عن ألف سنة. ولفتت التوترات المتزايدة في شمال العراق الذي يحتضن أيضاً كثافة عددية ضخمة من السكان ذوي الأصل التركماني النظر إلى نضال التركمان في الشرق الأوسط.ولا يجب الخلط بينهم وبين الترك في تركيا والتركمان في تركمانستان؛ فإن الشعب التركماني في الشرق الأوسط لقي القليل جداً من الاعتراف بوجوده منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية في أوائل القرن العشرين، ومع الأسف، فإن أكثر الناس الذين لا علم لهم بالتنوع العرقي في الشرق الأوسط يجهلون حقيقة وجود شعب كهذا في المنطقة؛ مع أن الملايين من التركمان ممن تشتتوا فيها لم يعيشوا لما يزيد عن ألفية كاملة فحسب، بل وحكموها لأكثر الوقت.يتحدّر التركمان من قبيلة أوغوز (الغُزّ) ذات العرق التركي والتي ترجع في الأصل إلى أواسط آسيا. ويُعتقد بأن أول وصول للتركمان إلى منطقة الشرق الأوسط كان في القرن السابع الميلادي حين أتى عبيد بن زياد القائد العسكري في العراق أيام الدولة الأموية بأكثر من 1000 تركي من الأوغوز وضمّهم إلى جيشه. واستمرت هجرة التركمان إلى العراق بعد أن استولى العباسيون على الخلافة التي كانت في يد الأمويين. وبدأ التركمان شيئاً فشيئاً يعتنقون الإسلام بشكل فردي، وتماهوا مع السكان العرب هناك. ويقول الباحث التركماني محمد مختار فاتح إنه قبل دخول التركمان إلى الدين الإسلامي كانوا شامانيين في القرن الرابع للهجرة.والشامانية مذهب يقوم على الكهانة والسحر والاشتغال بالطب بالاستعانة بالقوى الفائقة للطبيعة، وكان واسع الانتشار بين القبائل البدوية التي تعيش في سهول آسيا وسيبيريا، وقد بقيت آثار الشامانية بادية بشكل أو بآخر في عقائد التركمان بعد إسلامهم، وذلك بتأثير الدراويش الجوابين والمتصوفة الذين نشروا الإسلام بينهم كالقلندرية والحيدرية وغيرهما، ومن ذلك أنهم أخذوا أسماء إثني عشر صنفاً من الحيوان سموا بها إثنتي عشرة سنة من سنينهم.وظل التركمان بعد هجرتهم إلى آسيا الصغرى متأثرين بهذه الأفكار في حين انقرضت الديانات السابقة بينهم ولم يبق لها بقية إلا في بقاع قليلة

وجاء الأوغوز الذين استقروا في آسيا الصغرى بجميع مأثوراتهم الأدبية. ويقول كثيرون إن الأدب العثماني ليس إلا أدب الترك الأوغوز الذين استقروا في آسيا الصغرى أيام العثمانيين.لقد ولد الخليفة العباسيّ المعتصم (833-842م) من أمّ تركمانية. وفي عهده انضمّ التركمان إلى الجيش بأعداد كبيرة حتى أنهم باتوا مسيطرين لدرجة تمكّنوا فيها من اغتيال الخليفة ’المتوكل على الله‘ في عام 861م، واستبدلوا به الخليفة المنتصر. وكان للسلاجقة – أحفاد قبيلة الغُزّ أيضاً ومؤسسو الامبراطورية السلجوقية العظيمة فيما يعرف اليوم بشمال شرق إيران- دور في انتصار العباسيين على البُوَيهيّين في القرنين العاشر والحادي عشر. حينئذٍ استقرّت الخلافة من جديد في يد العباسيين بعد هزيمة البُوَيهيين فاتخذوا بغداد عاصمة لهم، ولكن الشرق الأوسط من إيران إلى البحر المتوسط بات تحت السيطرة السلجوقية.بدأ التركمان يستوطنون في مدن رئيسية كتلّ عفر وأربيل وكركوك ومندلي تحت قيادة السلطان ركن الدين طغرل بك. وكان للتركمان في بلاد الشام أيضاً دور مهم في طرد الغزاة خلال الحملة الصليبية المسيحية على الشرق الأوسط؛ ودُعموا حينها من قبل الجيوش المملوكية في مصر التي كانت تتشكل في الغالب من جنود أتراك من قبيلة قبجاق. وقد كانت إمارة تُتش وإمارات الأرطقيين والزنكيين والأيوبين من المماليك والسلاجقة الذين استقروا في المنطقة في القرن الثاني عشر للدفاع عن الأرض المقدسة؛ إلا أنّ الشرق الأوسط شهد دماراً عظيماً حين اكتسح المغول آسيا وجاسوا في بغداد يعيثون فيها فساداً وخراباً، منهين بذلك الخلافة العباسية في القرن الثالث عشر.ومن السخرية بمكان أن كثيراً من الجنود في الجيش المغولي كانوا أتراكاً أيضاً من قبائل أواسط آسيا قد تم إلحاقهم بالجيش؛ ولم يكونوا بعد قد تعرفوا على الإسلام على عكس أولاد عمومهم من المماليك والسلجوقيين. فاستوطنت الجيوش المغولية في الشرق الأوسط بعد أن سطرت تاريخاً من الموت والخراب لم يسبقهم إليه أحد وبعد أن تابعوا قتالهم حتى هُزموا على أبواب مصر على يد المماليك. ثمّ مضى قرن أو أكثر حتى شرع المغول باعتناق الإسلام وبدؤوا التآلف مع المجتمعات المحلية وثقافتها.وقد تلا انحلال الدولة السلجوقية العظيمة نشوء إمارات جديدة عرف كلّ منها بـ”بايليك” (إقطاعية أو عِزْبة) في الأناضول وبلاد الشام؛ عندما كانت تتشكل ممالك في العراق وإيران كأمثال الصفويين. وفي منتصف القرن الثالث عشر تأسست إمارة في شمال غرب الأناضول عرفت بإمارة بني عثمان وما لبثت تتوسع في البلقان ووسط الأناضول حتى أصبحت ما يعرف رسمياً بالامبراطورية العثمانية.تعززت شرعية الامبراطورية العثمانية في المنطقة حين هزم السلطان سليم الأول المماليك في مصر في أوائل القرن السادس عشر في معركة مرج دابق شمال سوريا ليحظى هو بالخلافة. وحسب سجلات الإحصاء السكاني للامبراطورية العثمانية في عام 1518 فقد كان عدد السكان في حلب 54276 نسمة منهم 36217 تركمانياً. والأمر ذاته بالنسبة للمنطقة، فقد خضعت لبنان للحكم العثماني الذي ترك الكثير من جنوده هناك كقاطنين مستقرين.لقد حصّن السلطان سليمان القانوني بن السلطان سليم الأول شمال العراق من خصومه الصفويين عام 1534. وبعد احتلاله أُحضر التركمان من الأناضول إلى المنطقة – وكانوا يتبعون إلى الطائفة السنية المسلمة- ليحصل التوازن في المنطقة مع وجود الأتراك الأذريين الشيعة الذين كان الشاه اسماعيل الصفوي قد أحضرهم إلى العراق في أوائل القرن.وفي ظلّ حماية العثمانيين ازدهر المجتمع التركماني في الشرق الأوسط فتمكنوا من التآلف مع جيرانهم العرب؛ وفي الوقت ذاته حافظوا على هويتهم العرقية واللغوية لقرون. وتدفقت مجموعات جديدة إلى المنطقة كلاجئين بسبب انهيار الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر مع آلاف من أتراك جزيرة كريت، والذين استقروا في لبنان هرباً من الاضطهاد في اليونان عام 1897. وبنى السلطان عبد الحميد الثاني مدينة الحميدية في لبنان لأتراك كريت الهاربين من وطنهم الأم؛ كما أن كثيراً منهم استقروا في طرابلس الشام والتي تؤوي حتى الآن حوالى 10 آلاف تركي كريتي.من بعد ذلك وبعد انهيار الدولة العثمانية ألحقت جزيرة قبرص ببريطانيا التي أساءت استخدام السلطة فيها من خلال استغلال التوازن الاقتصادي في الجزيرة والاستيلاء على كل الممتلكات العائدة للأوقاف والتي كانت تمثّل الثروة المجتمعية المشتركة بين القبارصة الأتراك. ومن استطاع الفرار من الجزيرة فعل ذلك؛ فغادروا بالآلاف إلى تركيا في أوائل القرن العشرين تاركين ورائهم العالقين بسبب فقرهم.ثمّة تقديرات متعددة حول عدد التركمان المقيمين في الشرق الأوسط في الوقت الراهن. وقد كانت عمليات الإحصاء التي قامت بها أنظمة أحزاب البعث العربية في سوريا والعراق محل انتقاد التركمان لأنها لا تبيّن أعدادهم الحقيقية. وبينما حدّت بعض الجهات أعداد التركمان بنصف مليون في الشرق الأوسط، أعلنت مصادر أخرى أن الشرق الأوسط يحوي ما بين ستة إلى سبعة ملايين تركماني يقطنون في مدن ككركوك وأربيل وحلب واللاذقية. وقد قام التركمان العراقيون في عام 1923 بحملة طالبت تركيا بضم الشمال العراقي المعروف حينئذٍ باسم مدينته الأساسية “الموصل”. ولا يزال التركمان يحاولون التواصل مع تركيا كي تدعمهم في الحرب الأهلية السورية الحالية ضد اعتداءات النظام السوري والمجموعات المرتبطة بالقاعدة عليهم.واشتهر التركمان بصنع الطنافس (نوع من الأنسجة) التركمانية، ولا تزال شهرتها إلى الوقت الحاضر، وتقوم النساء والفتيات بصنعها، كما كان التركمان من أحذق الناس بعمل اللبود لأنه لباسهم، وكانوا يصنعون سهامهم من العظام، نظرا لشح الحديد في أراضيهم، وليس للتركمان في تركستان زرع إلا الدخن، وكان غذاؤهم ألبان الإبل ولحومها، وأكثر ما يأكلون لحوم الصيد. وينظر إلى التركمان عموماً على أنهم رجال حرب ماهرون في الرماية من على ظهر الخيل، وكان القائد العسكري عندهم يعرف بلقب شباسي (أوشوباصي). وكان الشعر من أبرز معارف التركمان، وجل شعراء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من قبيلة غوكلن التركمانية، ويرجع ذلك إلى أنها قد أخذت في حياة الاستقرار قبل غيرها من القبائل، وفي طليعة هؤلاء الشاعر مخدوم قلي ووالده دولت محمد ملاَّ آزادي.و ظهر من بين التركمان علماء في اللغات، كان من أشهرهم محمود بن الحسين الكاشغري الذي ألف أول معجم عربي تركي سماه “ديوان لغات الترك”، وقد أخذ معلوماته عن أنسابهم وأحسابهم من الأمير إينانج الذي كان من أسنِّ القوم وأعرفهم بأنسابهم. كما صنف بعضهم في التاريخ، وحوى كتاب “ملك نامه” أخبار التركمان والسلاجقة

وبعض النظر عن أعدادهم الدقيقة، فإن الأتراك المتحدرين من الغزّ والقاطنين في الشرق الأوسط قد يصعب القول أنهم أقلية بالمعنى المعتاد للتعبير الديموغرافي (المتعلق بالتعداد السكاني)، كما لا يمكن القول أنهم اندمجوا في العالم العربي؛ بل يمكن القول أنهم جزء أساسي من فسيفساء الشرق الأوسط والتي لا يمكن اكتمالها بغيرهم وسيظلون كذلك. فهم لم يعيشوا جنباً إلى جنب مع العرب والأكراد وغيرهم من المجتمعات لقرون عديدة فحسب، بل وتزاوجوا وتناسبوا معهم وتشاركوا معهم اللغة والثقافة وتاريخ المنطقة؛ وبالتالي ساهموا في إغناء الحضارة والتراث الذي تشترك فيه جميع شعوب الشرق الأوسط

المصادر
صحيفة العرب السبت 31 يناير/كانون الثاني 2015، العدد: 9814
صحيفة اخبار العالم السبت 05 أبريل 2014
التركمان … حكاية شعب عريق التي لم تحكى. بعد د.مختار فاتح
كتاب أقليات في شرق المتوسط تأليف الكاتب السوري فايز سارة
كتاب، اسكان العشائر في عهد الإمبراطورية العثمانية ترجمة فاروق مصطفى
كتاب البرق الشامي/ القاضي الفقيه الإمام عماد الدين الأصفهاني
كتاب تاريخ دول الأتراك والترك كاتب تركي كامران كورون
كتاب النفحة المسكية في تاريخ الدولة التركية في مصر- مخطوطة في جامعة كمبردج لندن
كتاب نهر الذهب في تاريخ حلب – كامل الغزي
كتاب الاغوز للكاتب التركي فاروق سومر

http://mukhtarfatih.blogcu.com/-/19973246

أحدث المقالات

أحدث المقالات