في عمق الريف البابلي، حيث تنبض الأرض بسرديات الأجداد وتتشبث الحكايات بجذور النخيل، وُلد القاص حسين مبدر الأعرجي في قرية “حويش السيد” عام 1960، ليكون ابن المكان وسارد أوجاعه، وراصد تغيراته الصامتة. من هناك، من الفضاء الذي يختزن في طينه الغابر كل احتمالات الحنين، بدأت أولى بذور السرد في روحه تتفتّح، قبل أن يصقلها الدرس والعراك الحياتي الطويل.
لم يكن الأعرجي قاصاً بالمعنى التقليدي، بل كان أشبه بمُؤرِّخ شعبي، اختار القصة وسيلة لاستعادة المشاهد المنسية، ونبش التفاصيل التي دفنتها العجلة المعاصرة. ابتدأ تعليمه في الحلة، وتخرج في المعهد الزراعي الفني ببغداد، ثم واصل شغفه بالكلمة فدرس الإعلام في الجامعة الهولندية – قسم الصحافة. ولأن السارد الحقيقي لا يقف عند أبواب التخصصات، بل ينفتح على التجربة، فقد نهل من الحياة أكثر مما نهل من الكتب.
اشتغل موظفًا في دوائر الدولة، لكنه ظل في قرارة نفسه كاتبًا ينتظر لحظة البوح. وعندما تقاعد، لم يتقاعد عن الإبداع، بل انخرط في العمل الثقافي، فكان عضوًا فاعلًا في اللجنة الثقافية لمجلس محافظة بابل، ومديرًا لهيئة التراث، ومسؤولًا عن نادي السرد في اتحاد أدباء بابل.
ولم يكن نشاطه الأدبي حكرًا على المؤسسات الرسمية، بل انتمى إلى فضاءات أوسع؛ فقد كان:
عضو اتحاد الأدباء والكتاب في بابل
عضو جمعية الرواد الثقافية المستقلة
عضو الهيئة الإدارية لمؤسسة التواصل الإعلامية
عضو منظمة بنت الرافدين
مؤسس رابطة “تراثنا غايتنا“
عضو الهيئة الإدارية لمتحف “هن الحياة“
مدير تحرير جريدة الحقائق
أما إبداعه، فكان شهادةً على عصر متقلب، وقلبٍ ظل وفيًا لنبض الناس البسطاء. في روايته “فم الحقيقة”، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية، اختلطت اللغة بالتأمل، والحبكة بالوعي، فجاء العمل محمولًا على أكتاف الواقع، دون أن يتخلى عن مسحة الحلم. وفي روايته “الحب وعاصفة ووهان”، المنشورة في زمن الجائحة، قدّم نصًا يمزج الحب بالخوف، والإنسان بالجائحة، في مشهد سردي استثنائي جعل النقاد يتوقفون عنده بوصفه نموذجًا لكتابة اللحظة الساخنة دون الوقوع في فخ الوثائقية المباشرة.
وقد وصفه الناقد الدكتور علي حداد بأنه كاتب يتمتع بقدرة عالية على تحويل المشهد اليومي إلى لحظة درامية نابضة بالحياة، مستفيدًا من خلفيته الصحفية في اقتناص التفاصيل الصغيرة وإعادة بنائها سرديًا. أما القاص حيدر الأسدي، فرأى فيه امتدادًا لكتّاب الريف الذين لا يزالون يؤمنون بقيمة السرد في توثيق التحولات الاجتماعية بصوت إنساني حميم.
قصص الأعرجي، التي نُشرت في مجلات مثل الرافد الخليجية، الطليعة الأدبية، ألف باء، تجنح إلى التصوير الواقعي، لكنها لا تنغلق على نمط واحد، بل تتقاطع فيها ثيمات الإنسان المهمّش، والسلطة الجائرة، والحب المستحيل، في لغة رشيقة لا تغرق في التزويق، بل تسير نحو المعنى بجرأة وهدوء.
ولأن الجوائز لا تأتي مصادفة، فقد حصد الجائزة الأولى في مسابقة الغد الثقافية عام 2009، ثم الجائزة الأولى في مسابقة المفكر عالم سبيط النيلي التي أقامها اتحاد أدباء العراق في بابل، وهو ما أكد مكانته في المشهد القصصي العراقي، لا سيما في بيئة بابل التي أنجبت أقلامًا مشرقة.
ورغم ما صدر له، فإن ما لم يُنشر بعد يبدو أكثر إغراءً، إذ يحتفظ بمخطوطات منها “المسعور”، “الطاغية”، “العكاز”، و”الباج”، وهي عناوين توحي بمناخات مشحونة بالتوتر، ووعود سردية تنبئ عن اشتغال طويل على الشخوص والبنية.
في كتابته، تتجلى ملامح سردٍ لا يتكئ على الحداثة العابرة ولا على التراث المحنّط، بل يجمع بينهما بحسّ واقعي إنساني يجعل من قصصه مرآةً لحياة العراقيين في صراعهم اليومي مع الوجود، من دون تنظير ولا ادعاء.
حسين مبدر الأعرجي… صوت قصصي ينبع من الطين، ويكتب بالحبر والحياة. لم يسعَ إلى الشهرة، بل آمن أن القصة الجيدة مثل الجذر العميق: لا تراه العين، لكن الشجرة كلها مدينة له.