26 ديسمبر، 2024 3:26 م

جولة في متاهات بورخيس

جولة في متاهات بورخيس

إذاً سأكون غداً الموت واللغز،
أنا الذي أسير مبتهجاً اليوم.
لن يكون لي قبل ولا بعد، مقيماً
أبدياً في مدارٍ سحري ومنعزل.
إنه شرط التزهّد. لا أظن أني
أهل بالجحيم ولا موعود بالمجد،
لكني أشك في عدم قدرتي على التنبؤ.  ( الألغاز : بورخيس )

من أين يبدأ القارئ عندما يروم ولوج عالم أو  ( بالأحرى عوالم ) خورخي لويس بورخيس ؟ أية معان يدركها القارئ وأية رسائل يتسلمها وهويتجول في تلك العوالم ، المتاهات ؟ و أين تأخذه تلك العوالم ؟  أنها أسئلة تنفتح على مجموعة أسئلة أخرى لنجد انفسنا في نهاية الأمر وسط متاهة قد تعيدنا الى حيث بدأنا.
ولد الكاتب “خورخي فرانشيسكو ايزيدورو لويس بورخيس آتشيفيدو” المعروف بخورخي لويس بورخيس في عام 1899 ، في “بيونس أيريس” عاصمة الأرجنتين  ، أنتقلت عائلته  في عام 1902 الى إيطاليا ، كان أبوه محاميًا وفيلسوفًا ومدرسًا لعلم النفس، بينما أمه مترجمة وقارئة شديدة النهم كجدته التي يحكي عنها الكثير من مذكراته، وقد ترجمت أمه أعمالا أدبية عالمية، مثل: “فرجينيا وولف”، “هربرت ريد”، “الكوميديا الإلهية”. بدأ الكتابة مبكرا ، في سن السابعة مقلدا أسلوب سرفانتس. نشر في عام 1913 ، بعد عودته للأرجنتين ، ترجمة إسبانية لقصة (الأمير السعيد) لأوسكار وايلدز . في عام 1919 نشر أولى مجموعاته الشعرية (نشيد البحر). أسس في 1921 مجلة (بروا) الأدبية بالتعاون مع الأديب ماسدينو فرناندز .صدر له أول كتاب ضم مقالاته بعنوان (استقصاءات) في 1935 ، بعد ثلاث سنوات أصيب بورخيس بجرح بالغ في رأسه في حادث وكاد أن يموت خلال علاجه بسبب تقيح الجرح .بعد تعافيه ( 1941) ظهرت أول مجموعة قصصية له “حدائق الممرات المتشعبة . تقلد بورخيس  ( 1956) منصب أستاذ للأدب في جامعة بيونس آيرس والعديد من المناصب المؤقتة في جامعات أخرى.فقد بصره في 1960 . فاز في 1961 مشاركة مع صموئيل بيكيت ، مؤلف في أنتظار غودو ،بجائزة (فورماتور) ، توفي خورخه لويس بورخيس في جنيف في 14 يونية 1986 عن 86 عامًا. ابتدع أسلوبا جديدا في الكتابة التي تمزج القصة القصيرة بالمقال الأدبي أطلق عليه اسم “الفيسيون” قال عن كتابة القصة : “كتبت قصصًا قصيرة؛ لأنني أصبت بحادث كاد يودي بحياتي وترك أثرًا في رأسي اعتقدت معه أنني وصلت إلى حافة النهاية بالنسبة للإبداع، ففكرت في تجربة نفسي في الكتابة في حقل جديد غير إبداعي الأصلي (الشعر، المقالات) فبدأت في كتابة قصة (بييرمينار ).
أن عالم  بورخيس المثالي ، و الذي يعتبره عالمه الحقيقي أيضا ، يتجسد في بناء عوالم خيالية و في كتابة القصة . وصف البعض كتابات بورخيس بالميتافيزيقية ، وقال أخرون أنها فلسفية أو أنها عاطفية النزعة . ولهذا السبب نزعت الكثير من الدراسات الى التركيز على أسلوب الكاتب  كوسيلة للوصول إلى معانيه . وبتعبير أخر يصبح الأسلوب وعاء للمعنى  و تتحول الأدوات الأسلوبية الى علامات  مهمة في اللغة الأدبية  التي تنطق ببعض البديهيات ، كما يعتقد ديدييه جان في كتابه مكتبة بورخيس الخفية (1992) .أن الهدف الأولي  لمثل هذه الدراسات  هو إبراز المزايا الفريدة للعمل الأدبي  ، الأ اننا نراها في النهاية تنقب في الأعماق بحثا عن المعنى ، بالرغم من أن بورخيس وفي أكثر من مناسبة  ، مثلا في كتابه متاهات ( 2001) ، نفى نفيا قاطعا أن تحمل أعماله أية معان , لأنه  يهتم بالجانب الجمالي مما يكتب . ما هو الغرض وراء كتاباته ، و نحن نعلم أو نفترض أن جميع الكتابات  لا تخلو من معنى أو اكثر ؟ أن أفضل الإجابات تأتي على لسان بورخيس و هو يتحدث عن الأدب وكتابته و قراءته .
يقول بورخيس  أن ” الكاتب هو عقل متحرك في جسد ثابت “.أي أن بورخيس يريد أن يقول أن الخيال هو مصدر  الكاتب الوحيد  ، وأن لا وجود للكاتب الواقعي الحقيقي  . أن أول ما يقوم به الكاتب هو عزل نفسه عن كل ما حوله و يبدأ عملية أستنساخ ليصبح شخصين  ، أو أكثر ، وفي مكانين في الوقت ذاته .   ( بوسارت 2003). لذلك نقرأ لبورخيس  العديد من القصص عن الازدواجية ، مثلا في قصتي” بورخيس وأنا ” ” وشكل السيف ” . ولأن الكاتب هو في الأساس صانع خيال ، يصبح الخيال العالم الذي يعيشه الكاتب ويعيش داخله ويتنفسه ، و يصبح هذا العالم  هو عالمه  الحقيقي .  أن الخيال و على الرغم من أنه شيء داخلي الا أنه كيان قائم في حد ذاته ، ذو طبيعة خارجية  على الكاتب أن يخرج منه كي يدرك ما يجري . وبعبارة أخرى ، أن كاتب القصة يخلق عوالمه الا انه يكون تحت رحمة القوانين و الشروط التي فرضها عليه ألتزامه الوجودي . وتعتقد بياتريز سارلو في كتابها “بورخيس كاتب على الحافة ” ( 2007) أن العزلة و الجمود هما الشرطين اللازمين أذا أراد الكاتب أن ينأى بخياله عن هجمات الواقع . الا أن العزلة وحدها لا تكفي كاتب القصة لممارسة عمله أو صنعته .أن العزلة تقود الى الإلهام ، أنها تقلل عدد و تنوع المثيرات التي تهب من  العالم الخارجي ، مما يفسح المجال أمام المزيد من النشاط العقلي الداخلي . يقول بورخيس في مقدمته لقصة تقرير برودي ” أن الصنعة شيء غامض ،أن  آرائنا  زائلة وأنا أفضل نظرية أفلاطون حول آلهة الشعر على ما قاله الشاعر الأميركي أدغار آلن بو في أن كتابة الشعر عمل من أعمال العقل “( 2001 ). يقول  بوسارت (2033) أن بورخيس أراد القول  أن الحدس ليس مرادفا بالضرورة للفكر. أن العزلة  تخلق لدى كاتب القصة  مزاجية حدسية . وهو يعتقد أن  الحدسية ، على سبيل المثال ، لبست لدى أدجار آلن بو ثوب عالم الرياضيات . بعبارة أخرى أن  الكاتب الأميركي يبدومخادعا ، لكن بورخيس نفسه مخادع أيضا لأن حدسيته ترتدي الثوب ذاته . لذلك   يعتقد  بورخيس  أن  الحدس هو الذي يسمح للعقل أن يمر من عالم  الحياة اليومية  الزاخر بالتفاصيل و الأحداث الى عالم المسلمات اللغوي . يقول بوسارت أن  الحدس كما يراه بورخيس ” هو الوسيلة التي نعبر بواسطتها من الوجود الى الجوهر .” أذن في المواجهة بين الواقعية والمثالية ، يناصر بورخيس المثالية بقوة لأنه يعتقد أن الواقعية لا تقدم شيئا كونها  تدعى أن جميع الأشياء  موجودة بشكل مستقل عن العقل . في حين يستخدم بورخيس الظواهر العقلية كوسيلة لفهم الواقع و كجزء من ذلك الواقع. يقول ” فكرت بالإمكانات الأدبية التي تتيحها الفلسفة الواقعية أكثر مما فكرت بجوهر تلك الفلسفة . هذا لا يعني بالضرورة أني أؤمن بشوبنهاور أو بيركلي .أنا أعتقد أنني كنت أفكر بلا واقعية العالم المادي كمواضيع يمكن توظيفها في الأدب.” ( بوسارت 2003 ).
أن هدف بورخيس الرئيس ، إذن ، هو هدف  لغوي ، و هو هدف مهم   للنقاد والكتاب على حد السواء. أن  قصصه لا تكشف فقط تقاليد الكاتب و أساليبه ، أنما تقاليد الفن القصصي و أساليبه بشكل عام ،و هي أي القصص تصبح جزء من النقد الأدبي و في الوقت نفسه وسيلة لتوسيع احتماليات الكتابة الإبداعية . يريد  بورخيس  أن يبين الطبيعة الحقيقية للقصة :” لامادية الموضوع القصصي والخط الذي يفصل السبب عن النتيجة، وتجاور الممكن والمستحيل في الخانة ذاتها” (2001) .  الا ان بورخيس و هو يقوم بذلك  يطور بشكل غير مباشر أسلوب جديد لرؤية العالم و فهمه ، ويضع معايير جديدة لكتابة القصة و قراءتها .على سبيل المثال يقول  غابرييل غارسيا ماركيز   إنه يقرأ بورخيس لقدرته  اللغوية البارعة  ” أنه  رجل يعلمك كيفية الكتابة و كيفية استخدام أدواتك لقول الأشياء “. يعتقد الكاتب الأرجنتيني  خوليو كورتازار ، و الذي يعتبره البعض وريث بورخيس ، أنه و بورخيس يتشابهان في  “البحث عن أسلوب…” . و يرى الروائي المكسيكي كارلوس فوينتيس أن بورخيس “يطمس كل الأشكال الأدبية  وينقذ جميع التقاليد  ويقتل كل العادات السيئة ، ويخلق نظام جديد وصارم تزدهر في جنباته السخرية والفكاهة  والهزل “. ( جين فيلادا 2000) .
يتفق الكتاب الثلاثة الذي ورد ذكرهم أعلاه على  أن قصص بورخيس ، كما وضعها ماركيز ، في خانة الأدب التهربي . ومن المؤكد أن قصص بورخيس الخيالية ،  تبدو للوهلة الأولى نائية جدا عن الواقع الذي نعيشه . أن عوالمه الخيالية و رواياته اللاوجودية وفلسفاته و مناظره الغرائبية  لا يمكن تخيلها أو الوصول اليها ، انها بعيدة حتى عن كاتبها ، حيث نكاد لا نراه فيها ، تبدو أحيانا مثل شيء تكور على نفسه و كأنه سلم  لولبي لا نهاية له.
ومع هذا فأن قصص  بورخيس وما تجسد من عوالم متعددة لا يمكن النظر اليها و كأنها لا تنتمي للواقع أو أنها مناهضه له  . أن قصصه لا تتحدث عن أماكن و عوالم غير موجودة و حسب ، انما هي في قلب رؤيته الجمالية، و هي، كما يقول بورخيس في قصته ”  المعجزة السرية ” ، من الشروط الأساسية للفن. ن قصصه  بعيدة عن غرائبيات السرياليين ، وهي لا تشابه الغرائبيات التهربية لتولكين ، صاحب سيد الخواتم. أن قصص بورخيس توحي و بشكل مقلق بهذا العالم ، فشخصياته قد تسكن العالم القديم مثل بابل وروما القديمة ، أو تسبح في فضاءات وهمية  مثل مكتبة بابل أو الأنقاض الدائرية الا أن السيناريوهات القصصية ما زالت تشير الى عوالمنا الواقعية حتى لو تم بذلك بشكل غير مباشر . قال بورخيس ، وفي مناسبات عديدة ، أن قصصه في أساسها ذات مغزى أخلاقي ، وهي تعليقات مبطنة على مشاكل الإنسان الحقيقية. عند هذه الحالة تلمح القصص و بشكل غير مباشر إلى الواقع حتى لو تحدثت عن أشياء لا واقعية. أن بورخيس لا يعتبر العناصر السحرية و الخيالية من كماليات الأديب البرجوازي. أنه يعتبر السحر عنصرا أساسيا في كتابة القصة. أن الواقعي لا يخلق عوالم أنما يعبر عما هو موجود فعلا. انه يقمع الأبداع . ويقول إن الرواية الواقعية  تحتوي تناقضا. يقول الروائي فورستر أن الهم الأساس للرواية ، و بورخيس يوافقه على ذلك  ، هو السببية. أن الكاتب الذي يبني حبكته على الشخصية سيضطر للبحث عن أسباب سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة لتبرير ما يجري من أحداث. أن تتابع الأحداث بهذا الشكل يستدعي الواقعية و الحديث عن العالم بشكل أمين و دقيق . أن الرواية الواقعية كما يقول تعريفها تمثل الفعل المفترض للقوانين الطبيعية. أن هذا الافتراض غير موجود في حسابات بورخيس ، طالما أن  للطبيعة كما يعتقد بورخيس شبكة لا حدود لها من العلل و أثارها . للطبيعة قوى لا يمكن حصرها في القصة . ويترتب على ذلك ،  أن الطبيعة تصبح  خارج السيطرة المعتادة . وهنا يكمن التناقض، حيث تقع الطبيعة بين الفلسفة الضمنية للرواية وقدراتها الذاتية، و بين وأهدافها ووسائلها المادية.( بورخيس 1994 ).
يصبح السحر، إذن، وسيلة للوضوح والقوة. فهو الرابط مع السلف الا أنه يمتاز بالوضوح و التنوع الفكري . يقول بورخيس أن السحر محكوم بجميع القوانين الطبيعية و كذلك بالقوانين المتخيلة . في هذا يقترب بورخيس من البنيوي تودوروف الذي أعتبر السببية الوهمية مجموعة من الأحداث التي قد تبدو نتاجا لتحاور عشوائي لمجموعة متنوعة من العناصر ، الا انها مدفوعة بنظام من الأشياء هو أكبر و أكثر غموضا و سموا . (فيلادا 1999)
وغني عن القول أن السببية الوهمية موجودة في العديد من قصص بورخيس .و هي لديه أداة أسلوبية و توسيع مباشر لنظرته الى العالم .أن السببية ، سواء كانت وهمية أو مقدسة ، لها خاصية واحدة وهي فقدان الذات. أن الفرد لا يستطيع أبدا السيطرة على مصيره طالما تكمن تحت سطح كل الأحداث والأفعال شرارة الفوضى، ذلك الانفجار الصامت للقوى التي ترتب ، و تعيد ترتيب ، واقعنا. أن قصص بورخيس ، ولا سيما أكثرها خيالية  ، تجسد  فقدان الذات ، والصراع من أجل التصالح مع الوحي أو اكتشاف لا واقعيتنا . كتب بورخيس يقول  “دعونا نعترف بما يقر به المثاليون وهو الطبيعة المهلوسة للعالم . لنفعل ما لم يفعله المثاليون و هو البحث عن اللاواقع الذي يؤكد تلك الطبيعة .(بورخيس 1994).
سنتحدث عن ثلاث من قصص بورخيس  كي نكتشف العوالم السرية  التي يقطنها بورخيس برضا . سنحاول أن نبين أن تلك القصص و على الرغم من طبيعتها الخفية والغامضة الا أنها ترتبط بالواقع وأنه لا يبدع أسلوبا جديدا للكتابة فقط و انما  للقراءة أيضا.
لقد رأينا أن أعمال بورخيس تقع تحت خيمة المثالية لا الواقعية . أن القصص الواقعية تخفي براعتها وراء غطاء النظرة الطبيعية او المحتشمة للعالم .بعبارة أخرى، تتميز هذه القصص بأمانتها في نسخ العالم لا في خلق عالم جديد. بورخيس يعتقد ، مع ذلك ، أنه و من خلال توظيفه اللغة في خدمة البراعة فهو يجسد القوة الحقيقية ، لا الوعود الكاذبة ، للكلمات. أن الكلمات والكتب بالنسبة له، ككاتب، هي واقع، كما هي الحال بالنسبة لأي كاتب. أن اعترافه أنه لن يقبل النمور العديدة التي يتخيلها بديلا عن الحيوان الحقيقي أنما هو اعتراف يتغلغل عميقا في ذرائع الواقعية. بدلا من إخفاء أعماله ، كما يحلو لمعظم الكتاب الواقعيين ،فأن بورخيس يجعلها موضوعا لقصصه . وهو يؤكد أنه عندما يدعي بعض الكتاب أنهم يكتبون عن العالم من خلال تجارب عاشوها ،انما هم في الواقع  يستعملون نسخة ثانية من تلك التجارب من خلال أدب الفترة أو المرحلة التي يعيشون فيها .يوضح رولان بارت ، في كتابه S/Z  ، في هذا الصدد ، أن الواقعي يعتمد اعتمادا كبيرا على المخزون الثقافي للفترة التي يعيش فيها أكثر من اعتماده على مقابلة أشخاص حقيقين أو التواجد في أماكن حقيقية .
أن الواقع عند بورخيس يقع خارج الأدب واللغة. أن الكاتب غير مهتم بمحاكاة الواقع ، الا أنه مهتم بمحاكاة العرف . كيف يمكن التوفيق بين الكلمة و الشيء ، بين التجريد و الواقع؟ لا يمكن ذلك كما يقول  بورخيس ،لذلك فأنه يستخدم التجريد بديلا للواقع في الأدب .لذلك يصبح عقل الكاتب واقعه المطلق . و يمشي الكاتب عبر هذا الواقع و يعاني داخله و يتصارع معه و يستمتع به و يستنفذ جميع احتمالاته.
أن واقع بورخيس يعتمد على الافتراضات المسبقة و هي افتراضات ضمنية. أنها تصريحات محتملة نحن ملتزمون بقبولها أذا قبلنا التصريحات التي افترضتها سابقا. في مقالته المعنونة الفن القصصي والسحر( 2001) يقول بورخيس إنه من أجل القبول بقصيدة وليام موريس المعنونة حياة و ممات جيسون  ، على الكاتب أن يثبت احتمالية الوجود الحقيقي للقنطور . و يضيف بورخيس أنه عبر البراعة و بقية الحيل اللغوية و الإدراكية يحقق موريس المستحيل في استخدام الشعر الغنائي لتحقيق تعطيل مقصود للأيمان من أجل أثبات ان القنطور و مغامرات جيسون هي حقيقية .
وقصص بورخيس مليئة بالقناطير ، لكن لا يلاحظها أحد بسبب براعة أسلوب الكاتب .أن هذه الأساليب توحي ، دون التظاهر أنها تمثل حقيقتها ، أن الواقع الذي نعرفه هو أكثر تعقيدا من أي تجسيد لذلك الواقع .لذلك يترك الأمر للغة للإيحاء الى ذلك التعقيد .أن واجب اللغة هو أن تضخ ( من خلال الحلم )  في الوجود احتمالية المستحيل. في هذا الحلم تصبح احتمالات الواقع أ و المتوقع كثيرة لا تحصى. و يصبح الحالم هو الحلم . (بتلر 2010 )
أن هذا الامر واضح جدا في قصة ” الأطلال الدائرية ” . يحلم ساحر برجل ويريد نقله الى الواقع . و بعد عدة محاولات ينجح أخيرا ، ولكن نقله الى الحياة مرهون بمساعدة آلهة  النار ،  التي  كانت تعبد في السابق في معبد تحول الأن الى خربة ، وهي ذاتها المكان الذي يفكر به الساحر بمشروعه . في مقابل المساعدة التي تلقاها الساحر يرسل رجله الجديد و هو أبنه في الاساس ، الى معبد مهدم آخر ليعبد آلهة النار. وينتابه القلق من أن ابنه قد يكتشف حقيقة أنه كان يحلم، لأنه يسمع بشائعات عن رجل يستطيع المشي على النار دون أن يحترق. بعد عدة سنوات ، وعندما تحيط الحرائق التي التهمت الغابة بمعبده ، يمشي في النار دون ان يصاب بالأذى . بعدها يدرك و قد اصابه الرعب أن هو ، أيضا ، وهم ، و أن شخصا آخر كان يحلم به. أن القصة تذكرنا بأحد أفكار الفيلسوف  هيوم التي ترى  أن البشرية ليست سوى مجموعة من التصورات المختلفة ، والتي يتبع احدها الاخر بسرعة كبيرة . أن التحولات الدائرية للحالم و الحلم ، أو أن تَحلُم أو أحد يَحلُُُمُ بكّ ، قد أشار اليها المؤلف في افتتاحية القصة ، في الفكرة الناقصة التي يوحي بها حديث القزمين الى آليس   في انها جزء من حلم للملك الأحمر في الوقت الحاضر ” أذا توقف عن الحلم بك  ….” تتواجه آليس الأن  مع لاواقعيتها  ، ان يحلم بها احد يعني انها لا شيء . و هذا بحد ذاته نكوص لذيذ و كبير طالما ان الملك الاحمر هو جزء من حلم آليس . طالما أن الواقع هو مجرد نتاج لحلم حقيقي ، فأن أحتمالية أن مكاننا في ذلك الواقع قد حلم به شخص أخر يجعل محاولة وصف العالم من خلال الأدب غير مجدية . لذلك يصبح  الكون  أو الواقع  عبارة عن فوضى من الانطباعات  يكون فيها كل ما يشبه النظام مفروضا او عشوائيا . و يختتم المؤلف :
ومن الواضح أن جميع تصنيفات الكون تعسفية أو عشوائية ، ولسبب بسيط جدا: نحن لا نعرف ما هو الكون… يجب أن نذهب إلى أبعد من ذلك :يجب أن نشككك بوجود كون في الاحساس العضوي و الموحد الموجود في تلك الكلمة الطموحة .و إذا كان موجودا علينا أن نحزر غايته ، يجب أن نحزر كلمات قاموس الخالق السري و تعريفاته و أصول كلماته و مرادفاته .أن استحالة اختراق المخطط المقدس للكون لا يمكن أن يثنينا عن تحديد مخططات الإنسان ، على الرغم من أننا ندرك أنها مخططات مؤقتة (2001 ، 231).
يحاول بورخيس أذن و من خلال فنه خلق عالم ننظر اليه عبر زجاجة ،و يضعه بديلا لعالم الواقع . أن وجودنا يخلق عالم الواقع  ، مثل الصور في المرايا : غير دائمة و غير واقعية وغامضة الغاية . هذا ، بطبيعة الحال ، ليس من اختراع بورخيس لكن له جذور فلسفية في اعمال بيركلي . يرى بورخيس أن إنكار بيركلي للواقعية الموضوعية  لا يمكن دحضه ، و يرى أيضا أن من السهل فهم ذلك و قبوله .و يقترح  بورخيس تشبيه المرآة : يقول بورخيس بالنسبة لأنكار الوجود المستقل للكائنات الحية ، فإنه من السهل أن يتوافق المرء معها  من خلال التفكير أن الواقع يشبه صورتنا التي تظهر في جميع المرايا ،صورة زائفة لنا  موجودة من أجلنا ، و تصل معنا ، وتومئ و تغادر معنا ، لكن علينا ان ننظر في المرآة لنراها .
لا يقر بيركلي بوجود المادة . هذا لا يعني أنه لا يقر بوجود أشياء مثل الألوان والروائح والأذواق وحاسة اللمس. وقد أنكر بيركلي وجود آلام لا يشعر بها المرء ، أو الوان لا يراها أو اشكال لا يلمسها . وقال إن إضافة  المادة الى التصورات هو إضافة عالم آخر غير صادق أو حقيقي للعالم. ينقل بورخيس أراء بيركلي واستنتاجاتها و نتائجها المنطقية الى مجال الإبداع الأدبي لخلق أدب لا يتحرك داخل العالم اليومي أنما في عالم الواقع الميتافيزيقي . و بينما قال  بيركلي و هو يتحدث عن الوهم أنه كان يصف العالم الحقيقي ، فأن توظيف  بورخيس الأدبي لأفكاره يبين لنا أن العالم الذي يقدمه قد يكون لا واقعيا بنفس الدرجة التي يحاول فيها تقويضه .أن هذه الواقعيات تلغي احداها الاخرى ( ديديه جان 1992) . وبعبارة أخرى، مثل الساحر الذي يعتقد انه خالق ليكتشف أنه نفسه مخلوق، أننا نعيش تحت رحمة مرعبة لنكوص لا ينتهي.
في جذور هذه القصة يكمن موضوع الخلق الذي يرتبط بالتكرار الدائري  للحلم. أن الحلم  يتطلب حالماً ، والخلق يتضمن خالقاً.  يقول بورخيس ان الكلام ينطوي على لغة ، والحلم ينطوي على حالم ، وهذا ، بطبيعة الحال ، يؤدي إلى سلسلة لا نهاية لها من المتحدثين والحالمين ، اي نكوص لا يعرف النهاية  . يقول الراوي في قصة الخالد :
من بين النتائج الطبيعية للمبدأ الذي يقول أنه لا يوجد شيء لا يقابله شيء آخر ، هناك مبدأ  ليس مهم نظريا الا أنه دفعنا  ، في بداية أو نهاية القرن العاشر ، الى الانتشار على وجه الأرض و يمكن تلخيصه في هذه الكلمات : هناك نهر مياهه تمنح الخلود ، و في مكان ما يجب أن يكون هناك نهر آخر تسلب مياهه ذلك الخلود. (2001 ، 15).
أن احتمالية ان يكون النهر التالي الذي تتوقف عنده لشرب الماء قد يكون هو النهر الذي يسلب الخلود ، هي احتمالية تجعل من الواقع مجرد لعبة حظ  ، مع عدم وجود نهاية لهذا الكابوس من الاحتمالات. يقول بورخيس أن القول الدارج بأن العالم مليء بالاحتمالات” ما هو الا لعنة لذلك اصبح قولا دارجا و احتجز في عالم اللغة  مثل راهبة  في كنيسة . ويقول الراوي في مكان اخر من القصة :
كل شيء في عالم غير الخالدين لديه قيمة طارئة و لا يمكن استردادها .و في عالم الخالدين، من ناحية أخرى ، كل قانون (كل فكرة) هو صدى لغيره من القوانين او الافكار التي سبقته في الماضي ، دون بداية واضحة، و هو إنذار صادق لقوانين و أفكار ستعيدها في المستقبل و بشكل متكرر .
أن التكرار المستمر  يمثل الاحتمالات اللغوية التي لا نهاية لها . أن اللغة هي التي تجعل الأشياء طارئة و لا يمكن استردادها . أن ذلك يساهم في مغزى بورخيس الرامي الي تقويض كل ما هو فردي من شخصية و ذات و معنى و مصير.
هذه النظرة الى العالم تظهر أولا في مقاله له بعنوان عدمية الشخصية  (2001 ، 3) :
أريد هدم التفوق الاستثنائي التي تتمتع به النفس حاليا ، وأتعهد أن لا يثيرني الا اليقين المادي ، لا نزوة  الكمين الايديولوجي أو الخدعة الفكرية المبهرة . أريد أن  أثبت أن الشخصية هي سراب يستمد ديمومته من العرف و الغرور ، دون أي أساس ميتافيزيقي أو واقعية غرائزية . أريد أن أطبق على الأدب ما يهب من تلك الأنحاء ، وأقيم عليها جمالية معادية للنفسية الموروثة من القرن الماضي، هي جمالية متعاطفة مع الكلاسيكية ، ولكنها تؤيد نزعات الحاضر الجامحة .
إشارته في السطر الأخير إلى الكلاسيكية مهمة لأنها تشير الى اهتمامه بالأدب باعتباره شكل و خلق  خلافا للمفهوم الرومانسي للأدب باعتباره تعبير عن الذات أو الشخصية . ولأن بورخيس لا يؤمن بصلابة الشخصية ، فهو يشكك في فكرة تطوير الشخصية في الأدب. أن الشكل  هو ، في حد ذاته ، الكون ،و هو كوكبة الوجود ، وأن الاستمرارية الفنية أو الإبداعية لا تتحقق الا من خلال عرض الشكل . ويقول بورخيس :
أكرر : لم يكن هناك ، وراء الوجه ، سرا يتحكم بأفعالنا  أو يتلقى انطباعاتنا . ما نحن الا  سلسلة من هذه الأفعال الوهمية وتلك الانطباعات الخاطئة . ما هي السلسلة ؟ وإذا أنكرنا المادة والروح ، التي هي الاستمرارية ، وإذا كان لنا أن ننكر أيضا المكان ، ماذا نقول عن استمرارية الزمن ؟ ( بورخيس 2001/321)
ان بورخيس يشير هنا الى كل من بيركلي وهيوم. انكر بيركلي المادة و أنكر هيوم الروح ( بورخيس 2001/328). أي أن الإنسانية بجوهرها هي العدم. وبالتالي فأن المفاجأة الأخيرة في الآثار الدائرية  ، في أن الساحر كان حلم شخص أخر ، لا  توحي فقط  بأن النفس وهمية ، ولكن أيضا أن القصة التي قادتنا الى تلك المفاجأة هي وهمية ، أو لا معنى لها. أنه الثعبان الذي يأكل ذيله. هذا هو معنى بورخيس  عندما يصر بعناد أن لا معنى  لقصصه.
ومع ذلك ، يمكننا أن نذهب أبعد من ذلك بكثير. بينما يبين لنا بورخيس في الآثار الدائرية ، أن النفس وهم ، وهو يعتقد أن الأنا لا تعني فقط  شيئا واحدا أنما كل الشياء التي في الكون و هي لا تعني شيئا أيضا . و يضيف أن “الرجل ليس مادة أو شكلا أو انطباعات أو أفكار أو غرائز ، أو وعيا .أنه لا يمثل مجموع هذه الأشياء كما أنه لا يتواجد خارجها . ( الشخصية وبوذا 2001/348 ) أنه لا ينفي الذات فقط ، ولكنه ينفي جميع الأشياء  ، بما في ذلك نفي النفي. يحاول بورخيس هنا أن يساوي وحدة الوجود مع نفي الشخصية ، لأن وحدة الوجود تمثل التشرذم وتفكك الألوهية .
أن الفكرة المركزية في وحدة الوجود هو أن العالم انعكاس للإله أو العالم المتسامي. لذلك  تغرق اللاواقعية تنوع العالم  الذي يشير إلى وحدة جوهرية بارزة. يوظف  بورخيس مفاهيم عدة للعالم ، أحيانا العالم الذي يمثل انبثاقا فكريا أو لفظيا للخالق ، كما في الفلسفة الكابالية اليهودية ، أو العالم الذي يمثل الإرادة كما عند شوبنهاور، أو العالم كحام لبوذا كما يعتقد البوذيون ، هذه المفاهيم تجدها عند بورخيس ليوحي في  قصصه بفراغ العالم و تفاهته بينما يؤكد في الوقت ذاته على وحدة العالم الأساسية والمساواة بين أجزائه .( كريست 1995 )
في قصته المعنونة كتابة الأله  ُيسجن تزيناكان وهو ساحر وكاهن هرم كاهولوم في زنزانة  يقسمها جدار من القضبان الحديدية الطويلة الى قسمين .و يشاطر تزيناكان قسمي الزنزانة مع نمر .لقد عذب المحتل الإسباني تزيناكان لإجباره على إفشاء سر الكنز الخفي ، لكنه رفض لأن آلهته لن تتخلى عنه  .
 يبدأ تزيناكان يحلم في السجن ، مستعيدا كل ما يعرف ، ويستعيد في واحد من أحلامه أن الخالق كتب في يوم الخلق الأول جملة سحرية لها قدرة على محو جميع الشرور.  يتأمل تزيناكان لأشهر متواصلة  ثم يتذكر أن النمر هو واحد من صفات الخالق .و شرع في فك كلمة سر من خلال جلد الحيوان المرقط .وأخيرا ينجح تزيناكان في ذلك الا انه لا يستخدم الكلمة السحرية في انقاذ نفسه و شعبه و سحق اعدائه لأنه و كما يقول لم يعد يتذكر تزيناكان .
أن من رأى الكون، كل من شاهد الأشكال العجيبة للكون، لا يمكنه أن يفكر بلغة رجل واحد أو الحظوظ التافهة لذلك الرجل حتى أن كان هو ذلك الرجل. لقد كان ذلك الرجل هو ، الا انه لم يعد يعني له شيئا الان. ماذا تعني حياة ذلك  الآخر له ، اذا أصبح هو الأن لا أحد . لهذا السبب لا أنطق الصيغة ، لماذا أنا هنا في الظلمة تاركا الأيام تسحقني .
لقد رأى تزيناكان الكون من خلال عيون الألهه . في الكون ، تبدو الأشياء كل واحد و لا شيء في الوقت نفسه. ومثل الساحر في قصة الآثار الدائرية  يجد تزيناكان نفسه غير قادر على تغيير مصيره ، حتى عندما يكون مشبعا بالمعرفة الإلهية. أن للساحر  القدرة على الخلق ، لكنه لا يستطيع ان ينكر انه هو كل شيء ولا شيء. أن لتزيناكان القدرة على سحق الاسبان واستعادة أرضه وشعبه ، لكنه شهد العمليات اللانهائية “التي شكلت سعادة واحدة  ويصبح تزيناكان تجسيدا للجمود.( موللي 1993)
يوظف بورخيس مواضيع كونية ، أحيانا يصف البعض هذا التوظيف بالفنطازي او العادي  ، خاصة موضوع ضعف الأنسان أمام قوى الكون  وفقدان الذات. بالتأكيد لقد تناول العديد من الكتاب هذه الموضوعات على سبيل المثال كافكا الذي يعتبر أفضل من تعامل معها و كثيرا ما يقارن ببورخيس .بينما يكتب كافكا من الخارج و هو ينظر الى الداخل ، يكتب بورخيس من الداخل و ينظر للداخل .أن بورخيس و هو  يضع المبدأ المثالي الذي يقول أن المادة و الروح هما وهم موضع عالم اللغة و كتابة القصة  أنما يمنح نفسه الفرصة لا ستزاف جميع فرص العمل الإبداعي .
باستخدام التجريد ، الذي يعتبره بورخيس واقعية الأدب ، يطيل بورخيس عمر كتابة القصة ، ويسمح للغة باستكشاف خبايا النفس البشرية ووصفها. أن أدبه الاستنزافي هو صمت  يأتي مع وقع  انقطاع كل صلة بين اللغة والواقع . و مثل  نابكوف يحول  بورخيس الفن إلى فن مضاد أو صمت ، يقدم لنا مزاج النهاية . (ويلسون 2006 )  عندما يكتشف المرء أن لا شيء عنده ليقوله فأنه يحاول قول ذلك.
 أن الصمت الذي يتجسد في أعمال بورخيس هو الصمت الذي ينتج من تخريب  الأدب لنفسه و استنزاف إمكانياته الخاصة .على هذا الأساس يختلف أدب الاستنزاف عن القصة الخيالية، لأن هذه الأخيرة تسعى إلى تجاوز نفسها. هذه الرغبة في تدمير الذات تنبع ، حسب ما يراه بورخيس، من رأي ويليام موريس الذي يقول أن قصص مخيلة الأنسان الأساسية قد حكيت منذ أمد طويل ، وأن عمل القاص الأن ينحصر في أعادة التفكير بتلك القصص و أعادة حكايتها .
أن أدب بورخيس يدور حول الأدب. أن كتاب هذا النوع من الأدب يبنون هياكل اصطناعية، بدلا من كتابة شكل ذو معنى يحتوي تفاصيل ذات معنى عن عالم متخم بالمعاني. هؤلاء الكتاب لا يهتمون لا بالحبكة أو بالشخصية. ويمكن معرفة سبب كتابة بورخيس للأدب الاصطناعي في قصته مكتبة بابل ذات الأسلوب المقالي :
وكَثُر في ذلك الوقت، الحديث عن التبريرات: كتب المدح والنبوءة التي كانت تبرّر على الدوام أعمال كل انسان وتحتفظ بأسرار هائلة لمستقبله. هجر ألوف الطماعين سداسياتهم المريحة حيث نشأوا وانطلقوا يصعدون السلالم، يدفعهم تصميم عقيم على العثور على تبريرهم. كان هؤلاء الرحالة يتنازعون في الممرات الضيقة، ويُطلقون لعنات غامضة، ويتقاتلون على السلالم الالهية، ويقذفون الى قعر الأنفاق بالكتب الخادعة، ويلقون حتفهم على أيدي أناس من المناطق البعيدة. وأُصيب آخرون بالجنون… والتبريرات موجودة (عرفت منها اثنين يتعلقان بشخصين من المستقبل، شخصين غير وهميين ربما)، لكن الباحثين لم يعوا أن احتمال أن يحصل المرء على تبريره، أو حتى على بديل خادع، يقترب من الصفر. )  هنري فريد صعب ، 2008)
أن العالم لا ينضب ، ولا يمكن فهم اي انسان بشكل كامل ، كما يوحي لنا بورخيس ، وهذا يذكرنا بمفهوم ادموند هوسرل للجهل المطلق للذات ، وأنها أي الذات مثلها مثل بقية الواقع اليومي ، غير واقعية .نعود الى القصة :
هناك باحثون رسميون، محققون. شاهدتهم وهم يقومون بمهامهم: يصلون دائماً منهكين؛ ويتحدثون عن سلّم بلا درجات كاد يودي بهم؛ يتحدثون عن القاعات والسلالم مع أمين المكتبة؛ أحياناً يتناولون الكتاب الأقرب اليهم ويتصفحونه بحثاً عن كلمات شائنة. والظاهر، أن لا أحد يتوقع أن يكتشف شيئاً. )  هنري فريد صعب ، 2008)
أن الكون الذي يسميه بورخيس مكتبة بابل ، هو أزلي لأن كل ما يمكن أن يكتب عنه قد أنجز .أن المكتبة موجودة منذ الأزل .و الرجل هو موظف المكتبة غير الكامل الذي يبحث  عن فرصة  أو الكلمة الرذيلة ، الا أنه لا يدرك أنه هو، أيضا ،  نتاج الصدفة أو آلهة حاقدة. علاوة على ذلك ، ولأن المكتبة لا يمكن أن تكون الا من عمل الألهة ، كما يزعم بورخيس في القصة ، فأن من يحاول أن يرائي أو يحاكي البناء الالهي يتحول الى شخصيات  مثيرة للشفقة ”  في المراحيض، ومعهم أقراص معدنية في أكواب زهر اللعب المحظور، ويقلّدون بصعوبة الفوضى الإلهية. )  هنري فريد صعب ، 2008)
وبعبارة أخرى ، عندما يكون الكون أزليا ، فأن ما نفهمه عن ذلك العالم من خلال اللغة هو محدود .أن المكتبة كما يقول “ غير محدودة ودائرية”. واذا قدر لرحالة ابدي ان يجتازها في اي اتجاه، فان القرون ستظهر له ان المجلدات نفسها تتكرر دائما في الفوضى نفسها، التي إن كررت تصبح نظاما: النظام بالذات. وما يعزي وحدتي هو هذا الأمل الرائع  “)  هنري فريد صعب ، 2008)
أن أكوان بورخيس هي كيانات لا حدود لها ، و متعددة الأشكال ، عبر أزمان و أماكن متعددة ، لا حدود لها سوى لغة بورخيس و خياله .أن الواقع موجود خارج هذه المعادلة ، لا ثقل له سوى الوقائع التي نخلقها في عقولنا عندما نقرأ ، على سبيل المثال ، عن كاهن أسمه تزينكان  الذي كشف النقاب عن شفرة الخلق بواسطة الأشكال الدائرية غير المرئية على جلد النمر . أن العجلة التي أكتشفها تزينكان و التي فسرها في عقله هي في الواقع العجلة التي تبنيها عقولنا من المخزون الثقافي المتاح لنا . لسنا بحاجة لأن نعرف أن بورخيس قد اقترض فكرة عجلة الحياة من بوذا  ، لأننا نعرف ذلك من واقعيتنا الداخلية الغامضة والمشوشة و التي تتجمع مثل الحشرات حول مصدر الضوء ، ونستطيع من خلالها أستعادة ما نحتاجه .أن ألعاب بورخيس تشمل القراء أيضا .نحن القراء متآمرون عن غير ذي قصد في آلغازه المحيرة .
أن بورخيس ليس واقعي ساحر، على الرغم من العناصر السحرية. و بشكل أكثر دقة أنه ناقد أدبي ومنّظر. الا أنه لا ينظر للقصة القصيرة كشكل أدبي. أنه ، بدلا من ذلك ، ينظر للكتابة. و عندما نقرأه بهذه الطريقة سيغدو كل شيء واضحا.
أن بورخيس يعبر فقط وفي شكل أدبي ما نعبر نحن عنه و في شكل ُنتفٍ غامضة من الواقع الاجتماعي والثقافي. أن بورخيس ينطق بما يجول في دواخلنا ، للنظام الفوضوي الذي يميز أحلامنا .أن مثل هذاالحلم ينسج قيودا رقيقة حول الحالمين . و ربما كان ذلك هو هدف بورخيس في نهاية المطاف — الوصول الى نقاء الشكل ، سواء في الفهم أوالتعبير. ويهدف من وراء ذلك النقاء تحقيق صدى معرفي داخل تجربة القارئ، لمحاكاة متوالية حلم ولتوسيع نطاق حدود واقع يتهالك لغويا . انه يفرض علينا، الكتاب من و القراء ، مواجهة الأدب باعتباره مرآة ( نقيضة)  الكون.
في نهاية المطاف ، ربما أراد بورخيس القول أن الإبداع الأدبي لا يختلف عن قراءة ذلك الأبداع .و ربما أراد القول أن جميع أفكارنا هي لعبة حظ تشير إلى حقيقة واحدة أساسية – أن الأشياء التي نحلم بها قد حلمت بنا من قبل .

+++++++++++++++++++++++++++++
خورخه لويس بورخيس: مكتبة بابل . ترجمة هنري فريد صعب . النهار الثقافي .28 يوليو.2008

Bell-Villada, Gene: Borges and His Fiction: A Guide to His Mind and Art. University of Texas Press .2000
Bloch, William Goldbloom: The Unimaginable Mathematics of Borges’ Library of Babel. Oxford University Press. 2011
Borges, Jorge Luis: A Personal Anthology Publisher. Grove Press.  1994.
Borges, Jorge Luis: The Total Library .Penguin Books .2001
Borges, Jorge Luis: The Aleph and Other Stories .Penguin Classics. .2004
Bossart, W.H.Borges and Philosophy: Self, Time, and Metaphysics  .Peter Lang Publishing .2003
Butler, Rex: Borges’ Short Stories: A Reader’s Guide.  Continuum. 2010
Christ, Ronald: The Narrow Act: Borges’ Art of Allusion.  Lumen Books; 1995
Jaen, Didier Tisdel: Borges’ esoteric library: Metaphysics to Metafiction. University Press of America. 1992.
Molly, Sylvia: Signs of Borges. Duke University Press. 1993
Sarlo, Beatriz: Jorge Luis Borges: A Writer on the Edge. . Verso. 2007
Wilson, Jason: Jorge Luis Borges. Reaktion Books; 2006

أحدث المقالات

أحدث المقالات