13 ديسمبر، 2024 2:55 م

ثورة 14 تموز من الولادة الى الوأد… من المسؤول؟

ثورة 14 تموز من الولادة الى الوأد… من المسؤول؟

ما حدث يوم 14 تموز من عام 1958، كان انقلابا عسكريا بالفهوم السياسي، لأن القائمين به هم من العسكر حصرا، الا أنه تحول من الساعة الاولى لاعلان بيانها الاول الى ثورة شعبية، بعد الاستجابة السريعة من لدن جماهير الشعب الغاضبة على النظام الملكي السعيدي الاستبدادي الرجعي السائر في ركاب الامبريالية العالمية، الى نداء الثورة والالتفاف حولها، عندما تدفقت جموع الشعب الى الشوارع وهي تهتف بحياة الثورة والجمهورية العراقية، وكان لأطراف جبهة الاتحاد الوطني وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي، دور كبير في تعبئة الجماهير وحماية الثورة الوليدة، بذلك أحبطت كل المحاولات التي قامت بها الامبريالية العالمية وحلفائها من الرجعيات العربية والاقليمية للاجهاز على الثورة.
من هنا كانت البداية المفرحة، لكن ما حدث بعد أيام قلائل من نجاح الثورة وتشكيل حكومتها واستتباب الامن في ربوع الجمهورية الفتية، حتى بدأت التناقضات التي تحولت الى عداء سافر بين طرفي جبهة الاتحاد الوطني، الحزب الشيوعي وبعض القوى الديمقراطية من طرف والقوى القومية بقيادة حزب البعث من الطرف الثاني.
ففي اوائل او اواسط شهر آب من نفس عام الثورة، نظمت القوى القومية بقيادة البعثيين تظاهرة حشدوا لها بشكل كبير، وجلبوا اتباعهم من المدن الاخرى، رافعين شعارات تطالب بالانضمام الفوري الى الجمهورية العربية المتحدة التي كانت قد أعلنت بين سوريا ومصر في نفس ذلك العام، كما حملوا صور جمال عبد الناصر، وقد قدر عدد المتظاهرين في حينه بحوالي ثلاثة الاف شخص. لقد أحدثت تلك التظاهرة شرخا كبيرا في صفوف قوى المعارضة للنظام البائد، وانتهت فعليا جبهة الاتحاد الوطني، جاءت ردة الفعل سريعا من الحزب الشيوعي وانصاره وجماهير شعبية واسعة على تلك التظاهرة، فقامت بتنظيم تظاهرة كبيرة قدرت بأكثر من عشرة الاف شخص، رفعت فيها شعارات تمجد الثورة وترفع صور قائدها عبد الكريم قاسم، كان الشعار الرئيسي هو، اتحاد فدرالي صداقة سوفستية، كما كانت تنطلق تظاهرات عفوية من قبل أناس بسطاء غير منظمين، ترفع فيها صور عبدالكريم قاسم وتهتف عاش جمال العراق عبد الكريم قاسم، معلنة رفضها لعبدالناصر المصري وتقول ان ناصرنا هو عبد الكريم قاسم.
بعد مضي ما يقارب من ستة عقود على تلك الاحداث آن لنا ان نجري تقييما موضوعيا بعيدا عن الانحياز الاعمى لتلك المرحلة التي نعيش تداعياتها حتى يومنا هذا، وهذا التقييم المتواضع يأتي من شخص عايش تلك الفترة وكان ناشطا سياسيا قبلها وبعدها بأعوام، عبر عضويته في الحزب الشيوعي العراقي.

ان السعي الحثيث للبعثيين والقوى القومية الصغيرة الاخرى، لأذابة وصهر الجمهورية الوليدة في كيان الجمهورية العربية المتحدة، دون الرجوع الى ارادة الشعب، ودون تهيئة المستلزمات الدستورية لذلك الامر، كان لها ردة فعل شعبية واسعة ليس فقط من قبل الشيوعيين وانصارهم وحدهم بل من قبل الاحزاب الوطنية والديمقراطية الاخرى كالحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يؤكد على ضرورة قيام نظام ديمقراطي برلماني تعددي، وهو الذي يحدد نوع العلاقة بين الدول كافة وفي مقدمتها الجمهورية العربية المتحدة، كذلك رفض الحزب الديمقراطي الكردستاني ذلك الشعار خوفا على مصير الشعب الكردي الذي نص الدستور المؤقت على ان العرب والاكراد شركاء في الوطن، وقد كتب مسودة الدستور المؤقت القيادي في الحزب الوطني الديمقراطي الراحل حسين جميل، حتى ان حزب الاستقلال المعروف بتوجهه القومي لم يكن متحمسا للانضمام الفوري لجمهورية عبدالناصر اضافة لمعظم قادة الثورة في مقدمتهم الزعيم عبد الكريم قاسم.
بعد ان وجد دعاة الانضمام الفوري للجمهورية المتحدة انفسهم معزولين جماهيريا ولم تعد الاغلبية الساحقة من جماهير الشعب والقوى الوطنية تقبل بدعوتهم، لجأوا الى اسلوب التآمر والاغتيالات، ففي شهر ايلول جاء الى بغداد دون علم الزعيم، عبد السلام عارف من المانيا الغربية الذي عين سفيرا فيها، بعد ابعاده عن منصبه لتهوره وخطاباته غير المتزنة وكان ما كان من محاولة اغتياله لعبد الكريم قاسم، ثم أحبطت مؤامرة رشيد عالي الكيلاني، وبدأ حزب البعث  بتنفيذ سلسلة اغتيالات، كان أول ضحاياها الشخصية الديمقراطية التكريتية المعروفة الشهيد سعدون حمودي الذي عين رئيسا لبلدية تكريت بعد الثورة، وقد نفذ عملية الاغتيال صدام حسين شخصيا بتحريض من خاله خيرالله طلفاح، ثم بدأت عمليات تهجير الشيوعيين والديمقراطيين والاعتداءات المتكررة عليهم، من المناطق التي يشكل البعثيون والقوميون والرجعيون الاغلبية فيها، واستمرت محاولاتهم بالتعاون والتنسيق مع سلطات عبد الناصر الطامع في ثروات العراق، وليس بعيدا عن القوى الامبريالية العالمية التي ضربت الثورة مصالحها في العراق ومنها على وجه الخصوص مصالحها البترولية، ثم تتالت المؤامرات كمحاولة اغتيال الزعيم في تشرين الاول من عام 1959. حتى انتهت بمؤامرة 8 شباط المشؤوم في عام 1963، وما جرى فيها من جرائم مهولة، التي اصبحت معروفة للشعب العراقي.كان هذا سلوك قوى الثورة المضادة، لنكون صريحيين وموضوعيين بعد مضي تلك الاعوام، ألم تتحمل القوى الوطنية والديمقراطية قسطا من مسؤولية انتكاس الثورة ثم وأدها، أقول نعم، ولماذا؟كان ردة فعل الحزب الشيوعي وانصاره، على محاولات القوى القومية، من فرض ارادتها انفعاليا ومتسرعا، فلم يكن هناك خوف حقيقي من محاولة صهر العراق في بوتقة الجمهورية المتحدة، حيث لم يكن لها صدى حقيقيا في الاوساط الشعبية ناهيكم عن زعيم الثورة وسائر القوى الوطنية. ان رفع شعار اتحاد فدرالي هو الآخر كان خاطئا ومنافيا للاعراف الديمقراطية، فكيف نعمل اتحا فدرالي والبلاد تفتقر الى المؤسسات الدستورية المنتخبة من الشعب التي هي وحدها تقرر نوع تلك العلاقة،  ان رفع  ذلك الشعار كان عبارة عن خوف وهلع لم يكن له داع ابدأ في تلك الظروف، كما ان رفع شعار صداقة سوفيتية لم يكن صحيحا ايضا، حيث ان حكومة الثورة أقامت منذ الشهر الاول للثورة علاقات دبلوماسية متطورة مع الاتحاد السوفيتي وسائر بلدان المعسكر الاشتراكي آنذاك وعقدت معها اتفاقيات اقتصادية واخرى لتزويد العراقي بالاسلحة، فلماذا نرفع شعارا هو مطبق فعليا؟
ان اقامة مهرجان السلام في الموصل كان في زمن ومحل خاطئ ولا اريد ان اعدد الاسباب حيث انها اصبحت معروفة، سببت جرحا واذى كبيرا للقوى الديمقراطية والشيوعيين خصوصا.ان رفع شعار الحزب الشيوعي في الحكم ، كان خاطئا مئة في المئة وكان اسفزازا لعبدالكريم قاسم وللبرجوازية الوطنية اضافة لاستغلالها من قبل قوى الثورة المضادة، ومن يقول ان الحزب تفاجأ بطرح هذا الشعار في الشارع فهو على خطأ، اذا لم يكن هذا الشعار من ضمن الشعارات التي طرحت في تظاهرة الاول من أيار، لماذا استمر الحزب في الترويج له عبر أقامة تجمعات في المقاهي والمحلات العامة لتثقيف الجماهير بضرورة مشاركة الحزب في الحكم، وكنت شخصيا أحد المساهمين فيها؟.
ثم هذا التراجع المريع من الحزب بعد نشر محضر الاجتماع الموسع للجنة المركزية الذي عقد في تموز او آب من عام 1959، ونشر الحزب غسيله علنا امام الملأ، وحمل نفسه مسؤولية بعض الاحداث كانت بداية انتكاسة الحزب وتراجعه غير المنظم وظهور الصراعات داخل قيادته.
اما جناح الراحل محمد حديد في الحزب الوطني الديمقراطي، كان له دور سلبي هو ايضا حيث بادر الى تجميد نشاط الحزب ترضية لطلب عبد الكريم قاسم لتجميد الاحزاب بغياب رئيس الحزب الراحل كامل الجادرجي وهذا كان من اسباب انشقاق الحزب الى حزبين، وطني ديمقراطي برئاسة الجادرجي ووطني تقدمي برئاسة حديد، ويقال ان الراحل محمد حديد كان يشير على قاسم بتحجيم الشيوعيين والبعثيين معا.
اما الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم، الذي ذهب ضحية سياساته الخاطئة، حيث انه لم يكن يؤمن بالنظام الديمقراطي اساسا، فعندما كان يشاهد جماهير الشعب البسيطة وغير الواعية بالاخص الفقراء منها تستقبله بالهتاف والتصفيق اينما شاهدته، اعتقد ان لا حاجة الى برلمان واحزاب وحياة دستورية ديمقراطية، كما انه بدأ ينحى منحا خاطئا في القوات المسلحة حيث قام بأحالة عدد من الضباط الديمقراطيين حتى من المقربين له على التقاعد او تجميدهم والمصيبة انه استبدلهم بعناصر تناهض الثورة وتعاديه شخصيا، اضافة لفصل اعداد كبيرة من العمال والموظفين الحكوميين الشيوعيين والديمقراطيين من وظائفهم، واعتقال عدد كبير من قادة الحركة النقابية والمنظمات المهنية وكنت أحدهم، دون مبرر، الا تماشيا مع سياسته الفردية غير المؤمنة بالديمقر اطية،  وهذا ما سهل الامر على المتآمرين في تنفيذ مخططهم الاجرامي في انقلاب شباط الاسود،