30 أكتوبر، 2024 6:44 م
Search
Close this search box.

تهشم المعنى

قراءة في المجموعة القصصية (إذا كنت تحب ) للقاصة لطفية الدليمي
قصة الزجاج أنموذجا
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان مقولة او شعار طالما ارتبط  حضوره بأنظمة سياسية تحاول إقناع جماهيرها بالصبر والقتال والولاء لسلطتها كبديل للحياة المتمثلة بالخبز وبالتالي هي مقولة تضمر الخداع والإقناع  أكثر من الحقيقية والصدق ،هذا ما تكشفه الوقائع والإحداث التاريخية التي انقضت ، لكن عند القاصة والروائية لطفيه الدليمي دالة الشعار او المقولة تختلف وتتبدل شكلا ومضمونا عن بعدها السياسي لأنها ترتبط بصميم الوجود الإنساني الروحي والوجداني وهو الحب ليس بمعناه الحسي المباشر السائد بل بمعناه الجمالي والفلسفي العميق الحب كطاقة كامنة في جوهر الإنسان اي ضرورة من ضرورات البقاء البشري، هكذا تطل علينا القاصة لطفية من نافذة الحب لترسم عبر نصوصها القصصية وحروف كلماتها أطواقا من الأمل والحياة بأسلوب فني مميز ولغة نثرية مكثفة تزخر بالدلالات الفكرية والنقدية للواقع المعاش من خلال مجموعتها القصصية (إذا كنت تحب)الصادرة عن دار المدى لسنة 2015 والتي تتكون من (6) قصص هي الساعات ،الموجة السابعة ،الزجاج ، حياة، إذا كنت تحب، زمن الحب ،تحاول الكاتب إن تعيد التذكير بخيار الحب كشرط إنساني فاعل للمواجهة مع إشكاليات الواقع الممزق  بعد إن قمعت الصراعات الدينية والسياسية هذا الجوهر والطاقة الكونية الفاعلة والقادرة على إعادة الروح الإنسانية إلى مجالها الطبيعة الحقيقي .
تمثل قصة الزجاج في هذه المجموعة واحدة من القصص التي تسعى إلى تهشيم المعنى الوجودي السائد باعتماد موضوعة الزجاج لا بكونه مادة جامدة  بل بوصفه جدران ثقافية او قناع نخفي خلفه شخصيتنا الحقيقية لذلك يشكل الزجاج عند الكاتبة عوائق فكرية ونفسية لهذه الطاقة الكامنة اي عقبة روحية أصبحت تشكل حضور دائم في حياتنا اليوم بفعل التطور الحاصل وهو ما يشكل قطيعة معرفية وروحية لدى الكاتبة اي بعدا رمزيا للتابوات الثقافية والنفسية المتمثلة بالممنوع والمحرم والانغلاق والكذب ..الخ من الرموز ذات الطبيعة القمعية لذلك  شكل الزجاج داخل النص دلالة للانغلاق لأنه يمنع ويخفي ويخدع  أكثر مما يحمي او يقرب حتى بتنا كائنات زجاجية هشة تتهشم إمام التحديات ،كائنات تصطنع الكذب لكي تعيش لذلك تنوعت إشكال هذا الزجاج بتنوع شخصياتنا والأدوار التي نمارسها ،تصنفها الكاتبة ( هذا الزجاج المخادع ، هو زجاج للعيون المتلصصة الحذرة ،يستر عري النفوس الخائفة والنفوس التي تجابه دناءة ان تتلصص،أن ترى ولا ترى ،يستر هذا الزجاج ضعفها أمام تيقظ سوء ظنها )ص51
تضعنا القصة إمام وهم صنعته عقولنا المضطربة لنخفي ضعفنا الأزلي وهم سرعان ما يتهشم إمام اي مواجهة مع تقلبات الواقع وتحدياته فمع كل محاولاتنا الفكرية لكسر هذه الحواجز النفسية  الإ إننا لا نزال عالقين خلف أشياء قتلت فينا الإحساس بالروح الإنساني وكأن الكاتبة تحاول إعادة إحياء البعد الصوفي كحل وجودي قمع بفعل الحداثة والتقنية التي جردتنا من بعدنا الإنساني مما انعكس ذلك على كل إشكال علاقاتنا مع بعضنا البعض إي  إمام ماديتنا الجافة القلقة مما هو قادم (يطيب لي ان أراقب رعب الآخرين )ص52 لذلك تبدأ الكاتبة القصة على فعل التهشيم لهذه التابوات المعيقة لوجودنا الروحي (فزعت عندما رأت صورتها منعكسة على الزجاج وأحست بمأزق أن يراها احدهم هكذا نصف عارية)ص60  فمع كل تهشم لنافذة او قدح او زجاجه هناك  إزاحة وتهشم للمعنى السائد  يرافقه حدث جديد يشكل أفق روحي وحدسي و أسئلة جديدة (واجهات زجاج تعاليم يابسة ، وتعاليم أصابها العفن )ص57 مما يستدعي ذلك  لغة مختلفة جديدة مفعمة بالشعرية والإحساس بالأخر لغة تزخر بالحب والتضحية لغة لا يمكن ان تحفل بهذا الزخم الروحي إلى عن طريق روح جربت الوجع الإنساني وعايشته ومن تكون غير  المرأة لا كنوع بشري تابع بل كبديل معرفي مشارك في صنع الحياة لذلك نجد إن للمرأة حضور يدل على قوة تأثيرها  (تساءلت المرأة – إذا رأيت إنسانا يتهشم إمامي مثل لوح الزجاج –سأسرع .. ألملم الشظايا ،وأعيد تكوينها وامنحه – إن استطعت فرصة الوقوف مرة أخرى )ص53 وهو ما يعكس الميل لتشكيل العالم وفق تصور المرأة ( الحب) تتميز القصة  بدقة البناء الفني لدى الكاتبة حيث نجد ان بناء الحدث داخل النص يتشكل عبر مشاهد وصور مختلفة تنتظم جميعها داخل حدث مركزي واحد وهو تهشيم ملاذاتنا الثقافية والأخلاقية الجامدة القاتلة لحقيقة  الروح لذلك نجد ان فعل  التهشم هو دال معرفي أكثر منه فعل تدميري فوضوي لذلك مع كل تهشم لهذه الجدران الزجاجية يثار سؤال عن جدوى هذه الجدران التي لا تزيدنا سوى خوف وهشاشة ولتصحيح المسار تبدأ الكاتبة بإعادة تشكيل الواقع  إي إنتاج المعنى ،يتضح هذا المعني في مشهد سؤال الطفل لامه ( لماذا يا أمي نضع الزجاج على الشباك؟ صمتت إلام ولم تجب وسألت نفسها : لماذا نضع الزجاج ؟ألنحمي أنفسنا أم لنحدد حركتنا )57 وعليه فأن سعي الكاتبة للتحرر من هذه التابوات من خلال تهشيم رمزيتها المادية والاجتماعية هو سعي مرتبط بدور المرأة الحيوي والفاعل والمدروس لتكتمل الصورة لهذه الحواجز في لحظة الذروة والخاتمة التي تنتهي بمفارقة وتهكم ينفتح على العديد من المعاني والدلالات دون ترهل وإسفاف في كثرة التفاصيل التي غالبا ما تتعب النص وتفقده تماسكه وفنيته ، ولجعل هذه الدلالة مكتملة المعنى والهدف.  جاءت  شخصيات القصة شخصيات  منزوعة من أسماءها المرأة الرجل الطفل للتذكير بحجم الشرخ الاجتماعي الذي أصاب هذه العلاقة ما بين المرأة والرجل والطفل و التي أصبها الكثير من التصدع بسبب ثقافتنا الذكورية مما ساهم في قمع دور المرأة ثقافيا وهو تصور ما بعد حداثتي او ما يندرج ضمن مصطلح الجندر او الجنوسة (لماذا لا تحسبني حانقة عليك ؟لماذا لا تفكر مرة واحدة بأنني أرتاب بنواياك ؟)ص63  وعليه فان الكاتبة تعيد رسم الحياة من خلال معادلة الحياة نفسها الحب المفقود او الضائع (رجل +امرأة = حياة ) لا يمكن لهذه الحياة إن تستمر بدون حب لذلك تراهن الكاتبة على الحب كبديل معرفي روحي وحل دائم لضمان التعايش والبقاء وهو ما يمثل عنون مجموعتها القصصية، تنوعت صيغ الروي  مابين الراوي المؤلف وحوار الشخصيات مع بعضها ومنولوجات داخلية مع بعض الغلبة للراوي المؤلف وهو ما  يفرض وجهة نظر الكاتبة . إن ما يميز قصص الدليمي أنها  تشكل عوالم قصصها بنفس روائي أكثر منه قصصي اي بخط رواية قصيرة لذلك تكثف الحدث في نهاية كل قصة لتكون نهاياتها مفتوحة على باقي قصص المجموعة .
في الختام نجد ان الدليمي تحاول التمركز حول الجانب الروحي ذو الجذور الصوفية والروحية اكثر من الجوانب المادية الواقعية والحسية من خلال إحداث تشاكل معرفي مابين القديم  الميل الروحي والصوفي كخيار امثل لسد الفراغ النفسي والحديث نقد بنية التفكير الحديث المعززة لفعل الحواجز الثقافية وبالتالي لانتصار للروحي على المادي  بفعل لا مكانية الروحي او زمانيته المحدودة إي ألانهائي الكوني المتمثل  بالحب وكأن لسان حالها يقول بالحب وحده يحيى الإنسان .

أحدث المقالات

أحدث المقالات