تُعد ظاهرة الغباء الاجتماعي من أخطر التحديات التي تواجه الشعوب في أوقات الأزمات السياسية والاجتماعية، فهي لا تقتصر على نقص الذكاء الفردي، بل تمتد لتصبح مرضًا اجتماعيًا يُقيد حرية التفكير ويشل القدرة على النقد والمقاومة. لقد كان اللاهوتي والمفكر الألماني ديتريش بونهوفر من أوائل من رصدوا هذه الظاهرة وحذروا من تبعاتها الخطيرة، خاصة في ظل الأنظمة الاستبدادية التي تعتمد على السيطرة الفكرية والجماعية.
يرى بونهوفر أن الغباء الاجتماعي هو حالة يتخلى فيها الفرد، حتى من ذوي الوعي والمكانة العلمية، عن استقلاليته الفكرية، وينصاع بلا تمحيص للأفكار التي تفرضها عليه الجماعة أو النظام الحاكم. هنا يكمن الخطر الحقيقي، إذ لا يكون الأمر مجرد أخطاء فردية، بل نمطاً جماعياً يعمق الجمود الفكري ويُفقد المجتمع قدرته على التمييز بين الحقيقة والكذب.
كانت تجربة بونهوفر مع النظام النازي خير مثال على هذا التوجه؛ إذ لاحظ كيف أن النخب الأكاديمية والمهنية، التي يفترض بها أن تكون حامية للقيم ومصدر وعي، تخلت عن مسؤوليتها الأخلاقية وأصبحت تُروج للأيديولوجيات الباطلة، أو تتغاضى عنها خوفًا أو مصلحة. في رسائله من السجن، أكد بونهوفر أن “الغباء الاجتماعي أخطر من الشر المتعمد، لأنه لا يعترف بوجود خطأ بل يستمر في تعزيزه”.
إن تأثير الغباء الاجتماعي على الشعوب يظهر في عدة أوجه، أبرزها:
أولاً، إضعاف قدرة المجتمع على مقاومة الظلم والاستبداد، حيث تصبح الأفكار المغلوطة والأوهام التي يروج لها النظام مقبولة، ويتحول الشعب إلى تابع سلبي، غير قادر على اتخاذ موقف مستقل أو نقدي.
ثانيًا، تآكل القيم الأخلاقية والاجتماعية، إذ يغيب الوعي بالمسؤولية الفردية والجماعية، مما يفضي إلى انتشار الفساد، والتساهل مع الظلم، وتغليب المصالح الشخصية على المصلحة العامة.
ثالثًا، تعميق الانقسام الاجتماعي، نتيجة لتبني فئات مختلفة لأفكار متناقضة بلا نقاش جاد، مما يضعف اللحمة الوطنية ويؤدي إلى تصدعات حادة في النسيج الاجتماعي.
ولمواجهة هذه الآفة، يؤكد بونهوفر على ضرورة استعادة الوعي الفردي والجماعي، بالتمسك بحرية الفكر والتعبير، وتشجيع التعليم الذي يعزز التفكير النقدي، وتحمل النخب مسؤولياتها الأخلاقية في توجيه المجتمع بعيدًا عن الجمود الفكري والطاعة العمياء.
إن إرث بونهوفر الفكري والأخلاقي يظل منارة تُضيء طريق المجتمعات التي تسعى إلى بناء حاضر مزدهر ومستقبل حر، حيث لا مكان للغباء الاجتماعي الذي يقود إلى التبعية والاستسلام.
في خضم تحديات العصر الراهن، حيث تتزايد موجات التضليل والإعلام الموجه، تبقى دعوة بونهوفر واضحة وملحة: مقاومة الغباء الاجتماعي تبدأ بالوعي، وتنمو بالشجاعة، وتُثمر مجتمعًا يرفض الطاعة العمياء ويحتفي بالعقل الحر والضمير الحي