22 ديسمبر، 2024 9:00 ص

الهند: تداعيات الحرب في اوكرانيا

الهند: تداعيات الحرب في اوكرانيا

أن السياسة الدولية، أو ان العلاقات بين الدول تحكمها المصالح قبل اي شيء اخر، أو ان لا وجود لأي امر اخر غير المصالح. إنما ان هذه المصالح حتى يكون لها وجود فعال في الواقع؛ يجب ان تستند على القوة والقدرة، او تدعمها قوة وقدرة هذه الدولة او تلك الدولة، التي تجعل قوى دولية عظمى بعينها بحاجة لها، أو لما تمتلكها هذه الدولة او تلك الدولة من القوة والقدرة في محيطها، وقادرة على لعب دور بارز في هذا المحيط الذي تحتاجه، هذه القوى العظمى او تلك القوى العظمى. من بين اهم مقومات القوة والقدرة على لعب هذا الدور؛ هو التطور والافاق الواعدة بقوة لهذا التطور والتنمية في جميع الحقول، والتي من اهمها وابرزها؛ هو القدرة العسكرية سواء ما هي اي هذه الدولة تحوز عليه في الوقت الحاضر، او الافاق الواعدة بقوة وسعة لهذا التطور في القدرات.. التي تستند، أو أن اعمدتها هي الكثافة السكانية الهائلة والمساحة القارية وتنوع المصادر والاستقرار الامني والسياسي، ونظام ديمقراطي حقيقي، وقيادة مستقلة في قراراتها السياسية والاقتصادية مع قدراتها في قراءة المشهد السياسي الدولي بتحولاته وتغييراته، في محيطها وفي العالم ايضا. جميع هذه العوامل في محيط تلوح فيه؛ تحولات كبرى حتمية وهي اي هذه الدولة او تلك الدولة تقع في قلب هذه التغييرات والتحولات الكبرى؛ تدفع قيادة هذا البلد وحرصها ان يكون لها وجود في المفاعيل الدولية في محيطها وتاليا وبحكم التحول والتغير والضرورة؛ تعمل او تتبنى سياسة في محيطها وحتى في المحيط المجاور لمحيطها؛ تجعل من وطنها بحكم الضرورة الملزمة؛ قطب فاعل في مخارج هذه التحولات والتغييرات، بما ينطوي على هذه السياسة من مكاسب ليس انية فقط، بل طويلة الاجل. ان ما اقصده بهذه الدولة؛ هي الهند. أن الهند التي تقف في الوقت الحاضر على الحياد في الصراع المسلح، أو الحرب الروسية الأمريكية، التي يدور رحاها الآن على الاراضي الاوكرانية، وفي التوازي لهذه الحرب؛ هناك حرب اقتصادية ومالية وتجارية وعلمية وتكنولوجية، وهي حرب عالمية ثالثة هجينة، أي أنها حرب بالوكلاء؛ لجهة استخدام السلاح في الصدام المباشر، وحرب اقتصادية وتجارية وعلمية وتكنولوجية ومالية وفي جميع مناحي الحياة؛ اشتد اوارها بطريقة غير مسبوقة بين روسيا والغرب بفعل العقوبات الاقتصادية القاسية للأخيرين على روسيا على خلفية حربها في اوكرانيا؛ تراقب الهند بهدوء وصمت واستعداد لما سوف يؤول اليه هذا الصراع آنيا وفي المستقبل المنظور. لذا يلاحظ المتابع؛ ان الهند تعمل على ان تمسك عصا الحياد المنتج، من المنتصف، اي انها سوف تعلب لعبة المصالح والمنافع في صراع الضدين؛ كي تحصل على اكبر قدر بإمكانها الحصول من المصالح والمغانم من مخارج هذا الصراع، في الاتجاهات التالية:
أولا: سوف تبتز روسيا، التي ستقبل راضخة بهذا الابتزاز؛ في الحصول على النفط والغاز بأسعار منخفضة، وتحصل على السلاح الروسي المتقدم وبالذات في حقل المقاتلات من الجيل الخامس، وفي قوات الدفاع الجوي الصاروخي، والعمل على توطينها في الهند من خلال شراكات في انتاجها. اضافة الى توفير التقنيات المتقدمة الاوربية الى روسيا عبرها كما يقول عنها احد الكتاب الروس في مقال له في صحيفة روسية مؤخرا.
ثانيا: ان هذه التطورات تجعل الهند في موقف قوي في خلافها الحدودي مع الصين؛ عبر الارتفاع بقد راتها القتالية، أو تقترب من قدرات الجيش الصيني. ان هذا سوف يثير الكثير من الضبابية حول الشراكة الاستراتيجية الروسية الصينية، لكن عيون المصالح ستجعل عين الصين لا تبصرها، او بتعبير واضح ودقيق؛ سوف تغض الطرف عنها. ربما يتم حلها، أو يجري الحوار والتفاوض على وضع حلول وسط لها ترضي كل من الصين والهند، كما جرى قبل عدة سنوات؛ فقد وضع حل للخلاف الحدودي بين روسيا والصين؛ بدافع رغبة الدولتين تحت ضغط الحاجة الضرورية للدولتين؛ للتعاون الاستراتيجي، بوضع قطار شراكتهما الاستراتيجية على سكة راسخة بقوة على الارض؛ يجعل سير قطار مصالحهما على سكة مستقرة، لا تهتز او تنفصل تحت ضغط قطار المصالح. اعتقد أو ربما ما جرى بين روسيا والصين؛ سوف يجري على ذات المسار بين الهند والصين. ان تم وجرى على ارض الواقع هذا المخرج، ستكون روسيا في قلب هذا المخرج؛ فالمصالح تدفع الى خارج الطريق كل ما عداها.
ثالثا: دول الناتو وتحديدا الولايات المتحدة، وكي لا تخسر الهند التي ارتبطت معها في الاشهر الاخيرة في شراكة في (حلف) ضم اليابان والهند وامريكا واستراليا؛ من المحتمل جدا، لا تقوم بالضغط القوي المنتج للمواقف الواضحة، على الهند، ربما تكتفي بالضغط المرن، اي بالطلب المشفوع بالإيضاح للمواقف ليس الا.. الولايات المتحدة سبق لها ان حاولت جذب الهند الى جانبها في عهد بوش الابن وتحديدا في عام 2007؛ فقد تم في اخر ولاية ادارته ابرام سلسلة من الصفقات، كان من اهمها هو تحديث البرنامج النووي الهندي؛ بتقنيات امريكية متقدمة في هذا المجال. لكن هذه الصفقات لم تغير او لم تقلل من العلاقة بين روسيا والهند، بل انها على العكس من هذا؛ زادت واتسعت وتطورت في مختلف المجالات.
رابعا: ان العالم سواء رفضته امريكا والغرب بصورة عامة، أو رضخت له وقبلت به؛ سائر الى عالم متعدد الاقطاب، ولو بعد حين من الآن. المستشار الالماني قال قبل ايام ان العالم لا يمكن ان يحكم او ان يدار بقطب واحد. كما ان الرئيس الامريكي في وقت سابق قال ان على امريكا ان لا تكون شرطي العالم، وان امريكا يجب ان تكف عن نشر الديمقراطية بقوة في العالم. ان المستشار الالماني وقول الرئيس الامريكي سابقا؛ هو الاعتراف الضمني، بان العالم لم يعد كما كان عليه حاله ووضعه، قبل عقدين من الآن. بصرف النظر عن مألات الحرب في اوكرانيا؛ فأن العالم، لم يعد الى ما كان عليه الوضع الدولي قبل هذه الحرب. ستجري تغييرات في العالم وفي المحيط الهاديء والهندي واسيا، وحتى في المنطقة العربية وفي جوارها. ستحدث بفعل ومفاعيل هذه الحرب؛ اصطفافات وشراكات وحتى تحالفات هنا وهناك في محيط الصراع الامريكي الغربي مع روسيا. ان هذه القوى عملت وستعمل اكثر، في المستقبل القريب؛ على جذب الدول ذات الاهمية الاستراتيجية الى صفها، او تحويلهم الى شركاء وحلفاء الى جانبها، او على الاقل تحييدها، اي ان يكون موقفها حياديا من هذا الصراع الذي سيشتد لاحقا، ولو بعد حين. من هذه الدول الكبرى في هذا المحيط؛ الهند التي لها جميع، او تمتلك جميع مقومات القوة والقدرة، التي من بينها؛ تلك التي اوضحتها، في الذي سبق من هذه السطور المتواضعة. لكن كيف ستتعامل الهند مع هذه التطورات الدولية، وفي محيطها الاقرب، اي في المحيط الهندي والهاديء واسيا؛ هل تقف الى جانب امريكا والغرب؟ بفعل اغراءات الاقتصاد والتجارة وحتى نقل المصانع من قبل الشراكات الامريكية، او الغربية الى الهند، ام تقف الى جانب روسيا والصين، التي لها مع الأخيرة؛ خلاف حدودي لم يحل بعد على ما في هذا التجاور السياسي والاقتصادي؛ من فوائد طويلة الاجل في البعدين الجيوسياسي والجيوستراتيجي؛ كما جاء في الفقرة اولا من هذه السطور. اعتقد ان الهند ستحافظ على الانفتاح على الجانبين على الاقل في الامد المنظور، لكنها كما الصين، في الوقت عينه؛ ستقف في الجوهر الى جانب روسيا بدوافع المصالح، اي ما سوف تحصل عليه من فوائد اقتصادية وعسكرية وفي المفردة الاخيرة؛ سواء في الاقتناء او في التوطين كما في الفقرة؛ اولا وثانيا من هذه السطور المتواضعة.
ان الولايات المتحدة الامريكية وبالذات في السنوات الأخيرة، تكرر مرارا وتكرارا؛ بأن العلاقات بين دول العالم يجب ان تكون او تجري على قواعد ومعايير دولية، ولم يستخدم او استخدامهم لمفردة القانون الدولي كان شحيحا او قليلا جدا بالقياس الى استخدامهم الى مصطلح القواعد والمعايير الدولية. ان فحص وتدقيق هذا الاستخدام لهذا المصطلح يعني في لب ما يعني؛ ان الولايات المتحدة هي من ترسم معالم ومسارات وقواعد العلاقات بين دول العالم على قاعدة الغطرسة واغراء القوة وتعدد وسعة الشراكات والحلفاء والتابعين. في المقابل تسعى كل من روسيا والصين الى كسر هذه القواعد والمعايير الامريكية؛ لصالح قيام او تأسيس لعالم جديد؛ تحكمه قواعد دولية جديدة على قاعدة المساواة والعدل كما يقولون في تصريحاتهم المتكررة. إنما الجوهر او قلب هذا السعي؛ هو ضمان مساهمتهم وشراكاتهم في قيادة العالم مع دول كبرى اخرى صاعدة او مرشحة لهذه الدور كما هو حال الهند في الوقت الحاضر ومستقبلا، حتى يكون لمصالحهم دور واضح في أدارة مصالح دول العالم على ظهر البسيطة. عليه فأن من مصلحة الهند؛ وهي مصلحة طويلة الأجل، وتجلب لها دورا مؤثرا في العالم؛ وما لهذه الدور من توسع في مصالحها على ظهر الكوكب؛ ان تعمل مع الاخرين في كسر قواعد ومعايير امريكا في الهيمنة على مقدرات العالم ودوله وشعوبه. يظل هناك سؤال مهم؛ ما هو دور العرب في استثمار هذا التحول الكبير في العالم، وهم على ما هم عليه من مقدرات القوة والقدرة، التي ربما تفتقر لها دول الجوار العربي؟ هذا هو ما يستحق الوقوف طويلا امام المشهد السياسي العربي؛ بقراءة جادة ورصينة او المحاولة ان تكون جادة ورصينة..