صحيح بأن المتعارف عليه بمقولة بأن الإعلام بكافة تفرعاته “المقروء والمسموع والمرئي” يجب أن يكون محايد ونزيهآ وذات مصداقية في تناوله لجميع المواضيع ولكن بالمقابل وفي نفس الوقت , قد يعتبر الإعلام ذلك السلاح ذو الحدين متناقضا ، ويُفترض لهذا الاعلام المحايد , أن يكون مرآة عاكسة للحقيقة ، صوت العدالة، ومنبر الحياد , لكنه وفي ظل مشروع تقاسم الحكم وفق المحاصصة الطائفية المقيتة، تحول إلى أداة لتزييف الواقع، وتزوير الحقائق، وخدمة أجندات ضيقة تُمعن في تمزيق النسيج الاجتماعي.
إن الطائفية ليست فقط مجرد انحياز مذهبي، بل هي سرطان ينخر في مصداقية الإعلام، يحوّله من منصة للتنوير إلى منبر للتضليل والخداع وترويج الأكاذيب، وما نشاهده اليوم من شعارات تطلقها أحزاب الإسلام السياسي بكافة توجهاتها العقائدية، حيث وصل بهم الأمر بان دماء العراقيين توزع طائفيا ومن خلال شعارات تزيف الحقيقة، فهذا الرئيس يكون فوق القانون والمحاسبة والأخر لأنه لا ينتمي الى الطائفة والمذهب نفسه فيكون رأسه مطلوب وتحت المقصلة؟.
في ساحة الصراع السياسي العراقية، حيث تتصارع الأجندات الطائفية وتتكالب المصالح الشخصية والحزبية ، تبرز لنا بعض أحزاب الإطار التنسيقي كلاعب رئيسي في مسرح المزايدات العلنية، حاملة شعارات تحقيق العدالة وبينما تغرق هي نفسها في مستنقع الطائفية ؟ هذه الأحزاب، التي تدّعي الدفاع عن “دماء العراقيين” لا تتورع عن التلاعب بهذه الدماء لخدمة أهداف مذهبية ضيقة وأجندات خارجية ، متجاهلة مبدأ تحقيق العدالة والنزاهة القضائية الشاملة. لان هذه ليست من ضمن أجندتها وفي حال تطبيقها نكشف النقاب عن الازدواجية الفجة لهذه القوى، لأنها سوف تنفضح أمام الراي العام وتناقضاتها واستغلالها لمعاناة العراقيين، وتستخدم دور الإعلام الطائفي في تضخيم شعارات هذه الفتنة.
(حزب الدعوة الإسلامية) الذي رفع شعار “دماء العراقيين ليست رخيصة” في بياناته الحماسية، كما فعل مؤخرًا عندما طالب باعتقال الرئيس السوري “أحمد الشرع” خلال حضوره المحتمل للقمة العربية في بغداد؟ ولكن هذا الشعار البراق ينهار أمام الحقائق المرة، ويا للعجب والهول! حزب الدعوة ، الذي يتباكى على الدماء اليوم، هو نفسه الذي اعترف قادته صراحة بتدبير تفجيرات السيارات المفخخة في الثمانينيات، والتي أودت بحياة مدنيين أبرياء. برروا جرائمهم بأنها “ثمن” إسقاط نظام صدام حسين، واعتبروا الضحايا “شهداء” بجرة قلم، وكأنهم يملكون صكوك الغفران أو سلطة إلهية لتقرير مصير النفوس. أي نفاق هذا؟ أي عدالة تُبنى على جثث الأبرياء باسم إسقاط الأنظمة و أجنداتهم السياسية والمذهبية؟
نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق وزعيم ائتلاف دولة القانون، لا يقل تناقضًا صارخا . فقد شن هجومًا لاذعًا بالأمس القريب على الرئيس السوري السابق بشار الأسد، متهمًا إياه بإدخال السيارات المفخخة والانتحاريين لقتل العراقيين، بل وصل به الأمر إلى تقديم شكوى ضده في الأمم المتحدة وحتى وثائق “ويكليكس” فضحته وما تم نشره من خلال موقعها , وفي برقية سرية كانت مؤرخة بتاريخ 12 أيار 2008 تدور حول لقاء خاص جمعه مع قائد القوات الأمريكية “ديفيد بترايوس” حيث تنقل السفارة الأمريكية ببغداد لوزارة خارجيتها مفاده بأن :” رئيس الوزراء المالكي في اجتماعه مع بترايوس أنتقد النظام السوري بشدة و مستذكرا في حديثه المطول معه , عيشه في سوريا طيلة أكثر من 17 عامآ منفيآ , وموضحآ أنه يعرف وعلى دراية تامة بكل تفاصيل الجرائم التي فعلها النظام الرئيس بشار الأسد في تسهيل إدخال السيارات المفخخة والمقاتلين العرب نحو العراق ” وأضاف كذلك في حديثه الموسع بأن :” النظام السوري سيحرق كل شيء اذا تمكنوا من السيطرة على العراق وممارسة تأثيرهم عليه وهم لا يتوقفوا عن التدخل في شؤوننا الداخلية لأن ذلك يجري في دمهم ” وأضاف المالكي في مستهل حديثه بإدانة صريحة لنظام البعث في سوريا بانه :” يوظف الشعارات لغرض محاولته تحويل العراق الى لبنان أخر لهم “. ولكن، يا للمفارقة! لو كان “الأسد” لا يزال في السلطة، لاستقبله وسارع قادة الإطار التنسيقي بالورود والأحضان، مفروشة له السجادة الحمراء من مطار بغداد إلى قاعة الاجتماعات. لماذا أيها المواطن الذين يتاجرون بدمك ؟ هل تعرف ؟ لأن الرئيس المخلوع “الأسد” يُعتبر حليفًا مذهبيًا، بينما “الشرع”، يُحاكم لمجرد أنه لا ينتمي إلى “الطائفة الصحيحة” كفى متاجرة طائفية باسم العدالة! هذه ليست محاسبة لتحقيق العدالة، بل هي تجارة بالدماء تخدم الأجندات الطائفية فقط لا غير.
والإعلام الطائفي أصبح بوق للفتنة، الذي تديره أو تموله أحزاب الإسلام السياسي الطائفية ، ويلعب دورًا محوريًا في تضخيم هذه الازدواجية. قنوات فضائية ومنصات إعلامية تابعة لهذه الأحزاب تروج لروايات انتقائية، تُمجد طرفًا وتدين آخر بناءً على الانتماء المذهبي وليس لتحقيق العدالة. لان عندما يتعلق الأمر بالرئيس “الشرع”، تتعالى الأصوات الإعلامية مطالبة بمحاكمته، مستغلة مذكرة اعتقال لتبرير هذا الهجوم. لكن، يا للصمت المريب! نفس هذه القنوات لم تتجرأ على ذكر جرائم الرئيس المخلوع “الأسد” بنفس الحدة والعصبية الطائفية، وعلى الرغم من شهادة “المالكي” الصريحة والعلنية في وسائل الإعلام وفي مناسبات عديدة سابقة له عندما كان رئيس الوزراء لولايتين متتابعتين. لماذا هذه الازدواجية بالمعايير؟ لأن الإعلام الطائفي بالنسبة لهم لا يهتم بالحقيقة، بل يهدف بصورة مباشرة بتعزيز الانقسامات المذهبية والطائفية ونشر الكراهية بين أبناء المجتمع العراقي. إنه بوق الفتنة، ينفخ في نار الكراهية ولكي يُعمي دخانه الناس عن مشاهدة الحقائق.
هيئة الإعلام والاتصالات العراقية، التي يُفترض أنها مؤسسة مستقلة، أصدرت في ك 1 2024 توجيهًا لوسائل الإعلام كافة يدعوها إلى : “عدم بث مواد تحتوي على معلومات مضللة قد تؤدي إلى إشعال فتنة طائفية” لكن هذا التوجيه نفسه يُستخدم لقمع الأصوات المعارضة وتعزيز الرواية الطائفية التي تخدم مصلحة أحزاب السلطة والحكم . يا للسخرية القدر ! مؤسسة تدّعي الحياد والمهنية بينما تُسخر سلطتها لخدمة أجندة سياسية خاصة ، مكممة الأفواه التي تكشف التناقضات ومضخمة الأصوات التي تروج للانقسام والدلائل على ذلك أصبحت لا تعد ولا تحصى من كثرتها.
وعلى سبيل الأمثلة يتمثل لنا بزعيم عصائب أهل الحق، يمثل نموذجًا صارخًا لهذا النفاق. فقد صرح مؤخرًا بأن حضور “أحمد الشرع” قد يؤدي إلى تطبيق القانون واعتقاله بسبب مذكرة اعتقال قضائية بحقه. لكن، هل يملك هذا (الزعيم) الجرأة لقول كلمة واحدة ضد بشار الأسد لو كان لا يزال في السلطة والحكم ؟ بالطبع لا ! لأن الأسد، بصفته حليفًا مذهبيًا، يحظى بحصانة طائفية، بينما الآخر ، الذي لا ينتمي إلى “المعسكر الطائفي الصحيح” يُرمى في قفص الاتهام ويجب أن يطبق عليه القانون العراقي وحتى الدولي. ونقول له ولي غيره كفى كذبًا ومتاجرة بدماء العراقيين! أنتم لا تسعون بتطبيق العدالة القضائية، بل لتكريس هيمنتها السياسية والحزبية والمذهبية مستغلين عواطف الناس.
أن ازدواجية المعايير لتطبيق ما يسمى بالعدالة القضائية بحق من أجرم بالشعب العراقي والتي اتخذها بيان “حزب الدعوة الإسلامية” كستار طائفي تنكشف خديعتها والتلاعب بوضوح لا لبس فيه ومن خلال إدخال اسم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ولأنه :” لا يُمكنه الزيارة أو المرور بالعديد من الدول الأوروبية، بسبب حكم المحكمة الجنائية الدولية الصادر بحقه، وقد رفضت حكومات وعواصم استقباله، مراعاة لمشاعر شعوبها، والتزاما بالحكم القضائي الدولي” وأضاف بيان الحزب الدعوة : ” في الوقت الذي نُدرك فيه أن من مستَّلزمات ميثاق جامعة الدول العربية والالتزام بأعرافها، دعوة جميع الدول بلا استثناء، لا بُدّ من مراعاة خلو السجل القضائي، العراقي أو الدولي، من التهم أو الجنايات، لمن يشترك في أعمال القمة العربية على أي مستوى من مستوياتها، وهذا ما ينص عليه القانون الدولي، إذ إن دماء العراقيين ليست رخيصة حتى يُدعى إلى بغداد من استباحها، واعتدى على حرماتهم، أو أن يُرحب بمن تورط بجرائم موثقة بحقهم” ولكن نظام الأسد، والذي حكم سوريا تحت راية حزب البعث لعقود، ارتبط اسمه بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان سواء في العراق أو سوريا ، وبما في ذلك “الاعتقال التعسفي، التعذيب، الاختفاء القسري، وبشكل منهجي لقمع المعارضة”، وفقاً لتقارير لجنة تحقيق دولية مستقلة تابعة للأمم المتحدة. وقد وصفت هذه اللجنة تلك الممارسات بأنها “جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب” ومؤكدةً أنها شكلت خروقات صارخة للقانون الدولي. وكذلك في إطار هجمات بأسلحة كيميائية قام بها الجيش السوري في الخامس من آب 2013 في مناطق “عدرا ودوما” وأصيب 450 شخصا وكذلك في 21 آب 2013 في الغوطة الشرقية حيث قُتل أكثر من ألف شخص بغاز السارين إضافة الى استخدام البراميل المتفجرة في المناطق السكنية المدنية ” وبحسب القانون الدولي الإنساني، فإن رئيس الدولة يتحمل المسؤولية المباشرة عن سلسلة الجرائم التي ارتكبتها قواته العسكرية النظامية ، ويعتبر مسؤول مباشر عن الجرائم التي تُرتكب تحت قيادته , ناهيك بانه قد امر بها بصفته الشخصية المعنوية والوظيفية.
ولكن لم يقتصر الأمر فقط على أحزاب بعض الإطار التنسيقي , ويا لسخرية المفارقة ؟ فقد دخلت معها وبصورة أكثر حدة في بازار المزايدات العلنية بدماء العراقيين وانخرطت في نفس اللعبة بعض القوى السنية ، التي يُفترض أنها تقاوم الطائفية حسب ترويجها ، ولكن سقطت في فخ هذه المزايدات. شخصيات مثل (حميد الهايس)، الشخصية السنية البارزة في الأنبار، تنخرط في هذا المزاد العلني، داعية إلى دعوة :”عبد الملك الحوثي أو ممثل عن جماعة “أنصار الله” لحضور القمة العربية” يا للغرابة! هذه الدعوات ليست سوى محاولة لاستمالة القوى والفصائل والأحزاب الولائية، تاركة العراق رهينة لصراعات إقليمية تخدم أجندات خارجية . وبدلاً من الدفاع عن وحدة شعب العراق، تتحول هذه القوى إلى أدوات في يد الطائفية، مُسهمة في تمزيق النسيج الوطني وإيجاد شرخ في بنيتها الاجتماعي لأهداف انتخابية وليس لتحقيق العدالة كما يروجون له.
لكن ومع محاولات رئيس الوزراء محمد شياع السوداني فهناك يمكن بصيص أمل وألا تكون محاولته محكومة بالفشل؟ فأنه يحاول لملمة الجراح وفتح صفحة جديدة بدعوة الرئيس السوري “أحمد الشرع” لحضور القمة العربية، وفي خطوة تهدف إلى تعزيز الاستقرار الوضع الإقليمي الذي قد يتفجر في أي لحظة ويحرق معه الجميع ودون استثناء , ولكن من لدى قادة هذه الاحزاب الطائفية بعد النظر وقراءة الوضع والواقع بصورة متأنية وايجاد حلول لغرض انقاذ ما يمكن إنقاذه وبالأخص أذا فشلت المفاوضات النووية التي تجري حاليآ بين إيران وأمريكا لأن الضربة العسكرية سوف لن تشمل ايران فقط فسيكون العراق ثمن يدفعه كذلك من خلال قصر النظر والانحياز الاعمى الطائفي دون النظر لمصالح العراق , ولكن هذه المحاولة لتقريب وجهات النظر قدر الامكان بين الشقيقين العربيين اصطدمت بجدار صلد من النزعة الجاهلية الطائفية. أحزاب الإطار التنسيقي، وبدلاً من دعم هذه الخطوة والعمل على انجاحها ، استغلتها لتصعيد المزايدات، مُحولاً القمة العربية إلى ساحة لتصفية الحسابات الحزبية والشخصية حتى فيما بينهم ! ورأينا كيف أن حتى المبادرات الوطنية تُجهض على مذبح التقسيمات الحزبية ناهيك عن الطائفية، تاركة العراق غارقًا دوما في دوامة هذه الانقسامات.
أن الحل الحقيقي برفض المزايدات واستعادة الحياد ومواجهة هذه الازدواجية الطائفية تتطلب تمردًا شعبيًا على الإعلام الطائفي وأحزابه. ويجب على العراقيين رفض هذه المزايدات العلنية، والمطالبة بإعلام محايد ينقل الحقيقة دون انحياز. حان الوقت لنقول: كفى! العدالة لا تُبنى على الطائفية، والدماء العراقية ليست سلعة للمزاد. يجب محاسبة الجميع بنفس المعايير والمفاهيم الأخلاقية وتطبيق العدالة القضائية على الجميع ولا أحد فوق سلطة القانون،ومن أجرم بحق الشعب العراقي منذ عام 2003 ولغاية هذه اللحظة. إن العراق لن يتعافى إلا بإنهاء هذا النفاق واستعادة مبدأ المواطنة، حيث تكون العدالة للجميع، لا لمن ينتمي إلى الطائفة “الصحيحة“وأن دماء العراقيين ليست للبيع اتو المزايدة عليها لتحقيق مكسب انتخابي وأن تتوقف هذه الأحزاب المتاسلمة وإعلامهم الأصفر عن بث الحقد ، وان لا يسمح لهم بان يتاجر بدماء العراقيين في سوق الطائفية، مُحولاً المعاناة الوطنية إلى أداة لتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية على حساب هؤلاء الضحايا. لأن الحقيقة لا تُشترى، والعدالة لا تُقسم على أساس المذهب والطائفة. كفى ظلمًا باسم الدماء! كفى نفاقًا باسم القانون! على العراقيين أن ينتفضوا ضد هذا التلاعب، وأن يطالبوا بمحاسبة عادلة تشمل الجميع، دون استثناء وإن العراق يستحق إعلامًا يوحد لا يفرق، وسياسيين يخدمون الوطن لا الأجندات الخارجية.
واخيرآ وليس اخرآ , يجب أن يكون للمواطن الشجاعة للوقوف بوجه هذه الأحزاب المتأسلمة و ابواقهم ؟ فليصرخ بها وتكون مدوية تهز العراق من شماله الى جنوبه ومن غربه الى شرقه، فلنهتف بها، وكل العراقيين، بصوت واحد موحد، لا يتزعزع و بجرأة لا تلين , بان دماء العراقيين غالية، وكنزٌ لا يُمس، ولن تُباع في مزادات الطائفية! ولن تُصبح سلعة في سوق النفاق الطائفي! ولا مكان للتجارة بها! فهل نستطيع أن نصرخ بها أم ننتظر أحد يقدم لنا من الخارج يصرخ بها بدلا عنا , وهذا هو ذل الهوان بعينه ؟.