الناقد الذي عبر الظل أمين قاسم خليل

الناقد الذي عبر الظل أمين قاسم خليل

في مدينة الحلة، تلك التي كانت وما تزال منبعًا للثقافة العراقية ومرآةً لنبوغ أبنائها، ولد محمد أمين قاسم خليل عام 1938، فكان ميلاده إيذانًا بميلاد ناقدٍ مختلف، حمل همّ الكلمة وعبءَ الموقف في آنٍ معًا. نشأ في بيتٍ علمي، حيث كان والده أحد أعلام التربية في المحافظة، وهذا الإرث التربوي انعكس على نزعته نحو التبصر، والدأب، والانخراط في قضايا الإنسان والمجتمع.
منذ مطلع شبابه، أظهر ميلًا واضحًا إلى النقد والتحليل، وبدأ ينشر مقالاته وهو بعدُ طالب في كلية التربية بجامعة بغداد، ليشقّ طريقه بثقة نحو ساحة النقد الثقافي والفني. لم تكن كتاباته مجرّد انطباعات عابرة، بل كانت تقف عند الجوهر، وتتقصى المعنى، وتقرأ ما بين السطور، خصوصًا في ميدان النقد التلفزيوني، الذي تميز فيه مبكرًا، حين كانت الشاشة أداة تعبئة، فكان هو أداة وعي.
في عمله ضمن المكتب الإعلامي لجريدة طريق الشعب ببابل، إلى جانب قامات ثقافية مثل قاسم عبد الأمير عجام، وناطق خلوصي، ورضا الظاهر، وناجح المعموري، شكّل حضورًا لافتًا. كانت تلك مرحلة أضاء فيها النقد مناطق معتمة في المشهد الثقافي، وارتقى بمستوى الخطاب الفني، جامعًا بين الجرأة والدقة، والرؤية الأدبية والسياسية. حيث تحوّل النقد إلى أداة مقاومة، والفن إلى ساحة وعي، ولم يكن يتعامل مع التلفاز كوسيلة ترفيه بل كحقل خطابي يحمل دلالاته السياسية والثقافية، وقد تميزت مقالاته آنذاك بالجرأة والدقة، ممزوجة بلغة أدبية رصينة.
لم يقتصر حضوره على المقالة أو الموقف السياسي، بل كان ناشطًا ثقافيًا حاضرًا في الندوات والمراكز التي أسسها أو ساهم في فعالياتها، منها المركز الثقافي الديمقراطي والمركز الوطني للحوار الديمقراطي. لقد آمن بأن الثقافة لا تعيش إلا في فضاء الحوار، وأن الناقد الحقيقي لا بد أن يكون جزءًا من حركة المجتمع لا متفرجًا عليه.
وحين أُحيل إلى التقاعد، لم يخلد إلى الراحة، بل حوّل مكتبه المتواضع للاستنساخ في الحلة إلى واحة للمعرفة، يستنسخ فيه الكتب الممنوعة، ويوزعها خفية، في تحدٍّ للرقابة، وفي إصرار على أن تظل الكلمة حيةً حتى إن خُنقت في العلن. وبهذا الفعل اليومي الصامت، ظل مثقفًا عضويًا بالمعنى الغرامشي، منحازًا دومًا للمحرومين والمقموعين.
لكن، ورغم غزارة نتاجه، لم يجمع أمين قاسم خليل مقالاته أو ينشرها في كتاب. وقد بذلت محاولات لجمعها بعد وفاته، عبر أصدقاء ومعارف، لكن معظمها ضاع بين الصحف التي طواها الغياب، والذاكرة التي أثقلها النسيان. ورغم ذلك، بقي أثره يتردد في وجدان كل من قرأه أو سمعه أو عايشه.
كان أمين قاسم خليل يقف في زاوية القاعة، لكنه يملأها بحضوره، لم يكن كثير الكلام، لكن إذا تحدث أنصت الجميع، لأنه كان يرى ما لا نراه، ويقرأ فيما لا نقرأه. ولقد تعلمنا منه كيف يكون النقد موقفًا، لا مديحًا ولا هجاءً، كان يكتب كما لو أنه يصحح ضمير الزمن.
تميّز أسلوبه بالجمع بين الرؤية الفكرية العميقة واللغة الرشيقة، فكان يتعامل مع الشاشة بوصفها خطابًا لا تسلية، ويتناول الأعمال الفنية بتحليل يعيد تأطيرها ضمن سياقها الاجتماعي والسياسي. ولم يكن ناقدًا فحسب، بل مثقفًا عضويًا بالمعنى الكامل للكلمة. منذ شبابه انتمى إلى اليسار، ونشط في صفوف الحزب الشيوعي، فكان صوته لا يفصل بين الثقافة والسياسة، ولا يرى في الكلمة أداة تزيين، بل وسيلة لتحرير الوعي. وبعد إحالته إلى التقاعد، لم يتوارَ عن المشهد.
لقد رحل محمد أمين قاسم خليل في السادس من تشرين الأول عام 2020، دون أن يُكرَّم بما يليق بمقامه، أو يُحتفَظ بنتاجه في كتاب يضم فكره. لكنه بقي حيًا في ذاكرة من التمسوا في نقده جذوةً من الحقيقة، وفي مواقفه مرآةً لزمن مثقل بالألم والبحث عن المعنى.

أمين قاسم خليل