10 ديسمبر، 2024 12:36 م

المالكي يبني جامع Daily Beast في الجادرية

المالكي يبني جامع Daily Beast في الجادرية

القنبلة الفضائحية التي فجّرتها صحيفة <<Daily Beast>> النيويوركية في الأرض الأمريكية، كانت مثالاً حيّاً لِما ذهب إليه؛ جون بيركنز في كتابهِ (اعترافات قاتل اقتصادي). الأنياب الاستقصائية للوحش النيويوركي <<Daily Beast>>، عرّت الإدارة الأمريكية التي وافقت على أن يكون المالكي، ماسورة الكاتم الأكثر إخفاءً، لصوتِ رصاص الفساد في قلبِ الاقتصاد العراقي.

الفتيل الثانوي لهذهِ الفضيحة، كان من المفترض أن يُفجِّر على أقلِّ تقدير، واحداً من أنابيب الفساد التي تمتدُ من واشنطن الى بغداد. المفارقة أن هذا الخبر ظل يتأرجحُ في الأرض الأمريكية؛ لمدّةِ يومين (نُشِر يوم 12 فبراير، وفي العراق يوم 14 فبراير)، قبل أن يصل مرافئ الإعلام العراقي. وظيفةُ الإعلام العراقي الذي يشتغلُ بالمالِ السياسي، حالياً، هو منع انتشار النيران في أذيال بعضِ السياسيين العراقيين، والتي حوّلها الفساد الى مادة بلاستيكية، تكون كريهة الرائحة عندما تتنفسُ نيران الفضائح.

المالكي؛ حاول عن طريق سعد المطلبي، سياسي ثانوي في فريقهِ الحزبي، أن يشُنَّ حملة ماكياج محلّية؛ لتجميل صورة الفضيحة، واتهامِ سياسيين عراقيين، لم يعطِهم اسماً ولا رسماً حزبياً، أنهم وراء فبركة هذهِ الفضيحة. المضحك جدّاً، إنّ المطلبي حاول تقييد فضيحة الوحش النيويوركي، بسلاسلٍ ورقية من الاتهامات المضادة، منها؛ أنها صحيفة مغمورة، وغير مؤثِّرة، رغم أن قرّاء الصحيفة يتعدون المليون يومياً، أي أن عدد قرّائِها خلال شهر، يتفوق ربّما وبالضربةِ القاضية، على عدد الأصوات الانتخابية التي حصدها ائتلاف دولة القانون، منذُ يوم تأسيسه!

آفاق الفساد التي كشفتها <<Daily Beast>>، والتي لم تسطع حملة الماكياج المتواضع التي قام بها فريق المالكي، من تغطيتهِ، دفعتهُ يوم الـ 16 من فبراير الى استغلال أرضٍ في العاصمة بغداد- منطقة الجادرية، كان من المفترض أن تكون موقع مستشفى ألماني، لبناءِ جامعٍ، يستحقُ أن نُطلِق عليه اسم <<The Mosque of Daily Beast>>.

تزكية لورنس الأمريكي، وإيرج مسجدي الجبوري!

تزامنت هذهِ الفضيحة، تقريباً، مع أيام تواجد السفير الإيراني الحالي؛ إيرج مسجدي، في محافظة صلاح الدين. إنّ ما فعلهُ السفير، يبدو لأوّلِ وهلة، خارجاً عن سياق الدبلوماسية الإيرانية؛ هي تُفضِّلُ الاستعانة بأنفاق العلاقات الشخصية، ولا تكشِفُ عن نفسِها إلَّا بعد تحقيق النتائج، لكن تلك السابقة، ترجِعُ الى هبوب رياح قدوم ماثيو تولر (موعدها كان في أواخر سنة 2018)، كبديلٍ عن الأمريكيّين؛ السفير دوغلاس سيليمان، والمبعوث الخاص، بريت ماكغورك. الاثنان اتُهِما من قبل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بأنهما ميونيخيّان، أكثر من اللازم، في تعاملهِما مع ظل النفوذ الإيراني في العراق، قاسم سليماني.

تولر؛ يعتبرُ نسخة ثانية من بول بريمر. الاختلاف بينهما، هو في المزايا التي يمتلكُها الأول. تولر؛ وبتقييمِ لورنس وزارة الخارجية الأمريكية، ريان كروكر: الأمريكي الوحيد في وزارة الخارجية الأمريكية الذي يتقنُ اللغة العربية بشكلٍ شبهِ تام (من مقالة كيفن تايلور، المنشورة في المونيتور). أيضاً هو يؤمنُ بأن النفوذ الإيراني، ضارٌ بمصلحة التواجد الأمريكي في العراق، والذي ما زال يأملُ العم سام منه، أن يكون باكورة تصميمات الشرق الأوسط الكبير.

فريق ماثيو تولر العسكري الذي يرتدي ربطة عُنقٍ دبلوماسية، يبدو مندمجاً مع توجهاتهِ. مثلاً، القائم بأعمال البعثة الدبلوماسية في العراق؛ جوي هود، عمِل في معظم الأماكن التي عمل بها تولر في المنطقة العربية، ويفهمُ تماماً أن الاتهامات التي يوجهها حلفاء طهران الميليشياويون، لا يجب الهروب منها دائماً، إلى عباءة الحكومة العراقية، بل يجبُ الردًّ عليها، لضمان أن لا تصبح تمراً للفمِّ الإيراني.

الربطُ بين <<آفاق>> الفساد الذي يديرهُ المالكي، بأصابع أبنه، زوج أبنته، وأفراد من إحدى القبائل العراقية الكبيرة، والذين احتلوا مناصباً مهمة في الدولة العراقية، ليهدوا الدولة العميقة من خلالها الى المالكي، وهبوب ماثيو تولر على العراق، ذلك السفير الذي يعرفُ قادة الصفّ الأول من السياسيين الحاليين، معرفةً جيّدة (!)، وتعري الدبلوماسية الإيرانية من تقاليدِها النفقية، للحصول على ولاء عشيرة الجبور العراقية، قد يبدو مبهماً، أو ربّما سيركاً سياسيّاً، تسربت خيامهُ من مؤتمر وارسو الأخير.

الأمر وبكلِّ بساطة، إن بعض قادة الصف الأول، قد وصلوا الى نهاية السكّة الأمريكية، ومنهم نوري المالكي، كما إن تولر لن يحقق معجزة طرد النفوذ الإيراني، لكنهُ رسّامٌ مُحترف في رسم خرائط النفوذ الإيرانية؛ تحديدُ أماكن القوّةِ والضعفِ فيها، أمّا ذلك الحب المفاجئ بين الإيرانيين وواحدةٍ من أعرق القبائل العراقية؛ الجبور، ماهو إلَّا محاولة لتخريب مشروعٍ كان قد دعى إليه؛ باتريك أر. أوكونور في أطروحته (مكافحة اليد الخفية:دراسة حول النفوذ الإيراني في العراق).

المالكي يدخلُ أوراق اللعب الأمريكية بأقدام آس البستوني

وظّف الاحتلال الأمريكي للعراق، بعد 2003، أوراق اللعب التي تُعرف في مِصر بـ <<الكوتشينة>>، و <<الشدّة>> في بلدانٍ عربية أخرى؛ في وظيفةٍ دعائية، للقبض على المسئولين العراقيين الكِبار في النظام السابق، وربّما أن توزيعهم على الأشكال الأربعة في أوراق <<الكوتشينة>>، لم يثر وقتها الاهتمام الكافي. العسكريون المهمون دمِغوا بعلامة البستوني، الرؤوس الكبيرة للمؤسسات العراقية خُتِمت بعلامة الكوبة، والتي تُمثِّلُ في الأصل الكنيسة. بعضُهم الآخر استحق علامة السباتي، والتي تُعبِّرُ عن الزراعة، أمّا الصنفُ الرابع والأخير، فقد حمل علامة الديناري، والتي تشيرُ في الأصل الى طبقة التجار.

هذهِ المعلومات المختزلة، تعملُ هنا مفتاحاً، لفهمِ تحليلات باتريك أر.أوكونور؛ وجد أن النفوذ الإيراني في العراق، يرجِعُ إلى : شبكة تتكون من 120 فرد، 88 منظمة. حرارةُ اوكونور في تحديد أعداد النبلاء من النوع <<جاك>> الذين يخدمون الملك الإيراني، جاء لإبراز نصيحة أحد الباحثين في أطروحته : إنّ على الولايات المتحدة أن تكفّ عن محاولات التصفية الجسدية لقيادة المنظمات أو منع تواجد الإرهابيين على حدودِها،والتركيز بدلاً عن ذلك على سقوط المنظمة من خلال استهداف المحاور.

المالكي؛ بناءً على أوكونور (لم يُركّز كثيراً على المالكي!)، يستحقُ قيمة الآس البستوني، الكبة ، الديناري، والسباتي، فهو قد دسّ أنف نفوذهِ في كل مؤسسات الدولة العراقية (الدولة العميقة). أهم ما فعلهُ، أنهُ كان أول من فتح باب الشرعية للمليشيات، بدأ ذلك مع عصائب أهل الحق، بل وموّل معظم المليشيات التي تناسلت بأعدادٍ غير طبيعية، بعد فتوى السيستاني الشهيرة. المالكي تحوّل الى <<راكبٍ مجّاني>> على ظهرِ كلِّ حِراكٍ اجتماعي غير مُسيّس. أوكونور؛ وضّح أكثر: كلٌ من المشاركين وغير المشاركين قادرين على التربح من جهود الحِراك الاجتماعي بغضِّ النظر عن مُشاركتِهم، هذا يقودُ بعضاً إلى ركوبٍ مجّاني على جهود الآخرين.

واشنطن حاولت ترضيتهُ بعد إقصائهِ من الولاية الثالثة، باستمرارِ حصول شركة <<آفاق>> التابعة له، على عقودٍ من الشركات التي تعملُ مع البنتاغون، لكنهُ فضّل وكردِّ فعلٍ انتقامي على إقصائهِ، أن يعمل كنافخ صُفّارة لطهران، مُسرّباً لها، مثلاً (باستعارةِ كلمات أوكونور) : أمريكا تستطيع الاستفادة من عشيرة الجبور الكبيرة والمترامية أطرافُ سُكناها لمكافحة هذا النفوذ الإيراني- (كلمة الإيراني مُضافة لتوضيح السياق).

هذا يوضِّحُ لنا، ما السَّرُ في توقيتِ نزع الوحش النيويوركي، ورقة التين عن آفاق الفساد في عهد المالكي، وسّر الاحتفاء الإيراني بعشيرة الجبور، وإنصاف القضاء العراقي لأبو مازن الجبوري في تُهمِ فسادٍ عديدة، بل وأن يُصبح نائباً! وهو المعروفُ أنهُ <<نهّابٌ وهّابٌ>> بحسب تعبيرات النائب السابق؛ مشعان الجبوري.

طبعاً؛ إعطاءُ هذا الثقل للمالكي، يتفقُ مع تحليل أوكونور: المجتمعات الأقلُّ تكاملاً سوف تميل لتفسير مشاكلها أنهُ نابع من دورٍ يلعبهُ فرد عِوضاً عن العوامل الظرفية، عازين المشاكل الى أمورٍ شخصية عِوضاً عن سمات النظام. الناس في هذهِ الأنواع من المجتمعات لا يحبون أن يروا مشاكلهم قابلة للحل، حتّى إذا شخّصوا أن السبب خارج سيطرتِهم. لكن مالا يعرفهُ أوكونور وعرِفهُ محمد حسنين هيكل عن أعداد اللاعبين في السياسة العربية: عددهم قليل.

بقي أن نذكُر أن ماثيو تولر، ربّما قد يكون آخِر حِجارةٍ أمريكية، في بركة السياسة العراقية، الراكدة بالنفوذ الإيراني، وأن مشروع مارشال اجتماعي عراقي وطني، بالاتفاقِ مع المحتل الأمريكي وضمن ضوابطٍ سيادية، قد يكون الحلُّ الوحيد للخلاص من احتلالٍ إيراني، لا ضابط له سوى إيّرنة العراق.