في زمنٍ مثقل بالاحتلال والتبعية، تغزوه الفوضى وتتصارع فيه القيم بين الانهيار وإعادة التشكل، يبرز سؤال القيادة بوصفه واحدًا من أكثر الأسئلة إلحاحًا وإثارة للجدل. من يصوغ ملامح التغيير؟ من يقود الشعوب نحو تجاوز أزماتها؟ وهل يولد القائد من رحم الصراع كما يولد البرق من قلب العاصفة، أم أن الفكر والوعي هما اللذان يشيدان صرح القيادة؟ هذه الأسئلة لا تحمل بعدًا تنظيريًا فحسب، بل تتصل بصلب الواقع العربي الراهن، حيث تتشظى الحركات الثورية، وتتهاوى البنى السياسية، ويُختطف المجال العام بين أنظمة سلطوية وأجندات خارجية وصراعات داخلية. منذ أفلاطون وسؤاله عن “الفيلسوف الملك”، كان التفكير في القيادة يتأرجح بين المثال والحاجة الواقعية. في الفلسفة السياسية الكلاسيكية، يُنظر إلى القائد باعتباره تجسيدًا لـ”الفضيلة” أو “الحكمة”، أما في الحداثة فقد ارتبط القائد بالشرعية الجماهيرية والتنظيمية. ومع ذلك، فإن التاريخ يُظهر أن القيادة لم تكن يومًا مجرد اختيار مثالي، بل حصيلة تفاعل معقد بين الظروف الموضوعية ( الصراع، الاحتلال، الأزمات) والعوامل الذاتية (الفكر، الشخصية، الكاريزما)
لنأخذ مثالاً من الثورة الفرنسية (1789). لم يبرز روبسبير أو دانتون أو نابليون نتيجة فكرهم الفردي فقط، بل لأن الثورة خلقت فراغًا في السلطة استدعى وجوهًا قادرة على ملئه. لكن ذات التجربة تُظهر كيف يمكن للقائد أن يتحول إلى نقيض الثورة حين يحتكر السلطة. في كثير من الحالات، يولد القائد المناضل من رحم الصراع نفسه. في فيتنام، لم يكن
–هو تشي منه– مجرد مثقف متأمل، بل مناضلاً قاد حرب تحرير طويلة ضد الاستعمار الفرنسي ثم الأميركي. وفي الجزائر، صنعت الثورة جبهة التحرير الوطني وقيادات مثل “أحمد بن بلة وهواري بومدين” الذين لم يكن لهم أن يبرزوا لولا سياق الاستعمار الفرنسي الوحشي.
في السياق العربي الراهن، يمكن قراءة تجربة ثورة تشرين في العراق (2019) كمثال على ولادة قيادات شبابية ميدانية. فالمعركة ضد الفساد والطائفية دفعت بشخصيات محلية، غير معروفة سابقًا، إلى صدارة المشهد. إلا أنّ هذه القيادات الميدانية ظلت في الغالب محدودة التأثير السياسي المؤسسي، لأنها لم تستند إلى مشروع فكري منظم، بل إلى فعل احتجاجي عفوي.
إذن، الصراع يُفرز قيادات، لكنه لا يضمن استمراريتها ولا يحصّنها من الانقسامات. فالقائد الذي يولده الشارع قد يذوب حين يخفت الحراك، إذا لم يتحول إلى جزء من بنية فكرية وتنظيمية. على الضفة الأخرى، يُظهر التاريخ أن الفكر المنظم هو الذي يمنح القيادة عمقها واستمراريتها. ماركس لم يقُد ثورة بالمعنى الميداني، لكنه أسس لنظرية سياسية واجتماعية أنتجت لاحقًا قادة مثل لينين وماو. أي أن الفكر يُمهد الأرضية التي تجعل من القائد أكثر من مجرد “صدفة تاريخية“.
في الوطن العربي، يمكن استدعاء تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي في بداياته. لم يكن البعث نتاج صراع مباشر مع الاحتلال فحسب، بل تعبيرًا عن مشروع فكري جمع بين العروبة والاشتراكية. هذا المشروع منح قياداته شرعية فكرية وتنظيمية تجاوزت حدود القطر الواحد. إلا أنّ الانقسامات الداخلية لاحقًا أظهرت أن الفكر وحده لا يكفي، بعد 2003، ومع انهيار الدولة الوطنية في العراق، وتشظي الحركات الثورية بفعل الاحتلال والتبعية الإقليمية والدولية، برزت “مفارقة القيادة”. فمن جهة، هناك حاجة ملحة لقيادة توجه الغضب الشعبي وتحميه من الاختطاف. ومن جهة أخرى، فإن أي قيادة تُتهم سريعًا إما بالارتباط بقوى خارجية أو بالتحول إلى نُخبة منفصلة عن القاعدة الشعبية.
الربيع العربي (2011) قدّم صورة واضحة لهذه المفارقة. ففي مصر، أدى غياب قيادة ثورية موحدة إلى عودة الدولة العميقة. في ليبيا واليمن، قاد الفراغ القيادي إلى حروب أهلية. أما في تونس، ورغم النجاح النسبي، فإن غياب قيادة فكرية واضحة جعل التجربة عرضة للتقلبات.
هنا تبرز الحقيقة: الثورات تحتاج قيادة، لكن القيادة قد تكون أيضًا مقبرة للثورات إذا لم تُبنَ على أسس فكرية وتنظيمية سليمة.
من خلال قراءة التجارب المختلفة، يمكن تلخيص شروط ولادة قيادة ثورية ناجحة في عدة عناصر: اولها الوعي الفكري: لا يكفي أن يولد القائد من الشارع، بل يجب أن يمتلك رؤية فكرية تربطه بمشروع أكبر من اللحظة الآنية. والتجربة النضالية: القائد لا يتشكل في الفراغ، بل من خلال الانخراط الفعلي في ميادين النضال. يضاف لهما الشرعية الجماهيرية: القائد الذي لا يرتبط بجمهوره يصبح مجرد واجهة. وكذلك المأسسة: القائد الفردي يزول برحيله، لكن القيادة المؤسسية تبقى.واخيرا الديمقراطية الداخلية: من دونها تتحول القيادة إلى سلطة استبدادية جديدة.
السؤال :هل الصراع يولّد القائد أم الفكر يصنعه؟ يبدو ثنائيًا، لكنه في الحقيقة جدلي. فالصراع يولد الحاجة إلى القيادة، لكن الفكر هو الذي يمنحها الشرعية والاستمرارية. من دون صراع، لا معنى للقيادة الثورية. ومن دون فكر، لا معنى لقيادة لا تعرف إلى أين تتجه.
التاريخ يُظهر أن القادة الذين جمعوا بين الفكر والصراع هم وحدهم الذين استطاعوا أن يتركوا أثرًا باقياً: غاندي جمع بين المقاومة السلمية والفكر الأخلاقي–السياسي. نيلسون مانديلا جمع بين تجربة السجن الطويل ورؤية المصالحة الوطنية. هؤلاء لم يكونوا نتاج صدفة، بل نتاج تفاعل حيّ بين صراع قاسٍ وفكر متماسك.
إذا كان المشهد العربي اليوم يتسم بالاحتلال، التبعية، الفوضى، وانهيار القيم، فإن القيادة المطلوبة يجب أن تتميز بعدة سمات:
من هنا نرى في أمثلة معاصرة حاجة لقيادة مختلفة ففي العراق بعد 2019: أظهرت ثورة تشرين كيف أن غياب قيادة واضحة جعل الحركة عرضة للاستنزاف. ومع ذلك، فإن هذا الغياب وفّر حماية نسبية لها من الاحتواء. التحدي اليوم هو تحويل هذه الروح الاحتجاجية إلى مشروع قيادي مؤسسي. فيلبنان 2019: الانتفاضة الشعبية الواسعة افتقرت إلى قيادة موحدة، ما سمح للنظام الطائفي أن يمتص الصدمة ويعيد إنتاج نفسه.والسودان 2019: قدّم نموذجًا مغايرًا حيث لعبت “تجمع المهنيين” دور قيادة جماعية نسبية، لكن سرعان ما ظهر التناقض بين الطموحات الثورية والمصالح العسكرية.هذه النماذج تؤكد أن القيادة ليست مسألة نظرية، بل قضية مصيرية تُحدد مصير الثورات. إنّ سؤال القيادة اليوم يتجاوز كونه سؤالاً تنظيرياً إلى كونه سؤال بقاء. فبدون قيادة مناضلة، واعية، جماعية، ومرنة، ستظل الثورات العربية المعاصرة تدور في حلقة مفرغة من الانفجارات والانكسارات. الصراع وحده لا يصنع القيادة، والفكر وحده لا يكفي لصياغتها. إنها توليفة معقدة تتطلب رؤية فلسفية تُلهم، وتجربة نضالية تُختبر في الميدان، ومأسسة ديمقراطية تضمن الاستمرارية.وبين كل هذا، يبقى التحدي الأكبر: أن تكون القيادة أداة للشعب لا بديلاً عنه، وأن تحمي الثورة من أعدائها الخارجيين وأمراضها الداخلية معاً. هنا فقط يمكن للقيادة أن تتحول من “مفارقة” إلى “أفق”، ومن “مأزق” إلى “إمكانية”.