26 ديسمبر، 2024 9:20 م

العـراق ..الاصطناعية والهوية وبناء الدولة

العـراق ..الاصطناعية والهوية وبناء الدولة

بـداية ، تساءل مؤلف الكتاب : كيـف وصل العراق إلـى هذا الوضع ؟ ولمـاذا أصبحت اغلب فئات مجتمعه التـي كانت تعيش من قبل في سلام ووئـام ظاهرين تمـارس الآن ضد بعضها البعض أسـوأ أشكال الوحشية والعنف العشوائـي ؟ وما الـروابط التي يمكن إن يلجأ إليهـا من يسعون إلى إحلال الاستقـرار في مواجهة تلك الأعمـال ؟
حـول هذه الأسئلة جاءت موضوعة الكتـاب موزعة على محاور أربعــة شديدة التداخل يعتقـد المؤلف أنها مـا برحت تحتل مكاناً بـارزاً ضمن النقاش الواسع بشـأن تكوين العراق وتاريخه ومجتمعه وسياستـه ، وبالتأكيد مستقبله . وتتمثل تلك المحاور فيما يلـي :
1. النقـاش بشأن الاصطناعية . وهـو يدور حول إذا كان العراق عند تأسيسه دولة مصطنعة ، وحول الكيفية التـي يمكن أن تكون ـ أي اصطنـاعية ـ محتملة فـي وقت بناء الدولة منذ نحو قـرن ، قد أثرت على بناء الدولة بعد ذلك بقـرن .

2. النقـاش بشأن الهويـة . ويعنـي أساساً بطبيعة الهوية في العـراق ، فماذا كـان يعني في الماضي أن يـكون المرء (عراقياً) ومـا الذي يعنيه ذلك الآن ؟ ومـا مدى تأثير مفهوم (الـوطنية العراقية) كقـوة تعبوية جامعة بالمقارنة مع قـوة الانتماء الديني أو التضامن العرقـي ؟ وما الأسباب التـي أدت إلى عودة ظهور الهويات الطائفيـة ؟ وهـل اختفت أساساً تلك الهـويات أم كانت محتجبة فقط وراء التـأثير المجمع للحداثة بطبيعتها التحويلية والحواجز التقييدية لنظام صـدام ؟

3. النقـاش بشأن الديكتاتوريـة . ويتناول طبيعـة السلطة السياسية في العراق ، ويتسـاءل عن الأسباب التـي جعلت تدخل الجيش فـي الحياة السياسية إحدى سمات التـاريخ العراقي الحديث ، وعن الكيفية التي تم بها ذلـك ، وكذلك الأسبـاب التي اضطرت العراق إلـى الرضوخ لأسلوب سلطوي فـي الحكم كان النظام البعثي الشمـولي بقيادة صدام حسين حلقته الأخيـرة . وهـل كـانت الدولة السلطوية الشمولية مجـرد تطور بائس وغريب فـي تاريخ العراق ما كـان ينبغـي له أن يحدث ؟ وهـل هناك في الدولة العراقية مـا يحتم مسبقاً أن تكون هـذه الدولة ذات طبيعة ديكتـاتورية ، أم أن ذلك التطـور كان رد فعل إزاء الضغوط والتأثيـرات الخارجية ؟
والسـؤال الأهم هو : مـا التأثيرات التي أحدثتها عقود من السياسات غير الديمقراطية ومن سيطرة دولـة اتسمت بالوحشية والقهـر على المجتمع العراقـي ؟

4. النقـاش بشأن بناء الدولـة وإرساء النظام الديمقـراطي . وهـو يرمي أساساً إلى تجميـع الآراء التـي تم عرضها في النقاشات الثلاثـة السابقة ، ويركز على آليات بناء الدولة في المجتمعات والـدول التعددية المتحررة من خلال السلطويـة .

تمثـل النقاشات الأربعة مجتمعة موضوعاً تحليلياً أساسياً ، وتطـرح سؤالاً جامعاً بهدف الـوصول إلى فهم الأسباب التـي جعلت الحياة السياسية في العـراق تقع منذ 9/نيسان/2003 ، تحت هيمنة أطـراف ومنظمات تتحرك بدافع انتمـائها الديني أو أصلها العرقي أو ارتبـاطها العشائري بدلاً من القـومية والعلمانية أو الهويات التـي تقوم على الطبقات الاجتماعية ، وتشمـل إفراد الشعب العراقي كافـة وماذا يعني ذلك بـالنسبة إلى مستقبل العـراق ؟
ومهمـا تكن الأسباب ، فقد بات واضحـاً الآن ، أن القوى السياسية السائدة فـي العراق هي تلـك المرتبطة بكل من الاتجاهـات الدينية الشيعية ، والأجنـدة القومية الكردية ، موقف العرب السنة ، وهو موقـف يعتبر أساساً رد فعل إزاء القـوتين الأوليين . كمـا توجد جماعات طـائفية أخـرى تتمثل فـي التركمان والمسيحيين . ولا تعـد أي من تلك الجماعات وحدة متماسكة سواء في ديناميتها أو حتى في أهـدافها ـ حيث تتوزع المـؤسسة الدينية الشيعية بين مـراكز قوى عدة ، ويعُـرف الأكراد بخلافاتهـم السياسية ، فيمـا تندرج حركة التمـرد العربي السني مـا بين قدامى وبعثيين جدد وطيـف من المجمـوعات الإسلامية ـ ومع ذلـك ، فأن وجـود تلك الطوائف في حد ذاته يعد دليـلاً على اختـلاف التصورات القائمة ضمن المجتمـع العراقي مما يؤدي إلى بـروز رؤى متصارعة وأحيانا اقصائية لمستقبل البلـد .
إن الكتـاب لا يرمي إلى إثبات أن العـراق مقبل على مستقبل تهيمن عليـه الحرب الأهلية بيــن طوائفه الدينية ومجموعاته العرقية فـي خضم تنافسها للاستحواذ على السلطة في الدولة أو للانفصال عنهـا .
إن مـا يسعى إليه الكتاب هو تحديـد الأسباب التي أدت إلى تزايد بـوادر هذه الحرب في بيئـة مـا بعد عام 2003 . وقد طـرح الكتاب ثلاثة تفسيرات للأدلـة المتاحة يركز أحداها على أحــداث ما بعد عـام 2003 ، وعلى تحميل كـل من الولايات المتحدة الأمـريكية وبريطانيا المسؤولية أما عن عدم تحليهما ببعـد النظر أو عن إهمالهما السافـر . ويميل التفسيـر الآخر إلى اعتبار أن تسعينيات القرن العشـرين كانت هي العقد الذي تحـول خلاله المجتمع العراقي بسبـب التشوهات الفظيعة التي تسببت فيها العقوبات التـي فرضتها الأمم المتحدة . أمـا التفسير الأخير فيلقي نظرة أبعـد ويسعى إلى تتبع أسبـاب التوتر الطائفي في تاريخ العـراق .
وحتـى لا يتهم المؤلف بالتركيز على تقسيـم المجتمع العراقي واختـزاله إلى فئات واضحة الحـدود ، فان المؤلـف لا يدعي أن الفوضى التي يشهـدها العراق حالياً كان لابـد أن تقع أو إن الأحداث الـرهيبة التي يعيشها العراق يومياً تعنـي له انه سيفشل لا محالة ، ومن ثم سيفتت إلى أجزاء مختلفـة .
قـد يتجزأ العراق بالفعـل ولكن الضغوط التي تمارسها القـوى الإقليمية للحفاظ على وحدة العـراق إلى جانب الدافع الموجود لـدى الكثير من العراقيين لإيجـاد آلية يتولون من خلالها أدارة خلافاتهـم ضمن أطار للعيش فـي سلام ووئام بعيداً عن تهديـد القهر على يد الدولة .. كلها تعني أن مستقبل العراق لم يحسم بعـد .
رتـب المؤلف فصول كتابه ترتيباً تاريخياً ولكـن مع تناول كل نقاش مع النقاشات الرئيسية الأربعـة في سياقه المنـاسب ، فـتناول الفصل الأول ميراث العراق من الحضارات والإمبراطوريات ، حيث أشـار المؤلف إلى انه توجـد ثلاثة عناصر من الماضي كـانت شديدة الأهمية في تشكيـل الذاكرة الجماعية للعراق الحديـث :
الحضـارات القديمة لبلاد ما بين النهريـن ، والفتوحـات والتراث العربي ـ الإسلامي ، والإمبـراطورية العثمانية . وتتبايـن الآليات التي أثرت بها تلـك العناصر على العراق الحديث إذ كـانت التأثيرات الأكثـر مباشرة هي تلك التي ارتبطـت بالإسلام وبالإمبراطورية العثمانيـة والتي شكلت العراق الحديـث. ولا يـزال التراث العربي ـ الإسلامي يشـكل المعالم الاجتماعية ويؤثر فيهـا أكثر من تـأثير أي عامل آخر وخصوصاً أن العـادات والتقاليد التي أرساها ظلت هـي القوة الأكثر تأثيراً من بيـن القوى التي تحكم النشاط والتفاعـل الاجتماعيين . وقـد أصبحت الإمبراطورية العثمانيـة الآن جـزءاً  من التاريخ لكنها كـانت مسؤولة على مدى خمسة قـرون عن تنظيم البنية السياسية للعراق الحديث بمـا ترك بصمة لا تمحى على بنيتـه الاجتماعية والسياسية . وبينمـا لم يكن للحضارات القديمة التـأثير نفسه الذي كان للإسـلام أو للإمبراطورية العثمانية فإنها مـا برحت تمثل قوة مؤثرة فــي وضع ركائز الدولـة .
وفـي الفصل الثاني تناول المؤلـف تاريخ العراق الحديث مع ألقاء الضـوء على النقاش بشــأن الاصطناعية ، أي المقصود بالقول ، أن العـراق اصطناعي . ويحلل هذا الفصل الواقعة الأولى من وقائـع بناء الدولة في العراق وينظـر في الأسباب التي دعت إلى تكويـن العراق في أعقاب الحرب العـالمية الأولى ، والكيفية التي على أساسهـا تعينت حدوده وشرع بها البريطانيون في بناء الدولـة .
ويـتناول الفصل الثالث إحدى أكثـر القضايا الخلافية عند مناقشـة العراق الحديث ، وهــي كيف يعَّـرف العراقيون أنفسهم ؟ وكيـف يعَّرفهم الآخرون ؟ ويتناول النقـاش بشأن الهوية الكيفية التي تمـت بها مناقشة الحراك السياسـي في العراق في الأدبيات الأكـاديمية الغربية ويعرض النموذجين الأكثـر شهرة في هذا المجال حيـث يركز أولهما على الانقسامات الرأسمالية فـي المجتمع ـ أي انه يبرز الانتمـاءات سواء الطائفية أو العرقيـة بالمجتمع ـ فيمـا يقوم النموذج الثاني على أن الانقسامات الأفقيـة من حيث الطبقة والمركز الاقتصـادي والاجتماعي هي القوى الأكثر تأثيـراً ويمكنها تجاوز الروابط الدينـية والعرقية . وينظـر هذا الفصل أيضاً في تفـاعل القوميتين العراقية والعربية قبل أن يحلل الخـلاف السني ـ الشيعي ، وظهور القوميـة الكردية ، ووضع الجماعتين الآشورية والتركمانيـة .
ويـتناول الفصل الرابع نمو الدولة السلطـوية حيث يبدأ المناقشة بشأن الديكتاتور ، ويناقش التعريفـات الموجودة في أدبيـات العلوم السياسية بشأن الأنظمـة غير الديمقراطية وذلك لتوفيـر الإطار الذي يمكـن من خلاله فهم تحول العـراق من السلطوية إلى الشمولية فـي ثمانينيات القرن العشرين ، ومـن ثم عودته مرة أخرى إلـى السلطوية في تسعينيات القرن نفسـه .
وتنـاول الفصل كذلك دور الجيش فـي الحياة السياسية بعد قيام الدولة العراقية وكيـف انه بنظرتـه العالمية التي تنطلق من مبـدأ القومية العربية ساعد علـى تعميق الفوارق الطائفية ضمن المجتمع العراقـي .
وينـاقش الفصل الخامس الفترة المتصـلة من حكم صدام حسين ويـركز على الإحداث التي أدت إلـى دخول العراق في صراع ضـد القوى الغربية في تسعينيات القرن العشرين ، والحرب العراقية الإيرانيـة وغزو الكويت ، حيـث يختتم الفصل بتقييم التأثيـر السياسي والاقتصادي للصـراع .
إمـا الفصل السادس فيتناول عقد التسعينيـات من القرن العشرين حيث يتم تقييم الأسباب التي دفعـت صدام إلى غزو الكويت . ثـم يعرض لحركات التمـرد التي أعقبت طرد القـوات العراقية من الكويت على يـد (تحالف الراغبين) بقيادة الولايات المتحـدة الأمريكية ، ويُقيم المجموعات المعارضـة التـي نشأت خلال العقد المذكور . ثـم يقدم الفصل وصفاً لتأثيرات العقوبـات الوحشية في مدى شموليتها التي فرضتهـا الأمم المتحدة على العراق والكيفيـة التي نجح من خلالها صدام في البقـاء ، على الرغم من محاولات انقلابية عدة برعاية الولايات المتحدة . كما يناقش الفصل ظهور المنطقة الكردية وتطور مؤسساتها ، وينتهـي بعرض الإحداث التي أدت إلى غـزو العراق بقيادة الولايات المتحدة في عـام 2003 .
والفصـل السابع والأخير تنـاول التطورات السياسية التي شهدها العراق منذ الإطاحة بنظام صدام حيـث يتتبع نظرة علماء السياسة والمراقبيـن الآخرين لفرص نجاح العراق في أقامة نظام ديمقراطي ومـا أذا كانت الأدلة التجريبية تشير إلـى أن العراق سيُحكم في المستقبل من قبل نظام ديمقراطـي أو سلطوي أو ما إذا كـان استمرار العراق نفسه سيصبح موضع شـك .
ويتنـاول الفصل أيضاً أهم القضايا التـي اتسم بها عراق مـا بعد عام 2003 بما في ذلك العمليـة السياسية التي أطلقتها الولايـات المتحدة ، وطوأفة الحياة السياسية ، وظهور المجموعات المتمـردة من داخل المجتمع السنـي ، وتعاظم قوة إقليـم كردستان ، وظهـور حركة راديكالية ضمن المجتمع الشيعـي .

* الكتـاب :
العـراق .. الشعب والتاريخ والسياسة ، تأليـف : جاريث ستانسفيلد ، ط1 ، سلســلة دراسات متـرجمة (31) ، مركز الأمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية ، أبو ظبـي ، 2009 ، 267 ص .
 [email protected] 

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات