10 ديسمبر، 2024 10:24 ص

العراق: المحافظ طرزان أحزاب بحبال تنفيذية

العراق: المحافظ طرزان أحزاب بحبال تنفيذية

عبّارةُ الموصل؛ كفّنها نوروز، يوم الـ 21 من مارس. غرقت هي، لتطفو جثثٌ شقيقة، وأخرى ما زالت تحترق. الذاكرةُ العراقية، المنحوتةُ من ستةِ عشر سنة، مصنوعةٌ من الحريق والغرق. هذهِ العبّارةُ النوروزية، باتت دُميةُ ماتريوشكا روسية. إذا نحّيتها جانباً، ستجدُ عبّارة المطعم اللبناني (2013)، وإذا سحبت اللبنانية، ستشمُ من احترق، في كارثةِ عِمارة الكرادة (2016). عجيبةٌ؛ هاتين الكلمتين: عبّارة الموصل؛ تبدو كدليلٍ، على ما ذهب إليه؛ عبد الستار ناصر، في روايته (قشور الباذنجان): الكلمات أولى عجائب الإنسان، لقد سبقت المعجزات. هي تعملُ أيضاً كقاطرةِ فجائع، تجرُ لنا، عربات مآسي ودموع، تسيرُ على سكّة الأنين، لتصِل محطة السماء. هي على الأرض، لا تفلح في أن تجعل للرحمة قدمين، وسط حُطامِ وطنٍ من زُجاج.

نوفل العاكوب، مُحافِظُ نينوى، والذي عُزِلَ ثمَّ أُقيل (22-24 مارس)، وفّق بين رأسين، في الحلال القانوني، للسُلطتين التنفيذية والتشريعية. الأولى؛ استندت على القراءة الأولى لقانون الخدمة المدنية الاتحادي (!)، وربّما قد استعانت بعضلات المادة 83، والله أعلم. أمّا السُلطةُ التشريعية، والتي أقالت المُحافِظ ومجلس المحافظة، فلم تُقصّر هي الأخرى. يحيى الكبيسي، ذَكَر ذلك، في مقالته (العراق: عندما يتحول التشريع إلى فوضى)، المنشورةِ؛ يوم الـ 28 من مارس، على صفحات القدس العربي. الخُلاصة التي خرج بها، كاتبُ هذهِ السطور مما قرأهُ للكبيسي: إنَّ ما استند عليه الزوجان المؤقتان، من قوانين، كان مشروع علاقاتٍ عامّة، لحضورِ جنازة الفاجعة النوروزية.

هذهِ الفاجعة، بدأت حريقاً، بملفاتِ فسادٍ في الموصل، وصلَ دُخانُها إلى بغداد. شاهدتُ النيران الإعلامية للحريق، منذُ يوم الـ 4 من مارس. النيران تعالت أكثر، عندما تجرأ المُحافظ المُقال، أن يتهكم على أكبرِ أيقونةٍ للمراجع الدينية في حوزة النجف؛ السيستاني. الرجلُ تراجع. لا أحد يعرفُ من أين هبطت عليه شجاعةُ التهكم، أو من نصحهُ بأنّ تتلمظ شفتاهُ بـ عَرْق الاعتذار. القارىء، قد يجد، بأنّ القضية، تتحملُ مزيداً من الماضي، لكنهُ لو استخدم الروزنامة، لِحسابِ أيام التأبين الإعلامي، لفاجعةِ نوروز، سيكتشفُ أن تأريخي، قديمٌ جدّاً، مقارنةً بالنَفْسِ الجنائزي للميديا العراقية.

براءةُ المُحافِظ؛ لم تظهر سريعاً، احتاجت إلى أيّامٍ، ثبُت فيها، تحذيرهُ لأصحاب العبّارة، وبعدها بأيامٍ أيضاً، ظهرت أدلّةُ براءة شركاء مزعومين للمُحافِظ. في العراق؛ الموتى يغرقون ويحترقون، لكنهم لا يُغرقون أحداً بين القضبان، وليسوا بقادرين على حرقِ مسؤولٍ بالقانون. المُقال؛ نوفل العاكوب، تطاردهُ الآن، المدفعيةُ الثقيلة، لتهمٍ بالفساد والتربح، ومُذكّراتُ قبضٍ بحقِّه، لكنها لا تستطيعُ لمسه، لأنهُ يتحصنُ في كردستان العراق، حيثُ التشريعات القانونية العراقية، تمارِسُ هنالك، لُعبة الغرق (!). كيف تمكن؛ نوفل العاكوب من النجاة، وقبلهُ مُحافِظُ البصرة السابق؛ ماجد النصراوي، وهو مثالٌ آخر لا حصري؟ ولماذا من يتقلّدُ هذا المنصِب، يمتلكُ موهبة هوديني، في النجاة من كلِّ عقوبةٍ؟

علاج العطّار البريطاني

الحَبْرُ البريطاني، كان هو من رسم الحدود الجغرافية، المسموح لتشريعات الدولة العراقية، في العهد المَلَكي، أن تطأها، بأقدامٍ قانونية. البريطانيون وجدوا، أن القوانين الحديثة، لا تصلحُ إلَّا للمبيت في المراكز الحضرية من المُدن العراقية، أمّا الأرياف، فقد تركوا فيها للعُرفِ العشائري، أن يعمل كـ شامان قانوني، يستلهِمُ عِلاجاته الخاصّة، بحسبِ قوّة العشيرة، وساطة رجال الدين والأعيان، وقدرةِ الجاني والمجني عليه، على دفعِ ضررٍ عن العشيرة، أو جلبِ خيرٍ لها. المتصرف؛ اللقب السَلَف للمُحافِظ، والذي تمّ إلغائهُ في ستينيات القرن الماضي، جسَّد وباختصارٍ، الحدود القانونية، ما بين الريفِ والمدينة. الكتاب الأول، من ثلاثِ كتُبٍ، دبّجها؛ حنا بطاطو عن العراق، سجَّل ذلك الاختراع البريطاني.

مَنصِبُ المحافظ في العراق، بعد 2003، يبدو بدورهِ، صورةً تالفة، نُقِلت على عُجالةٍ، من ميكروفيلم تشريعات العهد الملكي، تُظهِرُ أن تشريعهُ، ما زال مُلطّخاً ببقيةٍ من المحاليل البريطانية. بقي مَنْصِب المُحافِظ، يعاني من اختناقاتٍ قانونية. السُلطةُ التنفيذيةُ، مثلاً، عبّدت بينها وبين مَنصِب المُحافِظ، طريقاً تشريعياً. أسفلتهُ قانون التعديل الثالث لقانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم (21) لسنة 2008 المعدّل، إذ إن التعديل الثالث لنصِّ البندين (ثامناً، عاشراً/ 1)، قد حلَّ محلّهُ. فيما يخصُّ البند الثامن- وما يهمُنا منه تحديداً: يُعد المحافظ بمثابة الوزير المختص. إذا قرأنا بقية التعديلات، على نصِّ هذين البندين، لسقطت المزيد من مساحيقُ اللامركزية، ورأينا امتلاك وجهِ سُلطات المحافظ، لقسمات حكومةٍ مركزية.

إذا مررنا على قانون الخدمة المدنية الاتحادي، نكتشِفُ إنّهُ فصَّل أنواع الوظائف إلى أقسامٍ ثلاث: الوظائف الخاصّة القيادية، الوظائف الخاصّة، والعُليا. المفارقة لم يأتِ على ذِكرِ منصِب المُحافِظ أبداً، في مثلثِ برمودا هذا !

المحافظ: ديك تنفيذي فرّ من فُرنهِ التشريعي

منصِبُ المحافظ في العراق، بعد 2003، كان من المفترض، أن يخرج من مطبخ الدستور العراقي، ديكاً روميّاً تشريعياً، تمّ شيّهُ على النيران الانتخابية في فُرن مجالس المحافظات، كدلالة على بركات الديمقراطية التي تنثرُ لا مركزيةً إدارية، ذات اليمين وذات الشمال. الهدف، أن يقوم ديكُ الفصح هذا (المُحافِظ)، بتوزيعِ أطايبِ سُلطاتهِ، على القوى المحلّية، وأن يستطيع إقناعَ، تلك القوى، والأحزاب التي رقّعت سُلطاتهِ في الأساس، بتوافقِها عليه، على الاحتفاظِ، برصيدٍ احتياطيٍ كبير، من العملة الإدارية المركزية التي تسكُّها بغداد، لضمان استثمارٍ شرعي في النفط الديمقراطي.. اللامركزية. النتيجة المفترضة؛ رفاهٌ وسعادة للمجتمعات المحلّية. دخول السُلطة التنفيذية في طاقم طبّاخيْ هذا الديك، يثيرُ جدلاً. مثلاً، الأكاديمي العراقي، احسان الشمري، والذي يرأسُ مركز التفكير السياسي، سألتهُ عن منصِب المحافظ، و: هل من الأفضل أن يكون تنفيذياً ويتم تعيينه من قِبَلِ الحكومة الاتحادية حصراً؟ اجابني: الافضل؛ اختيارهُ من قِبَلِ المحافظة، واضاف لي: نعم؛ هناك سوء أداء بسبب أحزاب المحافظات، إلَّا أن الخلل ليس بالتشريعات وإنّما بالشخوص. السياسي العراقي؛ هاني عاشور، كان لهُ رأيٌ آخر، المذاقُ التنفيذيُ فيه، كان حاد النكهة، عندما وجّهتُ إليه، السؤال ذاته: بعد ما أصاب المحافظات من فشل، أرى أن التعيين يجب أن يكون مركزياً، لأن المحافظ ورئيس المجلس عادةً، هما من الأحزاب القوية بالمحافظة، ويخدِمان مصالح حزبيهما.

بشار الحطاب؛ باحثٌ عراقي في القانون الدستوري، يؤشَّرُ لنا، أن المُحافِظ، هو أصلاً منصِبٌ تنفيذي: يُعد بدرجة وكيل وزير في تمتعه بالحقوق و اداء الواجبات. بحسبِ الحطاب أيضاً: المُحافِظُ؛ من ذوي الدرجات الخاصّة، وأن المركز القانوني للدرجات الخاصّة، يتمثل بكونهم جُزءً من السُلطة التنفيذية، بالرغم من سكوت القانون عن بيان جهة ارتباطهم. هذا الباحثُ الدستوري، ذَكَر أيضاً، ما يشبهُ تعريفاً إجرائياً للمحافظ، من قبل السُلطة القضائية : شاغل الدرجة الخاصة لايتمتع بشخصية قانونية مستقلة. و: لا يحق للمحافظ ممارسة صلاحية الوزير المختص.

المحافظات العراقية: محميات حزبية وحدائق جَزَرْ

تحوّلت المحافظات العراقية؛ بعد 2003، إلى محمياتٍ طبيعية، يُشرِفُ عليها حرّاسٌ حزبيون. الوظيفةُ الأساس، لتلك المحميات الحزبية، هو منعُ قُدرةِ الحكومة الاتحادية، على أن تتجاوز سُلطتُها، خانة الرقم صفر، إنْ لم يسبق نشاطها، تفاوضٌ مع الأب- زعيم الحزب.

مجالس المحافظات المُنتخبة، والتي تختارُ المُحافظ، هي لا تختارُ الأفضل، وإنّما الأفضل للأب الزعيم في بغداد. الأحزاب القويّة، وفَّرت لخراطيمِ أحزابِها في المحميات: المال السياسي، الطائفية، وشُبهات التزوير(!). أصبحت تلك الخراطيم، مصانِعاً مُتخصصة، لتصنيع الأصوات الانتخابية، عن طريقِ نُخبٍ وجماعاتٍ، قامت بتسمينها، بوساطةِ الوظائف، عقودُ المشاريع، والعلاقات العشائرية. لن تسمع في تلك المحميات، سوى وقع الحِراك السياسي، للأحزاب الكبيرة، وقعُها يشبهُ رقص الفيلة على الأرض. تتحركُ يميناً وتطيرُ شمالاً. الأحزاب الصغيرة، تصمتُ. تكتفي بجَزَرْ الوظائف، وحصّتِها من المال العام؛ هذا المال الذي يلبسُ حُلةٍ فاخرة، من المشاريع شبه الوهمية، قبل أن يرحل صوب شواطئ دولٍ، تحترِفُ غسيل الأموال القذِرة.

قدرةُ منصِب المحافظ، على الصمودِ أمام الفيلة الحزبية، يُذكِّرُنا بالرئيس الأمريكي؛ تيودور روزفلت، والذي طالبوه مرّةً، أن يروّض شركة علاقاتٍ عامّة. روزفلت؛ علّق ساخراً: تريدون مني أن أضاجع فيلاً. لا يستطيع المحافظ، وهو يشاهدُ قانون الغاب الحزبيّ هذا، إلَّا أن يشكّل حزباً صغيراً، من الموظفين المدنيين، يساعدهُ في توزيع منافع المحمية الحزبية، على جميع الفيلة وبالتساوي، بعد استقطاع رسوم هذهِ الوظيفة الجانبية؛ وظيفةَ أن يكون أسداً في السمسرة بين القوى، وحشرة في الإنجازات الخدمية.

منصِبُ المحافظ، بعد الانتصارِ على <<داعش>>، ساء أكثر. أباءُ النصر الذي تحقق، جميعُهم؛ طالبوا بحصّةٍ من المُحافِظ. النتيجة؛ لم يعد للسُلطتين، التشريعية أو التنفيذية، أيُّ تأثيرٍ عليه. أصبحت سُلطاتهُ، عبِارةً عن سَلَطة، تتحكمُ الميليشيات في مكوِّناتِها، أمّا المُحافِظُ فهو طبقٌ، لتمرير اجتهاداتِ صُنّاع السَلَطة (!). المُحافِظُ وباختصارٍ شديد، بشكلهِ الحالي، هو مشنقةٌ للإنسان العراقي، الدولة، الوطن، ومجرّدُ فمٍ يُقبِّلُ أيادي لصوصٍ، التحفوا السماء، وتدثروا بقوانينٍ، تصنعُ شهداءً، نازحين، فقراء، وعبّارات موتٍ نوروزي.