4 نوفمبر، 2024 6:25 م
Search
Close this search box.

العرافة والنجامة والعام الجديد

العرافة والنجامة والعام الجديد

مع انصرام كل عام وقرب حلول عام جديد يعمد الإعلام بكل أنواعه من مقروء ومسموع ومرأيّ باستعراض أهم الأحداث سعياً منه في أن تثبت هذه الأحداث في ذاكرة المتابعين قبل أن يطويها النسيان في زحمة الابتهاج بحلول العام الجديد والاحتفال والاحتفاء به، وهكذا يبلى بدوره الجديد وينصرم ويعقبه عام آخر جديد، ولعمري تلك هي لعبة الزمن الذي يسرقنا أعمارنا منّا ونحن عنه غافلون!!..
على أن هناك نشاط يتعدى الابتهاج الى التكهن بحوادث العام الجديد وما يحمله من أحداث أي التنبؤ وقراءة متغيرات المستقبل، وهي قراءات عامة حالف الحظ فيها بعض العرّافين والعرّافات في تحقيق بعض ما زعموا، فنالوا شهرة ولمعت أسماؤهم وغدا الإعلام يدعوهم ليستجلي أحداث الغيب منهم، وهم يطرقون بعض الأحداث ولا يفصحون عن تفاصيلها وأنما يشفِّرونها ويؤولونها فإن تحققت فهذا يثبت ” نبوغهم”..ولا بدّ من التفريق بين التنبوء بالمستقبل، وعلم المستقبليات الذي يبني ملامح المستقبل وفق دراسة علمية لمعطيات الحاضر ومتغيراته، وهو علم حديث برع فيه البروفسور المغربي المهدي المنجرّة (1913 – 2014).
وقد حفظ لنا التاريخ بعض الأسماء الهامة، أشهرها طرّا الفرنسي نوستر داموس (1503 – 1566) الذي ظل ينهل من كتابه في التنبوء من أتى بعده حتى يومنا هذا، والغريب أن من أتى بعده راح ينتقي منه وفي معظم الحالات يخطىء العرافون وفي القليل الأقل “يصيبون” ثم يتذكر الناس ما تحقق وينسون ما لم يتحقق، ومن صفة النسيان هذه يستفيد الإعلاميون والمؤرخون وقبلهم العرّافون، حيث يتذكرون ويذكرون ما يريدون تثبيته على حساب الوقائع التاريخية!
وفي القرن العشرين عُرف عن عرّافة بلقانية مكفوفة طبّقت شهرتها الآفاق وهي السيدة بابا فنجا (1911- 1996)، والتي ضخّم الإعلام من صحة نبوءاتها لتصل الى 85%، ما حدا بالزعيم السوفييتي ليونيد بريجينيف (1906 – 1982) أن يزورها ويخرج منها خائباً غير مسرور! ومن يراجع نبوءاتها سيجد أن أبرزها لم تتحقق وهي قيام حرب نووية لاتبقي ولاتذر بين 2010و 2016 ورغم فشل نبوءاتها فإن هناك تضخيماً إعلامياً مبالغاً فيه بشكل لافت يهدف الى شدّ الجمهور وكسب الجمهور المتعطش لفهم ما يحمله المستقبل وبذلك تتحقق الأرباح، ناهيك عن الدوافع السياسية للموضوع لإلهاء الناس بالمزاعم الخارقة كبديل عن تحققيق مطالبهم اليومية الحقيقية !
وكان الرئيس أحمد حسن البكر (1914 – 1982) شديد الإيمان بالخوارق الخفية للأولياء أو العرافين ولا نريد أن نذكر تعلقه الشديد في أحد الأولياء دفين المدحتية الإمام الحمزة من نسل العباس ابن الإمام علي، وزياراته الخاصة لمقام العباس في أوقات ليلية متأخرة دون بقية الأئمة! وإيمانه “بمعجزة” محمد سكران الذي لم تتمكن ماكنة الجرف من مس ضريحه! بل كان إيمانه الشديد بنبوءات ونصائح العرافة العراقية الكفيفة رفعة لفته الدراجي التي تربطها علاقة بالبكر قبل أن يصبح رئيس جمهورية وتحديدا عام 1964، حيث كانت تتنبأ له ولعائلته، وقد استشارها عن إقدامه على استلام الحكم في انقلاب 68 فأكدت له النجاح وهذا ما حصل! الأمر الذي جعل البكر وحتى خير طلفاح وزوجة صدام يستقرئونها الطالع! وقد نصحت البكر وحذرته من صدّام وحردان وقد دفعت ثمن هذه النصيحة وغيرها من النصائح ثمناً باهظا! وقد خصص الدكتور حميد عبد الله في برنامجه “تلك الأيام” حلقتين، عن اختفائها حيث ذكر أخوها اللواء عباس لفته في احدى الحلقتين ما حلّ بها: إذ حدث أن زارها عدي وأخوه قصي في دارها في الطوبجي عام 1981، وكان لها أن سألها عدي عن إمكانية أن يصبح رئيس جمهورية، فقالت: إنك لن تصبح رئيساً لأن أباك سيمكث في الرئاسة مدة طويلة! وفي مصدر آخر زادت: إنك غير محبوب أيضا. فخرج عدي مغضبا وأخوه.. ووفق أخيها اللواء أنه بعد مدة غير طويلة جاءت سيارة تكسي كرونا فيها رجال دخلو بيتها واقتادوها معهم.. وتلاشت دون أثر! وحيث أن لها أخوين ضابطين صدر قرار بفصلهما من الجيش!
وتاريخيا عرف العرب والعرافة والعيافة والنجامة (التنجيم) وقراءة الطالع والاستخارة والتنبوء رغم أن هناك قولاً مأثوراً: “كذب المنجمون وإن صدقوا” فإن الخلفاء كان لهم منجمون يستشيرونهم في استطلاع المستقبل واستجلاء الغيب.. ووفق هذا فقد نبه العرافون والمنجمون المعتصم (796-842م/179-227ه) من فتح عموريا وأن الفشل سيكون حليفه لكن المعتصم استجاب لاستغاثة إمرأة عربية حين بلغه صرختها: وامعتصماه، فجهز جيشاً وكان حليفه النصر في فتحها ولهذا قال أبو تمام (803-845م /188-231ه) في قصيدته العصماء:
ألسيف أصدق إنباءً(*) من الكتبِ – في حدّه الحَدُّ بين الجِدِّ واللَّعبِ
إلى أن يقول:
أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما – صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ
تَخَرُّصاً وَأَحاديثاً مُلَفَّقَةً – لَيسَت بِنَبعٍ إِذا عُدَّت وَلا غَرَبِ
ورغم أننا نعيش في قرن المنجزات العلمية الكبيرة والثورة العلمية الكونية فإننا نجد للأسف نمطاً من الثقافة الاستهلاكية التي تسيطر على عقول الناس لاسيّما الأجيال الصاعدة من قبيل برامج طوالع الأبراج التي تغزو القنوات الفضائية ناهيك عن قراءة الطالع والتنجيم وخاصة برنامج الدجال أبي علي الشيباني الذي يُشيع الخرافات والغيبيات بأساليب الدجل التي ينبغي لها أن تكون قد انقرضت في عصر العلم وإنجازاته التي تشكل قفزات عملاقة.. وخاصة في غزو الفضاء وعصر المعلومية والصناعات الإلكتونية وثورة الاتصالات التي لا تني تتطور.. بينما اختفت أو كادت البرامج العلمية وتحولت الى برامج للأخبار العلمية ..
في حكم الاسلام السياسي الذي هو نقيض للعلم ويحول الدين الى طقوس ومناسبات وهدر للعمل وظاهرة التسرب من المدارس والتعطيل في أيام الطقوس والمناسبات التي غدت تتكاثرعلى حساب العلم والعمل مع زيادة المممارسات العشارية والعرفية التي غدت بديلا للقانون بل تجاوز على القوانين فزواج القاصرات وجعل المرأة ضحية للفصل العشائري أمور ترجعنا الى نصف قرن الى الوراء للأسف!
فمن صلب مهام المؤسسات التعليمية والتربوية هو العناية في التربية الروحية والمادية لبناء الإنسان وتوظيف رجال التربية بإعادة صياغة المناهج الدراسية لمكافحة الغيبيات والخرافات والدجل، ولا بدمن الاستخدام الأمثل للبرامج الثقافية في مؤسسات الإذاعة والتلفزيون من خلال بث البرامج الهادفة التي تعنى بالإنسان علماً وأخلاقاً وثقافة إنسانية بديلة للتدهور الشامل .. على ان افتتاح شارع المتنبي بادرة تثمن من أجل الارتقاء بالذائقة الجمالية، كما أنه يصبح بؤرة استقطاب لقطاع واسع من الشعب من أجل ثقافة تقدمية إنسانية رصينة وتعميمها هو من أوليات تضافر وزارة التربية ووزارة الثقافة بالتنسيق مع أتحاد الأدباء و أتحاد الفنانين للنهوض بواقعنا نهوضاً شاملا نحو الأحسن فهل سيكون عام 2022 عاما يلبي حاجات الإنسن العراقي روحياً وماديا؟
هذا ما نطمح إليه.
(*) استخدام المصدر “إخبار” يمنح البيت ديناميكية الفعل أكثر من استخدام الإسم “الأخبار”.
الثالث من ك2/يناير 2022

أحدث المقالات