في الوقت الذي تستعد فيه القوى السياسية العراقية لخوض غمار الانتخابات التشريعية المقبلة، يواصل السيد مقتدى الصدر ترسيخ مقاربته السياسية المتمايزة عن سائر الفاعلين في المشهد. رفضه المتجدد للمشاركة في العملية الانتخابية لا يمثل تراجعًا عن الدور السياسي، بل هو تعبير واعٍ عن استراتيجية بديلة تقوم على التأثير من خارج النسق التقليدي، واستثمار الرصيد الجماهيري والرمزي في مواجهة ما يعتبره انحرافًا جوهريًا في بنية النظام السياسي العراقي.
استراتيجية الصدر في المرحلة المقبلة تقوم على ثلاثة مستويات متداخلة: أولها، التموضع الأخلاقي خارج بنية الفساد السياسي، وهو ما يعزز صورته أمام قاعدته كقائد طهوري يرفض التماهي مع نظام أنتج طبقة سياسية متهمة بالفشل وسرقة المال العام. ثانيها، الحفاظ على الجاهزية الشعبية للتيار الصدري، حيث يواصل تحشيد جمهوره من خلال الرسائل الرمزية، دون الانخراط الفعلي في مفاصل السلطة. أما المستوى الثالث، فهو الرقابة السياسية والمجتمعية من خارج البرلمان، ما يمنحه هامشًا أكبر في النقد والمناورة دون تحمّل كلفة المسؤولية المباشرة.
لكنّ هذا التموضع، رغم وجاهته الرمزية، يفتح على مجموعة من التحديات، أبرزها احتمال نشوء فراغ تمثيلي في الشارع الصدري داخل المؤسسة التشريعية، ما قد تستثمره قوى منافسة تسعى إلى تقليص نفوذ التيار أو احتوائه عبر تحالفات جديدة. غير أن الصدر، بما يمتلكه من قدرة استثنائية على تعبئة جمهوره واستثمار الرمزية الدينية والاجتماعية، لا يزال يمثل قوة يصعب تجاوزها، حتى وهو خارج المعادلة الرسمية.
ومن المتوقع، في ضوء هذا الموقف، أن تتخذ المرحلة المقبلة طابعًا مزدوجًا: برلمان شكلي قد تفتقد قراراته إلى الغطاء الجماهيري الكامل، مقابل حضور ضاغط للصدر في الشارع كصوت رافض للواقع السياسي. وقد يُستخدم هذا الضغط الشعبي لاحقًا كورقة لفرض معادلات جديدة، سواء عبر الدعوة إلى انتخابات مبكرة بشروط إصلاحية، أو من خلال تحريك الشارع في لحظات مفصلية لإفشال تمرير قرارات لا تحظى بالقبول الجماهيري.
الأخطر من ذلك أن استمرار التهميش غير المباشر للتيار الصدري من قبل خصومه داخل الإطار التنسيقي قد يفتح الباب مجددًا على مشهد احتجاجي أكثر حدّة من تظاهرات 2022، خصوصًا إذا ما تراكم الإحباط في الشارع، وتزامن مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. عندها، سيجد الصدر نفسه مضطرًا للانتقال من خانة التحذير الرمزي إلى المواجهة السياسية المباشرة، ولكن خارج قواعد اللعبة البرلمانية التقليدية.
في المحصلة، لا يمكن قراءة موقف السيد الصدر على أنه عزوف عن السياسة، بل هو هندسة دقيقة للغياب المؤثر. وإن كان لا يرغب في العودة إلى المؤسسات القائمة، فهو بالتأكيد يعمل على إعادة صياغة شروط العودة بما يضمن تغييرًا حقيقيًا في بنية الحكم. وبينما تتجه القوى التقليدية إلى ترسيخ معادلات السلطة، يمضي الصدر في بناء خطاب ما بعد السلطة، حيث الإصلاح لا يكون من داخل المفسدة، بل من خارجها، بالضغط والمقاطعة والتمثيل الرمزي العالي.
وهكذا، فإن المرحلة المقبلة قد تكون ساحة لاختبار قدرة المشروع الصدري على البقاء مؤثرًا خارج البرلمان، وقدرة النظام السياسي على الاستمرار دون أحد أعمدته الشعبية الأكبر هو التيار الصدري.