الشيخ يوسف كركوش سادن الذاكرة الحِلِّيّة وأحد أعلام التأريخ الإسلامي

الشيخ يوسف كركوش سادن الذاكرة الحِلِّيّة وأحد أعلام التأريخ الإسلامي

في حواضر العراق، حيث تمتزج العراقة برفيف الورق، يبرز اسم الشيخ يوسف كركوش كجذعٍ ضاربٍ في الأرض، تفرعت منه أغصان المعرفة وتفتحت عليه أزهار التاريخ والفقه والأدب. لم يكن الشيخ يوسف كركوش مجرد مؤرخ أو فقيه، بل كان روحًا تسكن الحروف، وصوتًا ناطقًا باسم الحلة، مدينة النهر والعلماء والمآذن، التي أغدقت عليه حبها فأفاض عنها بالمداد والكلمات.

وُلد في عام 1906 بين أزقة الحلة العتيقة، حيث كانت الأرواح مشبعة بأنفاس العلم والمروءة، فنهل منذ نعومة أظفاره من معين الحوزة الدينية وتلقى أولى علومه في مجالس العلماء وخلوات الزهاد. وكان شغفه بالعلم كالجمر تحت الرماد، لا يلبث أن يستعر كلما لمح كتابًا أو سمع حكاية من التاريخ. وهكذا، سار في طريق لا يعرف السكون، طريق المعلومة الممحوة التي سعى لاستردادها، والحدث المنسي الذي آلا على نفسه أن يكتبه بمداد الحقيقة لا بأهواء الزمن.

ما إن اشتد عوده حتى بدأ رحلته في البحث والتأليف، غير متكئٍ إلا على ذاكرته الحديدية، وقريحته المتقدة، وإيمانه بأن توثيق التاريخ ليس ترفًا، بل مسؤولية جسيمة. وقد تميّز في هذه الرحلة بعين المؤرخ الحصيف الذي يرى في التفاصيل روح المدن، وفي الأسماء الصامتة حكاياتٍ كان لا بد لها أن تُروى.

   في كتابه مختصر تاريخ الحلة (1935)، ثم في عمله الأوسع تاريخ الحلة (1965)، قدّم كركوش شهادة حية على عصرٍ مضى، وشخوصٍ عبروا، وأسئلةٍ ظلّت مُعلقة تبحث عن مجيب. لم يكتب للتسلية، بل كتب ليحمي مدينة من النسيان، ويُعيد لأهلها أسماءهم وصورهم ومآثرهم. فتناول الحياة الاجتماعية بعين الراصد الدقيق، وسلّط الضوء على دور الحلة الثقافي والعلمي، ووقف إجلالًا أمام رجالاتها من العلماء والأدباء.

ولم يكن التاريخ وحده شاغله، بل امتد نَفَسه العلمي إلى مجال النحو، حيث خطَّ كتابه الفريد رأي في الإعراب (1958)، فطرح فيه رؤية إصلاحية في قواعد اللغة العربية، أضاءت طريق الباحثين في زمن كان النحو يُتهم فيه بالجمود. رأى فيه الدكتور نعمة رحيم العزاوي امتدادًا واعيًا لتيار تيسير النحو، متمثلاً بأعمال إبراهيم مصطفى، وشوقي ضيف، ومهدي المخزومي، ليُصبح هذا الكتاب على صغر حجمه، أحد لبنات التجديد اللغوي في القرن العشرين.

كما وضع الشيخ كتابًا نقديًا بعنوان كشف الغطاء عن فقهاء الفيحاء، جاء ردًا عميقًا وموضوعيًا على كتاب السيد هادي كمال الدين، في سعي منه لإنصاف التاريخ الديني وتقديم قراءة متزنة لفقهاء المدينة. فكان هذا العمل شاهدًا آخر على حسه النقدي النبيل وقدرته على التفكيك والتحليل.

وإلى جانب كتبه، نشر الشيخ كركوش مقالات رصينة في موضوعات شتى، ما بين الفقه والتاريخ واللغة، لم يتخلّ فيها عن دقته العلمية، ولا عن صدقه في القول. ولم تكن معرفته حبيسة الأوراق، فقد سعى إلى توظيفها في خدمة مجتمعه، فكان خطيبًا، ومصلحًا، وموجهًا، حمل في قلبه هاجس الدعوة إلى التسامح، وحماية التراث، ونشر الوعي بين النشء.

وقد أدرك مبكرًا أن للأمم ذاكرة، وأن فقدان هذه الذاكرة يعني التيه. ولذلك دعا إلى صيانة المخطوطات، وتوثيق الآثار، واستشعر خطر التفريط بالماضي، فوقف مدافعًا عن تراث العراق، مؤمنًا أن الحرف الحافظ للتاريخ هو نفسه الذي يصون هوية الأوطان.

وحين ترجل الفارس عن جواده في عام 1978، ترك خلفه ما لا يُمحى، لا في قلوب محبيه، ولا في صفحات كتبه. بقي اسمه يلمع في رفوف الباحثين، وفي ذاكرة كل من قرأ سطورًا من كتبه أو سمع خطبة من خطبه أو استلهم من عطائه سبيلًا للمعرفة. لقد عاش الشيخ يوسف كركوش للحلة، وللعراق، فأعطاهما عصارة عمره، وسطرًا من سيرته في كل كتاب.

إنه واحد من أولئك الذين لا تموت أسماؤهم، لأنهم حين كتبوا، إنما كتبوا بدمهم وأيامهم وأحلامهم. وسيظل صوت الشيخ يوسف كركوش يتردد كلما نطق باحث باسم الحلة، وكلما بحث مؤرخ عن عدالةٍ في سطور الزمن.

أحدث المقالات

أحدث المقالات