في زحمة الذكريات الوطنية التي تنبض بالصدق والعذاب، يطلّ علينا وجه عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) كإشراقة تمردٍ لا يخبو، وكسطرٍ عنيدٍ في سفر العراق النضالي، سطرٍ كُتب بالحبر تارة، وبالدم في معظم الأحيان.
ولد في البصرة، تلك المدينة التي تشبه قصيدة تكتبها الأنهار وترددها النخيل. في “محلة المشراق” عام 1920، فتح عبد الجبار عينيه على عالم يتقاذفه الظلم والاستعمار، وعلى أفق من الكتب والحلم والتحدي. كان منذ صباه طاليًا متفوقًا، رُشّح لبعثة دراسية إلى إنكلترا، لكن رياح الحرب العالمية الثانية عصفت بذلك الحلم، فشقّ طريقه بنفسه إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، ليغرس قدميه في أرض الفلسفة والفيزياء. من هناك، كان سقراط جليسه والذرة دربه، وكأن روحه اختارت التوازن بين ما يُضيء العالم وما يُضيء الضمير.
عاد إلى العراق عام 1943 لا كعائدٍ من الغربة، بل كمن عاد يحمل جمرة لا تخبو، ليشعل بها عتمة بلاده. درّس الفيزياء في بعقوبة ثم في كلية الملك فيصل، لكنه كان يرى أن التعليم وحده لا يكفي لتنوير بلد مُكبّل، فدخل معترك السياسة من بوابة حزب الشعب أولًا، ثم عبر بوابة الحزب الشيوعي التي انفتح لها قلبه وعقله منذ عام 1948، وأقسم أن لا يغلقها إلا حين تنكسر قيوده أو ينكسر جسده.
كان من أوائل من نذروا قلمهم لقضية السلم العالمي، حين وقّع على نداء “ستوكهولم” إلى جانب الجواهري والسياب والعاني وبحر العلوم، مسجّلًا اسمه في سجل الحالمين بعالمٍ خالٍ من الحروب. كتب، وتظاهر، وسُجن، ونُفي، لكنه لم يتراجع. حمل كتبه وطفليه، وترك زوجته المناضلة “نظيمة وهبي” وراء القضبان، ليواصل السير على درب الخطر لا النعيم. خرج من الوطن ليعود إليه أقوى، وأشد ارتباطًا بجذوره، متسلّحًا بالموقف لا بالنجاة.
بعد ثورة 14 تموز 1958، تنفّس العراق فجرًا كان يحسبه قريبًا، وكان عبد الجبار أول العائدين من المنافي. لم يبحث عن منصب أو مجد، بل عن صحيفة تُنشر فيها كلماته كمن يبعث رسالة يومية إلى الشعب. وكان عموده الشهير “كلمة اليوم” في صحيفة “اتحاد الشعب” نبضًا يوميًا للناس، سكينًا في خاصرة الاستبداد، وجرسًا يوقظ الضمائر النائمة. كلماته، بأسلوبها الشعبي الساخر اللاذع، كانت تُطرب الفقراء وتُقلق الحكّام، حتى قال عنه الزعيم عبد الكريم قاسم: “رصاص رأس القرية ولا كتابات عبد الجبار وهبي”. وكان هذا القول شهادة لا في خطر قلمه فحسب، بل في صدقه، إذ لم يهادن، ولم يساوم، ولم يكتب إلا ما يُشبه قلبه.
وحين حاولت أجهزة السلطة تكميم صوته، زُجّ به في المعتقل، بلا تهمة واضحة، سوى أنه كان يشكّل خطرًا على أمن من لا أمن له. خرج من السجن بعناد أشد، ليواصل فضح العابثين بالثورة وأحلام الفقراء، كمن يدري أن السيف سيأتيه من الخلف، لكنه لا ينحني.
وجاء يوم الغدر، 8 شباط 1963، فانقلبت الجمهورية على نفسها، وفتح البعثيون أبواب الجحيم على كل ما هو حر ونبيل. في الأيام السوداء تلك، حين كانت سجون العراق تضيق بأبنائه الأوفياء، كان عبد الجبار وهبي، مع رفاقه الحيدري والعبلي، يحاول إعادة النَفَس للحزب، وإحياء ما أُريد له أن يموت. لم يختبئ، بل وقف في قلب العاصفة، حتى اعتقل في تموز 1963. لم يُحاكم، لم يُدافع عن نفسه، لم يُسعف، بل قُدّم قربانًا جديدًا على مذبح الحرية.
أُعلن عن إعدامه يوم 19 تموز 1963، وغيّب الجلادون جسده، لكنهم ما استطاعوا أن يغيّبوا صوته، فما زالت كلماته تتردد، وما زال عموده “سارق الأكفان” يفضح لصوص الحاضر كما فضح لصوص الأمس، وما زال صوته حاضرًا في ضمير هذا الوطن، كصرخة لا تموت، كقصيدة لا تنتهي.
عبد الجبار وهبي، كان أكبر من صحفي، وأعمق من كاتب، كان سيرةً ناصعة في زمنٍ مُعتم، وكان شاهدًا وشهيدًا في آنٍ معًا. ترك لنا أوراقه، وخطّ بدمه وصيته: “اكتبوا ما لا يُكتب، وقولوا ما لا يُقال، فالسكوت موت، والكلمة مقاومة”.
وهكذا بقي معنا، لم يمت. فمن يكتب بالدم لا يغيب، بل يخلد في ذاكرة الوطن، كاسمٍ لا يُمحى، وكقنديلٍ لا ينطفئ.