السوداني وتمرين المركزية الهادئة: حين يتمرّد القرار العراقي على هواجس الهوية

السوداني وتمرين المركزية الهادئة: حين يتمرّد القرار العراقي على هواجس الهوية

في واقع إقليمي معقّد، حيث تختلط الأجندات بالمحاور، والانتماءات بالمواقف، قد تصعب أحياناً قراءة المشهد السياسي بمعزل عن تموجات الهوية والتموضعات التقليدية. يفسّر هذا المناخ السلوك السياسي العراقي الذي اتسم بالتحفّظ تجاه الحالة السورية الجديدة خشية الانغماس أكثر في فخّ التخندقات الإقليمية. لكن قرار بغداد الجريء والمحسوب بقطع حالة الترقّب واستئناف التواصل الرسمي عالي المستوى مع دمشق، والذي جسّده لقاء رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بالرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، برعاية قطرية، يفتح نافذة جديدة لفهم موقع العراق في معادلة المنطقة، ليس من باب الاصطفاف، بل من بوابة “المركزية الهادئة” والفعل السيادي الرشيد.

 

العراق في الوسط: لا كجسر بل كقطب

بالاعتماد على رؤية قيادية تنظر أبعد من مرآة المزاج العام، وتغادر منطقة الراحة في خندق الذات إلى فضاء السياسة والتفاعل البنّاء مع التحديّات، قرّر السوداني أن يلتقي الشرع شخصياً في الدوحة، متمرّداً بهذه الخطوة المدروسة على السكون الإقليمي، فكسر الجمود متحلياً بمرونة عقلانية لا تغفل المخاطر ولا تعبث بخارطة توازنات المنطقة.

ورغم انعقاد اللقاء في الدوحة، إلا أن المركزية الرمزية والسياسية فيه كانت للعراق. فليس من قبيل المصادفة أن يكون رئيس الوزراء العراقي هو الطرف الذي أُحيط بالامتنان من الضيف والمضيِّف على حد سواء. قبول السوداني لدعوة قطر لم يكن انقياداً لإرادة خارجية، بل استثماراً ذكياً لمكانة العراق التي تتنامى في لحظة إقليمية حرجة. توجّس العراق من التغيير في سوريا يجعله حذراً، لكن أيضاً يمنحه موقعاً تفاوضياً أقوى. لقد استثمر السوداني هذه الفرصة واستجاب للوساطة القطرية، فنال بذلك موقع مَن “يمنح شرعية” أو “يرفع التحفظ” عن حُكّام سوريا الجدد.

القول إن أغلب دول المنطقة كانت معنية بإقناع بغداد بفتح قنوات تواصل مع دمشق بعد التغيير؛ هو بحد ذاته يُظهِر أن القرار العراقي في هذا الملف لم يكن تابعاً بل ضرورياً، مُنتَظَراً، ومُهمّاً.

إن ما فعله السوداني لا يمكن اختزاله في كونه شجاعة أو مغامرة، بل هو تصرّف رجل دولة يملك القدرة على الخروج من عباءة التحيّزات المسبقة دون أن يخلّ بتوازنات اللحظة. هو قرارٌ مؤثر في العمق، لأنه لا يستعرض الجرأة بل يوظفها لخدمة رؤية متأنية تعيد رسم مكانة العراق في تفاعلات المنطقة.

تُشكّل هذه الخطوة إعادة تموضع محسوبة، ترمي إلى استباق التحوّلات الإقليمية، وتأمين موطئ قدم عراقي في مستقبل سوريا الجديدة.

 

التدبّر بدل التلقائية: السياسة لا العاطفة

في منطقة مهجوسة بالصراع الطائفي، وتعيش دولها قلقاً وجودياً مرتبطاً بـ”تهديدات أيديولوجية” متوقعة، ما زالت الحسابات “الهوياتية” تهيمن على تموضع الدول وتؤثر في مشهد الاتساق والافتراق في العلاقات الإقليمية. نظرية الاختيار العقلاني تشتغل بوضوح في هذا السياق، فعدد من دول المنطقة، بمرجعياتها “السنية”، لم تجد حرجاً في القبول الفوري بالنظام الجديد في سوريا، لأسباب تتعلّق بأمنها الاستراتيجي في بُعده “الهوياتي”، رغم التوجّس المحيط بما يمثّله الشرع من “رمزية أصولية”. الترحيب بالشرع هنا يرتبط بأن نظامه يشكّل بديلاً لـ”مشروع إيران” في سوريا، ويجسّد صعوده “انكساراً” لنفوذها، وتراجعاً لتأثيرها في المنطقة، كما يرتبط بافتراض أن “الخطر المحتمل” الذي يمثّله صعود الشرع كـ”جهادي سابق” يمكن احتواؤه. خيار هذه الدول هنا هو خيار “عقلاني” بالنسبة لها لأنه لم يهدر فرصة قيام نظام “حليف” في سوريا.

بالمقابل، إيران، بمرجعيتها “الشيعية”، تتحسس من الرجل لأنها تراه واجهة لـ”مشروع هوياتي مناوئ”، جاء على أنقاض نظام الأسد “حليف طهران”. خيار إيران هو أيضاً خيار “عقلاني” بالنسبة لها، فأي مرونة تبديها تجاه الشرع ستقوّض سرديتها في الملف السوري، وفي ملفات عديدة في المنطقة.

لكن العراق، الذي عانى من ثنائية الانكفاء والعزلة، فقد خالف هذا النسق، ووجد خياره “العقلاني” في التمرّد على هواجس الهوية وإملاءاتها لا التواؤم معها، ساعياً إلى تحويل “نقاط ضعفه” المفترضة إلى نقاط قوة، فتحرّك بمنطق العَمَلانيّة المتأنّية والبرود الاستراتيجي، إدراكاً لظروفه وتلمساً لمسار “واقعي” يتلاءم معها. التأنّي أبعد القرار العراقي عن التلقائية والارتجال، فلم يتسرّع في محاولة تسويق ذاته إقليمياً ودولياً بالقبول بالشرع مباشرةً ومن دون شروط، ولم يقع في فخ الانغلاق “الطائفي” على سوريا الجديدة.

تحرّك العراق بمنطق ما ينبغي فعله وما يُمكن تحقيقه، لا بمنطق مَن نحن وما يجب أن نشعر به. الشجاعة هنا ليست في اتخاذ قرار صعب، بل في اتخاذ قرار غير متوقع. الشجاعة، كما يمكن تلخيصها، هي أن تتمرد على إملاءات الهوية الذاتية. موقف العراق هنا هو موقف “عقلاني” أيضاً لأنه يقرأ خصوصية وضعه ويستفيد منها، ويستثمر فيها.

بمنطق العَمَلانية، والتدبّر السياسي، والوعي الجيوسياسي، والاستجابة الواقعية، لا الانسياق الوجداني، لتحوّلات المنطقة، يتعامل العراق اليوم مع الملف السوري، وهو نهج يستجيب لمصالح الشعبين لا لتناقضات الأنظمة.

 

صورة بدلالات لافتة

وتبقى صورة اللقاء الثلاثي في الدوحة حاضرة ومؤثرة، في رمزيتها ودلالتها. السوداني يجلس في المنتصف، بين الشيخ تميم والشرع، في مشهد لا يظهر فيه العراق كطرف محايد، بل كقطب سياسي يتمتع بالمركزية. لبّى السوداني دعوة أمير قطر فحصدت الدوحة لحظة استضافة محورية تعيد تموضع الدور القطري بعيداً عن أبوية أردوغان، وحاز الشرع لحظة مقبولية “نوعية” تحتاجها “سوريا الجديدة” في مشوارها نحو التوازن. وبين هذا وذاك، ظهر السوداني كمبادِر وصاحب قرار. وكأن كل ما جرى دار في فلك “الامتنان للعراق”، لا العكس.

نجح النهج العراقي في الحيلولة دون أن تتحوّل تحفّظات العراق على “النظام الجديد” في سوريا إلى رفض لـ”سوريا الجديدة” التي يحتفي بها السوريون ويرون فيها حلم الحرية والخلاص الذي تحقق بعد طول صبر ومعاناة. ففي النهاية، من واجب العراق أن يحترم تضحيات الشعب السوري، وأن يبقى حريصاً على العلاقات بين الشعبين وما يترتب عليها من تكامل اقتصادي وثقافي وإنساني.

وعندما نتحدث عن الاقتصاد، تفتحُ إعادة تفعيل العلاقة بين البلدين الباب أمام استباق التشبيك الاقتصادي مع سوريا الجديدة، إذ يدرك صانع القرار العراقي أن الاقتصادات لا تنتظر السياسيين المترددين. العلاقات الاقتصادية تحتاج إلى إرادة سياسية مبادِرة تقرأ المستقبل وتستثمر فيه، لا إلى خطاب حذِر ينتظر التوافقات الهوياتية أو الإقليمية.

 

الاستجابة لا الانقياد

حين تُبذل جهودٌ دبلوماسية من أطراف عدة لإقناعك بفعل شيء، فقرارك بالاستجابة يمكن أن يكون موقفاً سيادياً إن أحسنت توقيته وأتقنت إدارته. وهذا ما فعله السوداني مستثمراً مناخ الانفراج الإقليمي، فحين تكون إيران منشغلة في حوار مع الولايات المتحدة، فإن مستوى التوتر ينخفض مؤقتاً، ويضعف منسوب “الرقابة الأيديولوجية” التي تمارسها بعض القوى القريبة من طهران في بغداد. السوداني استثمر هذه “الهدنة السياسية المؤقتة” ليخطو خطوة جريئة من دون أن تُواجَه داخلياً بحملة شعاراتية ضده.

من جهة أخرى، لم يكن اللقاء بالشرع انصياعاً لضغط إقليمي، بل استثماراً لهذا الضغط في ترسيخ موقع العراق كصانع قرار لا كملتحق بقرارات الآخرين.

الممانعة، في العمل السياسي، قد تكون مفيدة كتقنية تفاوضية، لكن المبالغة فيها قد تحوّلها إلى سلوك انسحابي يأتي بنتائج عكسية. ليس من مصلحة العراق أن يبقى يراوح في خانة الاجتناب السياسي، ولا أن يبدو منساقاً بلا إرادة في ملف تأهيل النظام السوري الجديد إقليمياً ودولياً، ولكن من المهم أيضاً أن تستثمر الحكومة اللحظة لإخراج العراق من سياسة الانطواء على الذات التي لم تمنحه سوى الهامش إلى سياسة المشاركة التي تجعله في مركز القرار والتأثير كترجمة طبيعية لمكانته الجيوسياسية.

 

الانتخابات: الصورة مفيدة ومُلهِمة

انتخابياً، صورة اللقاء مع الشرع في الدوحة لا تُضعف رئيس الوزراء العراقي، بل تقويه. في بلد سئم من الخطابات الخشبية وسلبية ردود الفعل، يبحث العراقيون عن رجل دولة يمسك بزمام الفعل، لا سياسي يتلاعب بالألفاظ والمشاعر. عن زعيم يتخذ قرارات محترمة، لا يتودد للجمهور بلا بوصلة. الزعامة، في المخيال الشعبي، تتطلب حضوراً، لا شعارات. تتطلب توازناً، لا تهرّباً. تتطلب مبادرة، لا تردداً. والسوداني، من خلال هذا اللقاء، قدّم نفسه كمن يملك شجاعة الفعل وهدوء التقدير.

يراهن رئيس الحكومة العراقية على ملل الجمهور من الخطاب الدفاعي المنكفئ للسياسي التقليدي الذي لا يظهر إلا ليبرر ويهاجم خصومه. ظهوره في الدوحة كـ”قائد للمشهد” و”ممثل للفعل السيادي الوطني” يعطيه نقاط قوة أمام مجتمع يشعر باللاجدوى وانعدام السيادة.

كما تتجلى في سلوك السوداني، في هذا الملف، رمزية الاعتدال النشط، فهو لا يفرّط ولا ينسحب، بل يُفاوض ويناور. وهذا النوع من الأداء السياسي يجذب شرائح أوسع من الناخبين المتطلعين لنموذج مختلف وأفق جديد.

إن حضور العراق لا غيابه هو ما ينبغي أن تحرص عليه سياسة بغداد الخارجية هذه المرة، ولقاء الدوحة، رغم ما واجهه من معارضة داخلية، يُظهر أن العراق جزء من اللعبة، لا مجرد هامش فيها، وهو ما يتوق إليه العراقيون في بلد عانى من انكماش دوره الإقليمي وفوقية الخارج ووصياته.

 

تمرين في السيادة

لم يحسم السوداني الملف السوري، ولم يفرض خريطة إقليمية، لكنه قدم للجمهور العراقي تمريناً مهماً في فن ممارسة السيادة دون ضجيج. في أن تكون فاعلاً لا منفعلاً، شريكاً لا تابعاً، مقدَّراً من الآخرين،ومُقدِّراً لهم أيضاً. في كيفية عقد صفقات يربح فيها الجميع. وفي أن تبني بصبر وهدوء “مركزية أخلاقية” في التدافع الإقليمي. وهو تمرين نادر في زمن الاستقطابات، ويستحق أن يُقرأ بتأنٍّ، لا بتأويلات مسبقة.

في الدوحة، كان العراق واثقاً، متماسكاً وعقلانياً. وصورة رئيس الوزراء هناك تخاطب وجداناً وطنياً يريد أن يرى من يحكمه قوياً دون استعلاء، حاضراً دون خضوع، مبادِراً دون تبعية.

شكراً للعراق، وشكراً لمن يتحرك باسم العراق بأفقٍ خلّاق، لا بهواجس معيقة.

 

تنويه: هذه المقالة ثمرة نقاش معمّق وتفاعل مشترك بين الكاتب والمنصة الذكائية (ChatGPT)، حيث جرى تنقيح الأفكار وصياغتها في سياق تحليلي متوازن. وقد حافظ الكاتب على صوته ورؤيته، بينما ساهمت الأداة في توليد المعرفة، وبلورة التعبير، وتجويد البناء الحِجَاجي للنص.

أحدث المقالات

أحدث المقالات