الخيار الوطني لانتصار الكفاءة- قراءة في الانتخابات البرلمانية الكندية

الخيار الوطني لانتصار الكفاءة- قراءة في الانتخابات البرلمانية الكندية

شهدت كندا هذه الايام تحولاً تاريخياً في مسارها السياسي بعد فوز الدكتور مارك كارني، الخبير الاقتصادي المعروف والحاكم الأسبق لبنك كندا وبنك إنجلترا، في الانتخابات التشريعية لعام 2025، متفوقاً على زعيم المحافظين بيير بولييفر، ومُنهياً بذلك حقبة جاستن ترودو الذي قاد الحكومة الكندية والحزب الليبرالي منذ عام 2013. لم يكن هذا الفوز نتيجة قوة تنظيم حزبي فقط بل كان انتصاراً للكفاءة والخبرة والرؤية الاقتصادية المتزنة. كارني لم يكن سياسياً بل مثّل نموذجاً نادراً للقائد التكنوقراطي الذي أثبت عبر تجربته المهنية أنه قادر على معالجة الأزمات بثقة واحتراف.
لقد أراد الكنديون التغيير  ولكنهم لم ينجرّوا خلف الشعارات. بل توجهوا نحو خيار عقلاني، اختاروا فيه شخصاً لم يُعرف بكاريزما جماهيرية صاخبة، بل بقدرة واضحة على إدارة الدولة ومواجهة التحديات الاقتصادية التي تعصف بالعالم. وفي بلد مثل كندا تظل الكفاءة سبباً أساسياً للفوز حين يُتاح للشعب أن يُصوّت بحرية ويُحاسب الأداء ويُقدّر الإنجاز بعيداً عن الولاءات الضيقة.
وإذا ما نظرنا إلى هذا الحدث من زاوية عربية فإن العراق يمثل نموذجاً معاكساً في مساره السياسي. منذ أكثر من عشرين عاماً ، يعيش الوطن الحبيب تحت نظام سياسي قائم على المحاصصة الطائفية والحزبية، حيث لم تكن الكفاءة يوماً مدخلًا للحكم، بل تسلّق كثيرين إلى السلطة يمثلون أحزاباً  لا مشاريع وطنية. لقد تشكلت الحكومات العراقية المتعاقبة من خلال توافقات فوقية لا صناديق اقتراع حقيقية تعبّر عن إرادة شعبية حرة. والنتيجة كانت فشل إداري متراكم، بنية تحتية منهارة، اقتصاد ريعي بالكامل من شماله إلى جنوبه وفجوة هائلة بين الدولة والمواطن.
لكن السؤال الذي لنا ان نطرحه هو: هل يمكن أن يشهد العراق في انتخاباته القادمة بروز شخصيات كفوءة تُقدّم بديلاً حقيقياً عن الطبقة السياسية المتشبثة بالسلطة؟ هل يمكن للعراقيين أن يتجاوزوا إرث الطائفية والانقسامات ويتجهوا كما فعل الكنديون إلى خيار وطني جامع تقوده الكفاءة لا المحاصصة؟
الحقيقة ان الجواب لا يكمن فقط في وجود شخصيات كفوءة في العراق، فهي موجودة فعلاً داخل البلاد وخارجها، بل في قدرة هذه الشخصيات على التنظيم والدخول في المعترك السياسي بعيداً عن عباءة الأحزاب التقليدية. والأهم من ذلك هو وعي المواطن العراقي، الذي إن قرر أن يُدير ظهره للوجوه القديمة، وأعطى صوته لمن يخدم الدولة لا الطائفة، فإن التغيير سيكون ممكناً.
فوز الخبير الاقتصادي لقيادة كندا يعكس قدرة العملية الانتخابية على تصحيح الأوضاع وتمنح الفُرصة للكفاءة لتقود. وفي المقابل، فإن استمرار العراق في الدوران داخل حلقة مغلقة من الزعامات الطائفية والمصالح الضيقة، يعني أن الانتخابات ستبقى مجرد مناسبة لتدوير الفشل.
ما يحتاجه العراق اليوم ليس فقط صناديق اقتراع، بل إرادة وطنية تتجاوز الانتماءات، وتُعيد تعريف السياسة كأداة لبناء الدولة، لا لتقسيمها. وما يحتاجه أيضاً هو دعم شعبي واسع لكل محاولة جادة لكسر نمط الفساد والتوريث السياسي عبر الدفع بشخصيات مستقلة نزيهة، خبيرة، تضع مصلحة العراق فوق كل اعتبار.
فكما قال أحد المحللين الكنديين تعليقاً على نتائج الانتخابات : “الشعوب التي تبحث عن الأمان تختار من يعرف كيف يُدير الأزمات، لا من يجيد دغدغة العواطف.” وهذا بالضبط ما يجب أن يتعلمه العراقيون: أن التغيير الحقيقي لا يبدأ من فوق، بل من قرار جماعي داخل صناديق الاقتراع، بأن الكفاءة أولى بالثقة من كل شعارات الطائفة والحزب والعشيرة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات