الإعلام، ذلك السلاح ذو الحدين، يُفترض أن يكون مرآة عاكسة للحقيقة ,صوت العدالة، ومنبر الحياد ولكنه، في ظل الطائفية المقيتة، تحول إلى أداة لتزييف الواقع، وتزوير الحقائق، وخدمة أجندات ضيقة تُمعن في تمزيق النسيج الاجتماعي. إن الطائفية ليست مجرد انحياز مذهبي، بل هي سرطان ينخر في مصداقية الإعلام، يحوّله من منصة للتنوير والإبداع الفكري والثقافي إلى منبر للتضليل والخداع بل الى الازدواجية الفجة التي يمارسها الإعلام الحزبي الطائفي المسيس، فأصبح اليوم هذا الاعلام ليس إلا أداة للتفرقة نسيج المجتمع بلباس الحق.
الخطاب الطائفي في العراق، بعد انهيار ما يُسمى بمحور المقاومة والممانعة “الهلال الشيعي” تحوّل إلى سلاحٍ مُسموم يُشعله الأحزاب والكتل السياسية لتصفية الحسابات وتعبئة الجماهير. هذا الخطاب، الذي ينضح كراهية وتفرقة، يُبث عبر فضائيات ومنصات إعلامية تابعة لأحزاب السلطة ويخدم فقط للترويج أجندات مذهبية ضيقة، تُغذي الانقسامات بين السنة والشيعة والأكراد، مُحوّلةً الشارع العراقي إلى برميل بارود ينتظر الانفجار في وجه الآخر بأي لحظة. احزاب السلطة الحاكمة تستغل الذاكرة الدينية والعرقية لتأليب الناس، فتُحيي روايات المظلومية التاريخية وتُروّج للاستعلاء المذهبي، مُتجاهلةً المصلحة الوطنية وحق المواطنة للجميع.
وفي مشهد انتخابي فوضوي مشحون بالتخبط والتشتت ووسط صراعات محمومة بين أحزاب وكتل سياسية تتسابق لعقد تحالفات انتخابية قائمة على الطائفية المقيتة والمذهبية . هذه الأحزاب، وعبر فضائياتها وإعلامها المسيس، تُشعل نار الكراهية وتُؤجج خطابًا طائفيًا بشعًا ينذر بانفجار مسلح سيقود الشارع إلى هاوية الدمار. الجميع اصبح يتهافت ويراهن على استغلال الانقسامات المذهبية لبناء قوائمه وتحالفاته، وقد أُطلقت شرارة هذا الخراب الأولى على يد إمام وخطيب جمعة النجف الجمعة الماضية بتصريحه:” أن إقبال السكان في المحافظات الغربية ذات الغالبية السَّنية على تحديث بطاقة الناخب أكثر من مناطق الوسط والجنوب؛ هي محاولة تهدف لانتزاع الحكم من الشيعة , وهذا معناه أمر مبيَّتٍ بليل، كما صرّحوا بأنهم يريدون أخذ الحكم من الشيعة ” مثل هذا الخطاب التحريضي ومعها أشعل فتيل هذا الصراع، مُطلقًا دعواتٍ مُبطنة للعنف تُهدد بجرّ البلاد إلى هاوية اقتتالٍ طائفي. الإعلام، بدوره، يُضخّم هذا الخطاب عبر تقارير مُغرضة وبرامج تحريضية، مُعززًا التخندق المذهبي ومُهددًا بتحويل التنافس الانتخابي إلى مواجهات دموية مسلحة . هذا الواقع يكشف عورات النخب السياسية التي تتاجر بالطائفية لضمان كراسيها، بينما العراق يغرق في فوضى قد تُطيح بما تبقى من نسيجه الاجتماعي في أتون الصراع على السلطة ولا يدفع ثمنه إلا المواطن الفقير الذي لا ناقة له ولا جمل في وسط كل هذا الركام , وتُلهب هذه الأحزاب نار الكراهية بخطاب طائفي فجّ يُنذر بانفجار دموي سيُغرق الشوارع في جحيم لا رجعة منه. الكل يستقوي بـ الانقسامات المذهبية لتشكيل قوائمه وتحالفاته الانتخابية وبعيدا عن مبدأ المساواة والعدالة وتعزيز من خطاب المواطنة.
الإعلام الطائفي لا يسعى للعدالة، بل يصنع روايات تُبرر الانحياز. عندما يتعلق الأمر بقضية ما، نرى كيف تُصاغ الأخبار بطريقة تخدم طائفة دون أخرى، وكأن الحقيقة سلعة تُباع وتُشترى في سوق المصالح. خذوا مثالاً : عند وقوع حادثة، يسارع الإعلام الطائفي إلى تصوير طرف كضحية وآخر كجلاد، دون أدنى محاولة للتحقق . لماذا؟ لأن الحقيقة لا تهم، بل المطلوب هو تعزيز الانقسام المذهبي وإشعال الفتنة الطائفية. هذا الإعلام لا ينقل الأخبار، بل يصنعها، يحرّفها، ويلوي عنق الحقائق ليجعل من الظالم مظلوماً ومن المظلوم عدواً وإعلام يدّعي الحياد بينما يغرق في مستنقع الطائفية، يختار كلماته بعناية ليصنع انطباعاً مزيفاً، ويستخدم الصور والعناوين ليوجه الرأي العام كما يشاء . أليس هذا خيانة للأمانة الصحفية؟ أليس هذا تلاعباً سافراً بعقول الناس؟
إذا أردت أن تختبر مدى طائفية الإعلام، راقب كيف يتعامل مع قضيتين متشابهتين لكن أطرافهما من طوائف مختلفة . ستجد الفارق الصارخ كالشمس في رابعة النهار . عندما يرتكب طرف محسوب على طائفة معينة جريمة ، يسارع الإعلام إلى التقليل من شأنها، أو يبررها بـ “الظروف” أو “الاستفزاز” لكن إذا كان الطرف من طائفة أخرى ، فالجريمة ذاتها تُضخم ، تُعمم، وتُستخدم لشيطنة الجميع ! إعلام يزن الحقيقة بميزانين ، يصرخ باسم العدالة عندما يخدم أجندته، ويصمت صمت القبور عندما تكون الحقيقة ضده؟.
ولنكن اكثر وضوحا وصراحة : هذا الإعلام ليس إعلاماً، بل هو أداة دعاية يباع ويشترى لمن يدفع له أكثر يخدم أجندته . إنه يختار ضحاياه بعناية، يمجّد من يخدم مصالحه، ويصلب من يقف في طريقه . إن الطائفية في الإعلام لا تكتفي بتزييف الحقائق، بل تذهب أبعد من ذلك , إنها تزرع الكراهية، تغذي الانقسام حتى يصل بين افراد العائلة الواحدة، وتجعل من المجتمع ساحة للصراع بدلاً من أرض للتعايش السلمي وتغليب لغة المواطنة وحق الجميع بالعيش المشترك.
الأدهى والأمر أن الإعلام الطائفي يتستر على انحيازه بقناع العدالة. يتحدث عن “حقوق الإنسان” و”حرية التعبير” بينما يمارس التمييز السافر . يرفع شعارات براقة ليخفي نواياه الطائفية. كفى نفاقاً! إذا كانت العدالة هي الهدف، فلماذا تُروَّج رواية واحدة وتُسكت الأخرى؟ لماذا تُسلط الأضواء على مظلومية طائفة وتُتجاهل مظلومية أخرى ؟ إن هذا الإعلام لا يسعى للعدالة، بل لتكريس الظلم تحت شعارات زائفة.
خذوا القضايا القضائية كمثال . كم من مرة رأينا الإعلام يحاكم أفراداً قبل القضاء، فقط لأنهم ينتمون إلى طائفة معينة ؟ وكم من مرة رأينا تغطية إعلامية تبرئ المتهمين قبل الحكم ، فقط لأنهم من طائفة أخرى؟ هذا ليس إعلاماً، بل هو عصابة إعلامية تتاجر بالحقيقة وتستغل المنابر لتصفية الحسابات مع الطائفة المنبوذة.
إن مواجهة الإعلام الطائفي تتطلب شجاعة ووعياً. يجب أن نرفض أن نكون مجرد متلقين سلبيين لما يُقدمه هذا الإعلام المشبوه . حان الوقت لنعري هؤلاء وكشفهم على حقيقتهم ! علينا أن نتحرى الحقيقة بأنفسنا، أن نقرأ ما بين السطور، وأن نكشف التناقضات. الإعلام الطائفي يعتمد على جهل المتلقي وسلبيته، فإذا تمردنا على هذا التضليل، سينهار بنيانه من الأساس وعلى المستوى الاجتماعي، يجب أن نعزز الحوار بين الطوائف، لا أن نترك الإعلام يحوّلنا إلى أعداء. وعلى المستوى الفردي، يجب أن نتحلى بالجرأة لنقول: لا للإعلام الذي يحرّف! لا للإعلام الذي يقسم! لا للإعلام الذي يبيع الحقيقة بثمن بخس!
لا بد لنا من توجيه بالبوصلة الى الاتجاه الصحيح وأن يركز الإعلام الخطاب الانتخابي على التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية، ويدعو لاختيار المرشحين بناءً على الكفاءة والنزاهة والسمعة الطيبة، وان لا نرى مستنقعًا طائفيًا مقززًا يُروّج لانتخاب أيّ أحمق أو فاسد طالما يحمل راية المذهب أو الطائفة المطلوبة. هذا الخطاب البغيض، الذي ينضح جهلاً وانحطاطًا، يتجاهل تمامًا المؤهلات الأكاديمية أو القدرات الحقيقية، مُفضلاً الولاءات المذهبية الضيقة على مصلحة العراق. الأحزاب تُسوّق هذا السم عبر فضائياتها المأجورة، مُحوّلة الانتخابات إلى سوقٍ للمزايدات الطائفية، حيث يُباع صوت الناخب لمن يصرخ أعلى باسم نصرة المذهب والطائفة، مُهددًا بتمزيق البلاد ودفعها نحو هاوية العنف والتخلف.
الإعلام الطائفي هو وصمة شاذة على جبين الإعلام الحقيقي. إنه يستغل أقدس المنابر ليروج أحط الأجندات. ولكننا، كمجتمع متماسك بوطنيتنا ، لسنا عاجزين. يمكننا أن نرفض هذا التزييف، أن نطالب بإعلام يعكس الحقيقة لا يشوهها، وأن يكون صوت العدالة الحقيقية. الحقيقة لا تحتاج إلى أقنعة، وهي ستنتصر مهما حاول الإعلام الطائفي طمسها.ولكن تبقى الحقيقة التي لا يستطيع أحد إنكارها بان جميع الأحزاب السياسية بمختلف توجهاتها الفكرية والعقائدية قد أجرمت بحق المجتمع العراقي؟