16 يونيو، 2025 10:01 ص

التكوّن الإيراني .. هوية تصهرها القرون

التكوّن الإيراني .. هوية تصهرها القرون

“أُمّةٌ تُولد من رحم الملاحم، لا من متواليات الجغرافيا، ولا من هندسات الاستعمار”

تُطرح إيران اليوم، في ظل المواجهات المتصاعدة مع الغرب، كعلامة استفهام كبرى على خريطة الشرق، لا لأنها مجرد دولة تصارع على حدود أو نفوذ، بل لأنها تختزن في بنيتها التاريخية والرمزية أحد أعقد نماذج تشكيل الهوية في التاريخ الحديث. فهل ستكون هزيمتها — إن وقعت — لحظة انكسار تاريخي أم بداية لتحول جديد؟ وهل يتغير مسار الأمم بالهزائم، أم يُعاد تشكيله بلغة الرموز والألم؟ هذه التساؤلات ليست فقط لحظة تأمل طارئة، بل مدخل ضروري لفهم التجربة الإيرانية ضمن أطر فلسفية وتاريخية وجيوسياسية متداخلة، وهو ما نحاول تتبعه من الجذور.

“ليست السلطة هي من تهزم الأمم، بل قدرة الأمة على نسيان نفسها” — ميشيل فوكو

ففي الملف الإيراني– ما يمكن أن نستهله حين نُسائلُ المسار التاريخي لتشكُّل الهوية الإيرانية، لا بوصفها انعكاسًا سياسياً لجهاز دولة، بل كمركّبٍ رمزي يتماهى فيه الشعر مع الطقس، والعقيدة مع الملحمة، والجرح مع الذكرى.

تختلف إيران جذريًا عن العالم العربي في بُنية التشكُّل الأول، من حيث كونها الولادة لا في العراء، بل في العُمق. فبينما وُلدت الدول العربية من رحم خرائط سايكس–بيكو، كإقطاعيات سياسية طارئة فوق أراضٍ مأهولة بتجزؤات القبيلة والطائفة، سارت إيران نحو هويتها ضمن مسار تصاعدي متراص، قوامه شعور داخلي بالامتداد. فالدولة الصفوية (1501م)، لم تكن مجرّد كيانٍ سياسي، بل كانت إعادة صياغة لهوية إثنية–روحية في آن: فرضت التشيّع الاثني عشري كمذهب رسمي، لا بوصفه عقيدة فقهية فحسب، بل كرؤية كونية، تمتد من كربلاء إلى شعر حافظ الشيرازي، ومن سردية المظلومية إلى أطياف الفردوس المفقود.

كتب عبدالكريم سروش عن الدين كثقافة .. وعن التشيّع بوصفه لغة رمزية: “الشيعة ليست مذهبًا فقط، بل ذاكرة.” ومن هنا نفهم كيف أصبح التشيّع في إيران هو البنية التحتية للخيال السياسي. لم يكن مجرّد ترسانة فقهية، بل بوصلة وجدانية تُترجم لحظات التاريخ إلى صور شعرية، ومواقف وجودية. كربلاء، في هذا السياق، ليست واقعة دموية فحسب، بل مرآة لجدلية الظلم والخلاص، وهذا ما منح الخطاب السياسي في إيران قدرة تعبئة فريدة: كل تهديد خارجي يُعاد تأويله ضمن سردية الصبر الزينبي والبطولة الحسينية.

الشعر الفارسي – من الرودكي إلى فروغ فرخزاد – لم يكن أداة زينة، بل صندوق أسود للهوية. إن الشعر في إيران ما زال يشكل جهاز تنفس قومي. (حافظ وسعدي وفردوسي)* لم يكتبوا فقط ليُقرأوا، بل ليُسكنوا في القلب الجماعي للأمة. كتب إدوارد براون: “الشعر في إيران هو الدين الثاني.” وليس ذلك مجازًا. إذ أن كل بيتٍ شعري يحمل داخله قسطًا من التاريخ، ونبضًا من الذاكرة. هذه الثقافة الشعرية هي ما وحّدت الإيرانيين تحت قباب الحرف حين تمزقت كثير من الشعوب تحت وقع السلاح.

يقول هيغل إن الأمم العظيمة هي التي تحوّل التاريخ إلى وعي. الوعي بالاستمرارية لا بالتكرار. وهذا ما فعلته إيران: لم ترَ نفسها كجمهورية طارئة، بل كاستمرار زمني لحضارات متعاقبة: الأخمينيون، الساسانيون، الصفويون، القاجاريون، فالخمينيون. حتى الثورة الإسلامية لم تأتِ كقطع مع الماضي، بل كانت استعادة للهوية في وجه التحديث القسري، وكانت الرد الرمزي على محاولة الاقتلاع الغربي.

في إيران نجد أن الدولة–العقيدة تصبح صلدة حين تصبح الأمة مركزًا لا محيطًا. خلافًا للنموذج العربي حيث الدولة غالبًا فوق الأمة، في إيران تتماهى الدولة مع مفهوم الأمة. النظام السياسي هناك ليس مجرد سلطة، بل هو حامل للهوية، حارس لسرديةٍ تمتد قرونًا، ووريثٌ لتاريخ مقدّس ومقدّس بالتاريخ. ولذلك، فإن كل ضغط خارجي – سواء حرب العراق أو العقوبات أو العزلة – لا يؤدي إلى تصدع داخلي، بل إلى نوع من التلاحم الأسطوري، أشبه بما وصفه نيتشه بـ”إرادة المعنى في مواجهة العدم”.

رغم تنوع الأعراق: كرد، أذريين، بلوش، عرب… فإن الهوية الإيرانية لم تُبنَ على الإقصاء، بل على آلية دمج رمزية. لم تُمحَ الهويات الفرعية، بل تم احتواؤها داخل سردية وطنية–تاريخية تجعل من الفضاء الفارسي–الشيعي مظلة جامعة، لا زنزانة. بقت المكونات العرقية ضمن خطاب السرد الجامع. وقد وفّر الشعر والمذهب أداة ربط، بينما ظل الحنين للماضي الإمبراطوري طاقة استرجاعية تُذكّر الجميع بالمجد الجامع.

ليس من السهل فهم إيران إن لم نقرأها بوصفها نصاً مركّباً، من الجغرافيا إلى الميثولوجيا .. لا دولةً فقط. أمة لا تُفهم بمنطق الجغرافيا، بل بمنطق الميثولوجيا؛ لا بحسابات الاقتصاد، بل بنبض الأسطورة. لذلك، فإن كل تهديد لها يعيد بعث ملحمتها. وكل مأساة، تتحوّل إلى طقس. وكل ألم، يُعاد تدويره إلى خطاب. وهذا ما يجعل من الهوية الإيرانية ليس مجرد سردية قومية، بل مشروعًا حضاريًا متماسكًا، تصهره التجربة، وتصونه الرموز، ويكتبه الشعر، ويعيد التاريخ اجتراحه كل مرة بلغة جديدة، دون أن يغادر جوهره.

“إن الأمم العظيمة لا تموت، بل تتقمّص رموزها.” – علي شريعتي.

اليوم، يقف المشهد الإيراني أمام مفترق وجودي: ماذا لو واجهت الجمهورية الإسلامية هزيمة عسكرية شاملة أمام الغرب؟ هل ينهار النموذج؟ أم يُعاد إنتاجه بوجه جديد؟

التاريخ يقول إن الهزيمة لا تكسر الأمم بالضرورة، بل أحيانًا تُعيد ولادتها. وربما تكون إيران إحدى تلك الحالات التي تحوّل الألم السياسي إلى طاقة رمزية. لكن، إن كانت الهزيمة صادمة، قاطعة، مدمِّرة للبنية الرمزية، فقد لا يبقى من الهوية إلا شظايا تتنازعها الإثنيات والهويات المحلية، ونعود إلى ما قبل الصفويين.

وربما — كما حصل في ألمانيا واليابان — تنهض إيران من رمادها، لا بثيوقراطيتها، بل بهويتها الثقافية، لتعيد تعريف ذاتها على نحو مدني–حضاري، تتجاوز به شكل النظام دون أن تنسى روحها. فالسؤال، في النهاية، لن يكون: هل هُزمت إيران؟ بل: هل نسيت نفسها؟

ما دامت تحتفظ بذاكرتها الشعرية، ومخيالها الكربلائي، ومفهومها للتاريخ كزمن دائري يربط البداية بالنهاية، فإن إيران كأمة قد تنهزم مؤقتًا، لكنها لا تزول.

إننا أمام تجربة فريدة تستحق التأمل، لا للدفاع عنها، بل لفهم أعمق لما تعنيه الهوية حين تتجاوز الجغرافيا، وتصبح — كما قال إدوارد سعيد — “سجالًا دائمًا بين ما نحن عليه، وما نخاف أن نصبحه، وما نرغب أن نظل نراه في أنفسنا”.

 

هلسنكي 14.6.2025
…….
…….
(*
حافظ الشيرازي (1325–1390م): شاعر صوفي يُعدّ من أعظم شعراء الفارسية، امتاز شعره بالغنائية العميقة والتأمل الميتافيزيقي، وارتبط ديوانه بـ”الفال” والطقوس الشعبية في إيران، حتى أصبح جزءًا من الذاكرة الجماعية.

سعدي الشيرازي (1210–1291م): حكيم وشاعر، عُرف ببلاغته الأخلاقية ونثره التعليمي، وله كتابان شهيران: “گلستان” (البستان) و**”بوستان”**، يُدرّسان في المدارس الفارسية حتى اليوم.

فردوسي (940–1020م): ملحمة الشاهنامه التي ألّفها تُعدّ الركيزة الأولى لإحياء اللغة الفارسية بعد قرون من التهميش، وقد صاغ فيها تاريخ إيران الأسطوري ما قبل الإسلام، مما جعله رمزًا للهوية القومية الفارسية.