الإنسان هو مقياس كل شيء

الإنسان هو مقياس كل شيء

قال الفيلسوف الإغريقي بروتاغوراس: “الإنسان هو المقياس كل شيء”.

بهذه الجملة وضع الإنسان في مركز المعنى، لا تابعا لغيره، بل مرجعا للحقيقة ومعيارا للوجود.

قبل هذا القول، كان كل شيء يُقاس بالأساطير والآلهة وكلام الكهنة. لكن بروتاغوراس قدّم منظورا مختلفا: الحقيقة ليست مطلقة، بل نسبية، تتشكل داخل وعي الإنسان. ما يراه صحيحا فهو صحيح بالنسبة له، وما يراه خطأ فهو خطأ بالنسبة له.

بهذا المعنى، لم يعد الإنسان مجرد متلقٍ، بل صانع ومبدع. يزرع فيجعل الأرض خصبة، ويثور ليصوغ معنى جديدا للعدالة.

هذه الفكرة جعلت الحرية مسؤولية. لم تعد القيم تُمنح من السماء، بل تأتي من التجربة اليومية في البيت والشارع والعمل. الإنسان هو من يمنح الأشياء قيمتها: يقرر الخير والشر، ويمنح للحياة معناها.

إن فكرة “الإنسان هو المقياس” لا تعني فقط أن الحقيقة نسبية، بل إنها إعلان مبكر عن بروز الفرد، وعن الاعتراف بقيمته كذات مستقلة. في زمن بروتاغوراس، كان المجتمع الإغريقي مهووسا بالجماعة، بالمدينة، وبالآلهة التي ترعى شؤونها. أن يأتي فيلسوف ليقول إن الإنسان الفرد هو المقياس، فهذا بمثابة ثورة فكرية غيّرت الثقافة السائدة.

منذ ذلك الحين، أصبح الإنسان في الفلسفة، ثم في الأدب والفن والسياسة، مركز الأسئلة الكبرى: ما معنى العدالة؟ ما حدود الحرية؟ كيف يتحدد الحق والباطل؟ كلها أسئلة تعود في النهاية إلى الإنسان، إلى وعيه، وإلى تجربته.

ولعل أجمل ما في هذا القول أنه لم يحصر الإنسان في بعد واحد. لم يقل إن العقل وحده هو المقياس، أو أن القوة وحدها هي المقياس، بل جعل الإنسان بكل ما فيه، بعقله وخياله وعاطفته وحلمه ،هو المرجع. هذا الانفتاح هو الذي ألهم لاحقا عصور النهضة، وأطلق الفنون والعلوم، وفتح الطريق أمام الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ورغم مرور القرون، ما زالت المجتمعات الحديثة، حتى مع تقنياتها وقوانينها ودساتيرها، تعود إلى السؤال ذاته: هل الإنسان حقا هو المقياس، أم أن هناك من يحاول أن يصادر هذا الحق لصالح سلطة أو نص أو أيديولوجيا؟

إن قوة هذه الجملة أنها لا تسمح بالتواطؤ. فهي تضعك أمام مرآة: إما أن تعترف بأنك أنت المقياس، وتتحمل مسؤولية قراراتك واختياراتك، أو أن تتنازل عن نفسك، وتسمح لآخرين بأن يقيسوا العالم عنك.

ولهذا، فإن مقولة بروتاغوراس ليست مجرد جملة فلسفية قديمة، بل صرخة خالدة: كن أنت المقياس، أو ستُقاس بغيرك.

واليوم، بعد آلاف السنين، ما زالت جملة بروتاغوراس تتحدى الأديان والسلطات وكل من يحاول أن يسلب الإنسان حقه في أن يكون مقياسا لنفسه. هناك دائما من يقول إن الحقيقة أكبر من الإنسان، وإنه لا يملك إلا الطاعة. لكن صدى الفيلسوف يذكّرنا: الحقيقة تبدأ من الإنسان نفسه.

الحرية ليست هدية تُمنح، بل حق يرافقك حين تجرؤ أن تقيس العالم بنفسك.

أحدث المقالات

أحدث المقالات