ذلك الكائن الغريب سكنَ الخيالَ قبل أن تسكنه البيانات… وُلد من رحم الحنين، واستمات في التمسك بأساطيره كما يتضرع عابدٌ في محراب نجاةٍ لا يخذله، ليرتشف كأسَ المعنى. يصنع الآلهة من حجرٍ ثم يسجد لها بخشوع، يروي عن وحوشٍ تسكن الظلام… ثم ينام مطمئنًا لأنها “تحميه”!
اليوم، يُحاكي هذا الكائن ذكاءً لا يشعر، ويقدّس بياناتٍ لا تحلم ولا تعشق. فأين ضحكته التي كانت تُزلزل الجبال؟
لماذا نشتاق إلى زمن الأساطير؟ لأنها كانت أولَ محاولةٍ لتأليه الإنسان. “أبولو” لم يكن إلهَ الشمس وحسب، بل ربَّ الموسيقى والشعر والرماية والنبوءة. لم نؤمن به لأنه يسطع، بل لأنه يوقظ فينا النغمةَ الرابطةَ بين الجمال والحقيقة، والسهمَ الذي لا يخطئ دربَ الرؤيا. كان احتفالًا بقدرتنا على رؤية النور وسط الحريق، واستخراج المعنى من بين الحطام.
وكان لنا نحن العرب أبولونا الخاص: شعرُ الخيال، وبهاءُ اللغة، ووهجُ القصيدة. عبدناه كالأولين، وإن لم نُقرّ بذلك. نصبناه فوق العقول، وسجدنا في الخلوات لبيتٍ يُشعل فينا نشوةَ الخلود. لم يكن الشاعر نبيًّا فحسب، بل إلهًا صغيرًا عرفناه حاملاً لسرّ الحياة… حتى وإن نطق بالوهم.
وحتى لغة القرآن الكريم، جاءت مُستلهمةً وهجَ خيال اللسان العربي، متفننةً في الإنشاء والتعبير، مُضيئةً دروبنا بين الكلمات بحمولتها من المعاني التي تُشبه نبضَ الحياة.
أما اليوم، فقد استبدلنا ذلك كله بـ: “إله الخوارزميات” الذي يعدنا بالسعادة… إن أطعنا توصياته!
“معبد الفضاء” حيث نعبد الشاشات… ونرى في أصوات التنبيهات ألحانًا مقدسةً تحلّ محلَّ الصلوات.
الأسطورة لم تكُن كذبةً، بل ظلًّا أخصبَ خيالاً وأعمقَ قبولاً لمعنىً نُسلّم له دون أن نطالبه بالحقيقة. أما بيانات اليوم… فهي وعدٌ بارد نكرهه، لكننا نُطيع صمته المُطبق.
بين صخور الأمس وذاكرة السحُب: نقش أجدادُنا آلهتهم في الصخور تُحدّثهم عن المجد والموت والحب… ونحن ننحت آلهتنا في “السحابة الإلكترونية” تُنبئنا: “حزمتك الشهرية أوشكت على النفاد”.
حتى الخلود اختلف مفهومه: هم أرادوه بالأساطير الخالدة… ونحن نبتغيه عبر نسخ الوعي في خوادمَ لا تعرف الحنين!
فكيف نعودُ لتأليه أنفسنا؟ إن لم نخلق أساطيرَنا الجديدة، ستتسلط علينا آلهةٌ آليةٌ جاهلةٌ بمعنى الحياة، تجرّدنا من أرواحنا وتحوّلنا إلى بياناتٍ باردةٍ لتسرق منا سر الخلود.