5 أكتوبر، 2024 3:33 م
Search
Close this search box.

الإصرار على الجهل والتخلّف لدينا إلى أين !؟

الإصرار على الجهل والتخلّف لدينا إلى أين !؟

عبارة (لا أعلم) تدل على الفضيلة والتواضع ومعرفة مقدار النفس ، لكنها تُعتبر نادرة جدا في مجتمعاتنا ، وعُرفا تُعتبر عيبا !، فلو سألتَ اي شخص عن مدى إجادته الإنكليزية مثلا لقال لك ، نعم أتقنها ! ، وما عليك إلا أن تتحمّل وزرَ سؤالك ، بسماع هراء الكلمات الخاطئة الغير مترابطة نطقا وقاعدةً مثل سيل مخاطي ! ، ويا ويلك إن حاولت تصحيح لغته المزمعة ! ، في أحد المرات ، كنت أزور موقعا ، وكان فني الكهرباء منهمكا في قشط الأسلاك بواسطة قاشطة الأسلاك (Wire Stripper) ، فقال لي (هل أنت مهندس كهرباء) ؟ ، أجبته ، نعم ، فسألني وكأنه يمتحنني (ما هذه) ؟! وكان يشير إلى قاشطة الأسلاك ، فأجبته بتعمّد (لا أعلم) ، فقال (إذن أنت ليس مهندسا) ! ، هذا الجاهل نَسَفَ كل دراستي وممارستي ! ، وأقسم أنني سمعت رجلا كبيرا ، لكن للأسف لم تشحذ السنون حكمته وهو لم يكمل الدراسة المتوسطة يقول (لستُ بحاجة لدراسة الطب لأني أعرف كل شيء عنه)! ، فنحن لا نعلم تفسير القول المأثور (رحم الله إمرءاً عرف قدر نفسه) ، ولا قول الإمام علي (جادلتُ الفَ عالمٍ فغلبْتَهم ، وجادلني جاهلُ واحدُ ، فغلَبَني) ! ، نعم ، لقد غلبني هذا الجاهل ، فآثرتُ السكوت ! ، أنا ضد إستصغار النفس ، لكن سرّ التشبث بالجهل ، هو أن الجاهل يعتقد في قرارة نفسه أنه ملمّ بكل علوم الكون ، دون علمٍ منه إنه يكرّس جهله هذا .

لن تجد سياقا علميا إلا ما ندر في التصليح مثلا ، فمعظم الحرفيين خصوصا في مجال الصناعات والتكنولوجيا ، قد شبّوا على روتين واحد في العمل اليدوي ، وتصوروا مدى الضرر الذي يصيب ما تحت أيديهم من معدات ، ويا ويلك إن أشرتَ عليه برأيٍ ما ، فسيسلقك بلسانٍ حاد ، تتردد فيه عبارة (أنت لا تفهم أكثر مني) ! ، فلا توجد لدينا أريحية تقبّل النقد ، حتى لو كان في محلّه .

نحن بعيدون جدا عن روح المغامرة وروح البحث ، والعذر هي الآية القرآنية الكريمة التي فهموها خطاً لإنها تُقال في مواقف أخرى (لا ترموا بأيديكم إلى التهلكة) ، لكن لا يمكن لأي إختراع أن يرَ النورَ دون مجازفة أو مخاطرة ، تكفينا قصة (الأخوين رايت) في إخترع الطائرة وعشرات القصص ، أبطالها جنود مجهولون ، هي التي مهّدت لهما هذا المجال ! ، هذا بالإضافة إلى تمسّكنا بروتين يومي رتيب ، ولا نبذل وقتا على حساب راحة البيت بالتسكع المفيد في الجامعة أو المؤسسة أو المكتبة ، ندرس ونعمل وفق سياق جامد دون إختيارنا ، فقَتلَ هذا الروتين روح الفضول والتقصّي لدينا ، وحتى لو توفّرت ، فلن تجد الأرضية الملائمة لتلبية هذا الطموح بسبب نقص التمويل في توفير الكوادر والمختبرات وإنعدام آفاق ممارسة الهوايات ، فما أجمل أن يتخذ الطالب من دراسته ، أو الباحث من بحثه كهواية ، سُلّما رصينا ووثيقا للإرتقاء ، فجميع العلماء الذين تركوا بصمة عميقة في الحياة ، قد إتخذوا من علومهم كهواية إلى درجة الهَوَس ! ، ويأتي أيضا الإصطدام بلوائح “الممنوع” ! ، جرّبْ مرة واحدة بالإنفراد مع أستاذك في حوار بعد إنتهاء الدرس وحلول وقت الإستراحة ، ستسمع عبارات اللوم والتأفف همساً بين زملائك الأكاديميين في الصف ! ، وسينعتونك بالمتزلف (لوگي) ، فكيف بالجاهلين !؟ .

دَخَلتْ فئات سياسية متنفذة ، هم أبعد ما يكونون عن العلوم ، فهيمنت على كل شيء ، منها أنها وجدت ضالتها في الربح الوفير تجارةً بإنشاء الجامعات الأهلية ذات الاجور الباهظة ، لن يقوى عليها سوى الأغنياء ، وسوف يحصلون هؤلاء الطلاب (حسب مالهم) على الإختصاصات التي يريدونها ، على عكس الطالب الكادح في الجامعات الحكومية ، فمعدله في الإمتحان الوزاري هو الذي “سيسوقه” إلى إختصاص ليس من إختياره على الأعمّ الأغلب من الطلاب !.

أما إن كان الخريج محظوظا ، وحصل على وظيفة ما ، حكومية أم أهلية ، فسيصطدم بجدران من المحسوبية والمنسوبية والعصبية على حساب الكفاءة ، ستمنع هذا الخريج من التدرّج بوظيفته بجدارة ، فالأولوية في صعود السّلّم الوظيفي ، هو لذوي القربى والمتزلفين بغض النظر عن الكفاءة ، ولا نلمس أية حيادية وإستحقاق حقيقي لدى كبار الموظفين والرؤساء في تقييم معيتهم (مرؤوسيهم) ، وسينكفئ الموظف على حاله ، وسيبحث حثيثا عن الظل ، لأن جهده ومثابرته لن يجلبان له ، سوى الحسد والمشاكل ، وسيكون الأول في الإنخراط بالجهود والمهام الصعبة التي تُناط به ، وسيكون الأخير عند كل مكافأة ، وأول مَن يُعاقَب لأنه في صُلب المسؤولية ، بينما الكسول والخامل سينجو من أي مسائلة لأنه بعيد عن المسؤولية ! ، يذكّرني ذلك بعبارة فجّة مُتَداوَلة في الجيش (كن قريبا من المطبخ ، بعيدا عن المقر) ! ، هكذا تضخمت البطالة المقنّعة النمطية المُعتادة إلى درجة التورّم ، فأضعف ذلك العملية الإنتاجية إلى درجة التلاشي ، وتنعدم الثقة بين القسم أو الشعبة والمدير ، وسيضطر إلى إستحداث قسم أو شعبة أخرى مكملة ، ظنا منه أنه سيتلافى النقص في الإنتاج ، تضم المزيد من البطالة المقنعة ، أي معالجة الخطأ بخطأ أفدح ، أما الثقة بين الدائرة والمواطن ، فمعدومة تماما ، وإلا ماذا تفسرون مبدأ (صحة الصدور) ؟! ، وحتى الوظيفة في الشركات الأهلية ، صارت هي الأخرى صورة مصغّرة عن سياقات “الدولة” ، بكل ما بها من حاشيات ومتزلفين وإمّعات !.

من النادر أن تلتقي بشخص مثقف ذو نزعة موسوعية يجمع بين الكثير من العلوم المختلفة غير المترابطة ، فتجده يفهم بالتاريخ واللغة والفقه والآثار ومبادئ علوم الطيران ، وبنفس الوقت هو من حملة شهادة هندسية أو طبية ، عندما خدمت في البحرية في ثمانينيات القرن الماضي ، جمعني العمل بخبير بريطاني ، كان شعلة ذكاء في إختصاصه كمهندس كهرباء ، ويعرف كيف (ينفّس) محرك الديزل ، هاوي طيران ، يقرأ الرادار الملاحي ، يتقن علم الملاحة البحرية إتقانا تاما ، رياضي ، لا يفارق كتبه حتى عند دخوله (التواليت) ، لديه معلومات عامة مذهلة ، يعرف عن آثارنا أكثر مني ! ، لا يتردد إطلاقا بالقول (لا أعلم I’ve no idea) عند تعذر جوابه عن سؤال ما ، لكن المؤلم حقا ، ان مؤسساتنا الأكاديمية المرموقة ، والمختصة بمفاصل العلوم التكنولوجية بالخصوص ، تساهم بتكريس حالة الجمود العلمي ، فشهادة الدكتوراه (PHD) ، تُمنح لِطَيفٍ ضيقٍ من إختصاص ما ، لا أنكر أنه سيكون عبقريا (Genius) في هذا الفرع بالذات ، لكن كلما توسّع بهذا الفرع ، نراه يهمل الفروع الأخرى من العلم المحسوب عليه إكتسابه ، متعللا بمبدأ (الإختصاص الدقيق) .

نأتي إلى موضوع الأطروحات أو المشاريع في الصفوف الجامعية المنتهية ، وهذه المنابر هي اللبنة الأولى الحقيقية للتطور التكنولوجي التي تبحث عنها المعامل ومراكز البحوث وصيادو الكفائات ، لكن سوف لن يُسمح لك إلا نادرا ، أن تختر موضوع الأطروحة بنفسك ، بل سيُفرض عليك ، وستضطر إلى دراسته من باب تبرئة الذمة ليس إلا ، لكونه يخالف طموحك وتوجّهك العلمي والعملي كما حدث معي شخصيا !.

أما إذا كنت منتميا لحزب ما ، فستتلاشى أمامك كل القيود والمحددات ، وسيتملقك الجميع بضمنهم المدير ولو كنت فراشا أو حارسا ، وسيتركونك تصول وتجول ، تتدخّل هنا وهناك دون حسيب أو رقيب ، بمعنى آخر ، لن تحتاج لمقالتي هذه ، وسترميها في أقرب سلة مهملات ، فأنت لست المعني بها ، لأنك خارج سياقها أصلا !.

أحدث المقالات