عبارة (لا أعلم) تدل على الفضيلة والتواضع ومعرفة مقدار النفس ، لكنها تُعتبر نادرة جدا في مجتمعاتنا ، وعُرفا تُعتبر عيبا !، فلو سألتَ اي شخص عن مدى إجادته الإنكليزية مثلا لقال لك ، نعم أتقنها ! ، وما عليك إلا أن تتحمّل وزرَ سؤالك ، بسماع هراء الكلمات الخاطئة الغير مترابطة نطقا وقاعدةً مثل سيل مخاطي ! ، ويا ويلك إن حاولت تصحيح لغته المزمعة ! ، في أحد المرات ، كنت أزور موقعا ، وكان فني الكهرباء منهمكا في قشط الأسلاك بواسطة قاشطة الأسلاك (Wire Stripper) ، فقال لي (هل أنت مهندس كهرباء) ؟ ، أجبته ، نعم ، فسألني وكأنه يمتحنني (ما هذه) ؟! وكان يشير إلى قاشطة الأسلاك ، فأجبته بتعمّد (لا أعلم) ، فقال (إذن أنت ليس مهندسا) ! ، هذا الجاهل نَسَفَ كل دراستي وممارستي ! ، وأقسم أنني سمعت رجلا كبيرا ، لكن للأسف لم تشحذ السنون حكمته وهو لم يكمل الدراسة المتوسطة يقول (لستُ بحاجة لدراسة الطب لأني أعرف كل شيء عنه)! ، فنحن لا نعلم تفسير القول المأثور (رحم الله إمرءاً عرف قدر نفسه) ، ولا قول الإمام علي (جادلتُ الفَ عالمٍ فغلبْتَهم ، وجادلني جاهلُ واحدُ ، فغلَبَني) ! ، نعم ، لقد غلبني هذا الجاهل ، فآثرتُ السكوت ! ، أنا ضد إستصغار النفس ، لكن سرّ التشبث بالجهل ، هو أن الجاهل يعتقد في قرارة نفسه أنه ملمّ بكل علوم الكون ، دون علمٍ منه إنه يكرّس جهله هذا .
لن تجد سياقا علميا إلا ما ندر في التصليح مثلا ، فمعظم الحرفيين خصوصا في مجال الصناعات والتكنولوجيا ، قد شبّوا على روتين واحد في العمل اليدوي ، وتصوروا مدى الضرر الذي يصيب ما تحت أيديهم من معدات ، ويا ويلك إن أشرتَ عليه برأيٍ ما ، فسيسلقك بلسانٍ حاد ، تتردد فيه عبارة (أنت لا تفهم أكثر مني) ! ، فلا توجد لدينا أريحية تقبّل النقد ، حتى لو كان في محلّه .
نحن بعيدون جدا عن روح المغامرة وروح البحث ، والعذر هي الآية القرآنية الكريمة التي فهموها خطاً لإنها تُقال في مواقف أخرى (لا ترموا بأيديكم إلى التهلكة) ، لكن لا يمكن لأي إختراع أن يرَ النورَ دون مجازفة أو مخاطرة ، تكفينا قصة (الأخوين رايت) في إخترع الطائرة وعشرات القصص ، أبطالها جنود مجهولون ، هي التي مهّدت لهما هذا المجال ! ، هذا بالإضافة إلى تمسّكنا بروتين يومي رتيب ، ولا نبذل وقتا على حساب راحة البيت بالتسكع المفيد في الجامعة أو المؤسسة أو المكتبة ، ندرس ونعمل وفق سياق جامد دون إختيارنا ، فقَتلَ هذا الروتين روح الفضول والتقصّي لدينا ، وحتى لو توفّرت ، فلن تجد الأرضية الملائمة لتلبية هذا الطموح بسبب نقص التمويل في توفير الكوادر والمختبرات وإنعدام آفاق ممارسة الهوايات ، فما أجمل أن يتخذ الطالب من دراسته ، أو الباحث من بحثه كهواية ، سُلّما رصينا ووثيقا للإرتقاء ، فجميع العلماء الذين تركوا بصمة عميقة في الحياة ، قد إتخذوا من علومهم كهواية إلى درجة الهَوَس ! ، ويأتي أيضا الإصطدام بلوائح “الممنوع” ! ، جرّبْ مرة واحدة بالإنفراد مع أستاذك في حوار بعد إنتهاء الدرس وحلول وقت الإستراحة ، ستسمع عبارات اللوم والتأفف همساً بين زملائك الأكاديميين في الصف ! ، وسينعتونك بالمتزلف (لوگي) ، فكيف بالجاهلين !؟ .
دَخَلتْ فئات سياسية متنفذة ، هم أبعد ما يكونون عن العلوم ، فهيمنت على كل شيء ، منها أنها وجدت ضالتها في الربح الوفير تجارةً بإنشاء الجامعات الأهلية ذات الاجور الباهظة ، لن يقوى عليها سوى الأغنياء ، وسوف يحصلون هؤلاء الطلاب (حسب مالهم) على الإختصاصات التي يريدونها ، على عكس الطالب الكادح في الجامعات الحكومية ، فمعدله في الإمتحان الوزاري هو الذي “سيسوقه” إلى إختصاص ليس من إختياره على الأعمّ الأغلب من الطلاب !.
أما إن كان الخريج محظوظا ، وحصل على وظيفة ما ، حكومية أم أهلية ، فسيصطدم بجدران من المحسوبية والمنسوبية والعصبية على حساب الكفاءة ، ستمنع هذا الخريج من التدرّج بوظيفته بجدارة ، فالأولوية في صعود السّلّم الوظيفي ، هو لذوي القربى والمتزلفين بغض النظر عن الكفاءة ، ولا نلمس أية حيادية وإستحقاق حقيقي لدى كبار الموظفين والرؤساء في تقييم معيتهم (مرؤوسيهم) ، وسينكفئ الموظف على حاله ، وسيبحث حثيثا عن الظل ، لأن جهده ومثابرته لن يجلبان له ، سوى الحسد والمشاكل ، وسيكون الأول في الإنخراط بالجهود والمهام الصعبة التي تُناط به ، وسيكون الأخير عند كل مكافأة ، وأول مَن يُعاقَب لأنه في صُلب المسؤولية ، بينما الكسول والخامل سينجو من أي مسائلة لأنه بعيد عن المسؤولية ! ، يذكّرني ذلك بعبارة فجّة مُتَداوَلة في الجيش (كن قريبا من المطبخ ، بعيدا عن المقر) ! ، هكذا تضخمت البطالة المقنّعة النمطية المُعتادة إلى درجة التورّم ، فأضعف ذلك العملية الإنتاجية إلى درجة التلاشي ، وتنعدم الثقة بين القسم أو الشعبة والمدير ، وسيضطر إلى إستحداث قسم أو شعبة أخرى مكملة ، ظنا منه أنه سيتلافى النقص في الإنتاج ، تضم المزيد من البطالة المقنعة ، أي معالجة الخطأ بخطأ أفدح ، أما الثقة بين الدائرة والمواطن ، فمعدومة تماما ، وإلا ماذا تفسرون مبدأ (صحة الصدور) ؟! ، وحتى الوظيفة في الشركات الأهلية ، صارت هي الأخرى صورة مصغّرة عن سياقات “الدولة” ، بكل ما بها من حاشيات ومتزلفين وإمّعات !.
من النادر أن تلتقي بشخص مثقف ذو نزعة موسوعية يجمع بين الكثير من العلوم المختلفة غير المترابطة ، فتجده يفهم بالتاريخ واللغة والفقه والآثار ومبادئ علوم الطيران ، وبنفس الوقت هو من حملة شهادة هندسية أو طبية ، عندما خدمت في البحرية في ثمانينيات القرن الماضي ، جمعني العمل بخبير بريطاني ، كان شعلة ذكاء في إختصاصه كمهندس كهرباء ، ويعرف كيف (ينفّس) محرك الديزل ، هاوي طيران ، يقرأ الرادار الملاحي ، يتقن علم الملاحة البحرية إتقانا تاما ، رياضي ، لا يفارق كتبه حتى عند دخوله (التواليت) ، لديه معلومات عامة مذهلة ، يعرف عن آثارنا أكثر مني ! ، لا يتردد إطلاقا بالقول (لا أعلم I’ve no idea) عند تعذر جوابه عن سؤال ما ، لكن المؤلم حقا ، ان مؤسساتنا الأكاديمية المرموقة ، والمختصة بمفاصل العلوم التكنولوجية بالخصوص ، تساهم بتكريس حالة الجمود العلمي ، فشهادة الدكتوراه (PHD) ، تُمنح لِطَيفٍ ضيقٍ من إختصاص ما ، لا أنكر أنه سيكون عبقريا (Genius) في هذا الفرع بالذات ، لكن كلما توسّع بهذا الفرع ، نراه يهمل الفروع الأخرى من العلم المحسوب عليه إكتسابه ، متعللا بمبدأ (الإختصاص الدقيق) .
نأتي إلى موضوع الأطروحات أو المشاريع في الصفوف الجامعية المنتهية ، وهذه المنابر هي اللبنة الأولى الحقيقية للتطور التكنولوجي التي تبحث عنها المعامل ومراكز البحوث وصيادو الكفائات ، لكن سوف لن يُسمح لك إلا نادرا ، أن تختر موضوع الأطروحة بنفسك ، بل سيُفرض عليك ، وستضطر إلى دراسته من باب تبرئة الذمة ليس إلا ، لكونه يخالف طموحك وتوجّهك العلمي والعملي كما حدث معي شخصيا !.
أما إذا كنت منتميا لحزب ما ، فستتلاشى أمامك كل القيود والمحددات ، وسيتملقك الجميع بضمنهم المدير ولو كنت فراشا أو حارسا ، وسيتركونك تصول وتجول ، تتدخّل هنا وهناك دون حسيب أو رقيب ، بمعنى آخر ، لن تحتاج لمقالتي هذه ، وسترميها في أقرب سلة مهملات ، فأنت لست المعني بها ، لأنك خارج سياقها أصلا !.