ما الذي يجعل امتلاك الطاقة النووية لأغراض سلمية “حقًا سياديًا” في ألمانيا، و”تهديدًا وجوديًا” حين يتعلق بإيران؟ في عالم تحكمه القوة لا القواعد، يصبح الخوف ذريعة، وتُستباح السيادة باسم “الوقاية”.
هكذا شُنت الحروب وفرضت العقوبات، لا على من انتهك القانون، بل على من سعى ليكون مستقلًا ضمنه.
فالمواجهة المتفجرة بين إسرائيل وإيران ليست نزاعًا على التقنية، بل على من يحق له أن يمتلكها، ومن يُفترض به أن يظل تابعًا.
وفي خضم التصعيد المتسارع بين إسرائيل وإيران، تبرز الحاجة إلى تفكيك المشهد بعيدًا عن الضجيج الإعلامي، والعودة إلى المبادئ القانونية والوقائع الموضوعية التي تُغفل عمدًا في خضم التجييش السياسي.
لاشك أن امتلاك الطاقة النووية لأغراض سلمية ليس امتيازًا لدول بعينها، بل هو حق أصيل لكل الدول تكفله معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، التي تتيح للدول الموقعة تطوير برامج نووية مدنية تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
إيران، بوصفها دولة موقعة على المعاهدة، مارست هذا الحق ضمن الأطر القانونية، بل ووافقت مؤخرًا على تشديد الرقابة الدولية على منشآتها النووية، بما في ذلك منشأة فوردو الحساسة، في خطوة تعكس التزامًا واضحًا بالشفافية الدولية.
ولمن يخشى من انحراف أي برنامج نووي نحو الاستخدام العسكري، فإن القانون الدولي يتيح المطالبة بضمانات إضافية.
وقد اقترحت روسيا بالفعل أن تكون ضامنًا للبرنامج النووي الإيراني، من خلال إزالة فائض المواد النووية وتحويلها إلى وقود مفاعل، وهو عرض قوبل بالرفض من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، ما يثير تساؤلات حول ما إذا كان قلق الدولتين الحقيقي يتعلق بالانتشار النووي، أم بمنع إيران من امتلاك أدوات التقدم العلمي والاستقلال الاستراتيجي!
ولو كان الغرب بشكل عام قد فهم شخصية المرشد الأعلى السيد علي الخامنئي، لادرك ان ايران لن تكون نووية تحت رايته لسبب يتعلق بفتوى تحريم إنتاج السلاح النووي، وهي فتوى تُعد في النظام الإيراني التزامًا أعلى من أي اتفاق سياسي.
كما ان المرشد بشخصيته النبيلة ابعد ما يكون عن الاعيب السياسة ونفاقها وصفاتها الرخيصة التي يعرفها الغرب، فهو صادق فيما يقول ويفعل وحين يعد بعدم امتلاك الطاقة النووية الحربية فسيفي، وان وجّه بامتلاكها فسيقول دون تردد.
رجل بهذه المواصفات هو الضامن اكثر من اية ضمانات اخرى.
إن ايران ومنذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، لم تبادر إلى شن أي حرب على دولة أخرى، بل كانت دائمًا في موقع الدفاع، سواء في حربها مع العراق، أو في مواجهة التهديدات الإسرائيلية والأميركية.
هذا السلوك يُظهر أن العقيدة الأمنية الإيرانية ليست هجومية، بل ردعية، قائمة على مبدأ “الدفاع عن الكرامة والسيادة”.
حتى المواجهة الأخيرة التي شنت خلالها ايران هجوما عنيفا على اسرائيل، فهي لم تبدأ إلا بعد هجوم إسرائيلي مباغت على ايران دون مقدمات، ولم تكن الاخيرة مستعدة لها.
والدليل أن إسرائيل نجحت في اغتيال قادة عسكريين وعلماء نوويين في الساعات الأولى، ما يعني أن إيران لم تكن تتوقع الحرب أصلًا.
الهجوم الاسرائيلي لم يكن ردًا على تهديد وشيك، بل كان ضربة استباقية ضد دولة آمنة، وهو ما أقر به نتنياهو نفسه في تصريحاته الأخيرة.
فما هو ذنب إيران لتكون هدفا للصواريخ الاسرائيلية والامريكية وكل ما تعانيه من ضغوطات؟ هل لأنها تدخلت في شؤون الدول الأخرى كما يقولون؟
طيب، بماذا يمكن ان نصف ما قامت به اسرائيل وقد انشأت مصانع للمسيّرات داخل ايران وجندت مئات الجواسيس من الايرانيين مستغلة ظروفهم الاقتصادية؟ اليس هذا انتهاكًا صارخًا لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة، واعتداءً مباشرًا على أمنها وسلامتها؟
أما الاتهامات المتكررة لإيران بالتدخل في شؤون الدول الأخرى، فهي تتجاهل حقيقة أن طهران لم تفرض نفسها على أحد، بل استجابت لنداءات استغاثة من شعوب أو حكومات شرعية.
في لبنان، دعمت المقاومة ضد الاحتلال في وقت وقف العرب يتفرجون على مجازر مروعة نفذها شارون، وفي سوريا، ساندت الدولة المعترف بها دوليًا حين طلبت سوريا ذلك أما في اليمن، فوقفت إلى جانب شعب محاصر. وفي العراق، ساعدت في دحر داعش الذي كان مشروعا معروفا لدول معروفة.
عموما المواجهة الحالية، رغم ضراوتها، لن تنتهي بانتصار إسرائيل، حتى وإن تدخلت القوى الكبرى لصالحها.
إيران تمتلك أوراقًا استراتيجية قادرة على قلب الطاولة. فهي تستطيع، إن قررت، إغلاق مضيق هرمز، الذي يمر عبره أكثر من 20% من صادرات النفط العالمية، ما قد يؤدي إلى شلل في التجارة الدولية وارتفاع جنوني في أسعار الطاقة.
كما يمكنها استهداف القواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة، أو ضرب البنية التحتية النفطية لحلفاء واشنطن، ما يكفي وحده لزعزعة الاقتصاد العالمي.
وفوق هذا كله، فإن حلفاء أميركا الغربيين ليسوا راغبين بخوض مغامرة عسكرية جديدة، ولا مستعدين لاستقبال موجات جديدة من اللاجئين بسبب حرب قد تخرج عن السيطرة.
بل إن بعضهم بدأ يعبّر عن قلقه من التصعيد، ويدعو إلى ضبط النفس، في ظل غياب مبررات قوية لشن هذه الحرب أصلًا، خاصة وأن إيران قبلت الرقابة الدولية، وفتحت أبواب التفاوض، ولم تضع عراقيل أمام من يريد الاطمئنان إلى سلمية أنشطتها النووية.
إن العدوان على إيران لا يجد ما يسنده من منطق قانوني ولا أمن دولي. هو ببساطة محاولة لفرض سقفٍ زجاجي على دولة قررت أن تبني قدراتها الذاتية ضمن أطر القانون.
لا فتوى دينية التزمت بها طهران كافية، ولا رقابة دولية حازمة تُرضي واشنطن وتل أبيب. لكن ما يُغفله صانعو القرار هناك، هو أن الهيمنة لم تعد مضمونة، وأن موازين الردع تغيرت. ليس لأن إيران أقوى من أعدائها، بل لأنها قررت أن لا تكون الأضعف.
وفي هذا التوازن الجديد، تختفي الخرافة القديمة: أن الكلمة الأخيرة يملكها فقط من يُطلق الصاروخ الأول.