سرتُ بكِ على الدرب، ملكًا بصولجان، واثقالخطوة، تخشع لي الكائنات. توجتكِ ملكةً علىعرشي، ألبستكِ الحرير والاستبرق، ومددتُراحتي بساطًا لقدميكِ، فلا جبٌ سحيق يهوي بكِ،ولا بيداءٌ تفقدكِ بين الوحوش. كنتِ محور الكون،وكنتُ الفلك الذي يدور حولكِ، شمسًا في مدار لايغيب، ونجمًا ثابتًا في سماء لا تعترف بالتبدّل. لم يكن لي رغبة في شمسٍ تستقل، أو كوكبٍينفصل عن مساره. كنتِ مركز الجاذبية، وكنتُأسير في مداركِ، لا أشكُّ في أنني وجدتُ نقطةالاتزان الوحيدة في هذا الوجود المتشظي.
أضيء لكِ دربك بمشكاةٍ تُشعُّ بنورٍ لا يخفت، نورٍيرقص على خيوط الفجر، فيتألق بين لهيبعينيكِ النجمية واختيال خطواتكِ الطاووسية. كان دربًا حيًا، تنبت فيه الأزاهير، وتصدح فيهالبلابل على خرير ماء السلسبيل، تتردد كتراتيلداوود بين جدران القصر الذي شيّدته لكِ بدموعيوأمنياتي. أسكنتكِ قصري، حيث تدور الكواكبفي فلكه، بعدما أعلنت شمسه يوم استقلالها، فلميعد لها سيدٌ غيركِ. كانت العوالم كلها تنحني لكِ،وكان القلب قارةً لا تستقبل سوى هطولكِ.
لكن، غيمة خفيفة بدأت تتسلل، لم أدركها فيالبداية…
كانت ليلة صافية، غير مثقلة بالغموض، لكن وقعخطواتكِ بدأ يختل. لم يعد له ذات الرنين، ذاتالثبات، ذات الإيقاع الذي حفظته روحي. أصبحتِتسيرين برتابةٍ خافتة، كأنما تتحاشين أن يلحظكِالكون وأنتِ تخططين للرحيل.
بدأتُ أستشعر الفراغ يتسلل بيننا، كهواءٍ بارد لايُرى لكنه يوجع الجسد ويقشعر القلب. كنتِهناك، لكنكِ لم تعودي كما كنتِ. لم يعد النبضواحدًا، ولا المدار ثابتًا. ثم جاءت الصوتياتالجديدة – الطبول، المزامير، نوتات الرحيل التيكنتُ أجهل لحنها. كانت الأرض تتهيأ لرحيلي عنعالمكِ، وأنا لا أملك إلا أن أقف هناك، أستمعلكلمات لم تكن لي، وأراقبكِ وأنتِ تفتحين كتابالرحيل، وتمزجين لي طلاسم الفراق، تدونينهاكأنما هو قانون لم يعد يقبل المناقشة.
كنتُ أقف على عتبة النهاية، أنتظر امتداد يديكِالتي لطالما كانت ملاذي، لكنهما لم تمتدّا.
كان زفيركِ يحرقني، وسيفُكِ يُشَعشعني، فكيفأردُّ سطوعه قبل أن يخترقني؟
قلتُ لكِ، وقلبي يذوي: “لمَ تختمين أكتافنا بوشماليباب؟ ألم يؤنسكِ حبي؟ لمَ الرحيل؟ أتريدين أنننظر معًا في وجه الفناء؟ أن نتلمس طريقًا أعمىإلى جحيمٍ لا نجاة منه؟“
لكن القصر بدأ يتفكك من حولي، لبنةً تلو أخرى.
سقطتُ على الأرض، وصرختُ بصوتي المحترق: “انزعي عن جسدكِ ثوب خطتكِ العمياء، لاترحلي، سأحترق، سأتمزق، سأنهدم.” ونكستُرأسي تحت قدميكِ، سفحتُ دموعي على موطئكِ،قلتُ برجاء “سوف تهجر الملائكة مطايا حمامقصركِ، ستترك الطيور أوكارها، وتجف الأنهار،ويهوى القصر فوق كل الأبرياء. ألا ترين كيفيتحطم كل شيء؟“
لكن ردّكِ لم يكن صوتًا، كانت نظرة جامدةكالصخر، ثم ابتسامةً خافتة فيها مرارة لا أقوىعلى فهمها، كأنما كنتُ أطلب المستحيل. ووطئتِرأسي حتى عبرتِ باب الرحيل.
انتظرتُ، قلتُ قد ترجع. لكن الزمن بدأ يجرني علىنسيجٍ من جمر، يجلدني صراط الانتظار، كلثانية تمر تسرق عامًا من عمري، كل لحظة تُحرّقجزءًا مني، حتى تحولتُ إلى رمادٍ متناثر فوقالبلاط الذي كنتِ تمشين عليه. لم يعد هناكصولجان، لم يعد هناك عرش، لم يعد هناك قلبٌيتنفس سوى على الهامش.
فجأة، طُرحتُ في ثقبٍ أسود، كسمِّ الخياط، التهمكل شيء، ولم تسمع أذني سوى لُهَب نيران تأكلنفسها.
لقد تحول القصر إلى أطلالٍ خاوية، ولم تعدهناك شمسٌ تدور حولي، ولا كواكب تعلن الولاء. لم أجد سوى مركبة الأحزان، أقلتني نحو أفقٍمشوه، ووقعتُ تحت جاذبية الثقب. تباطأ الزمن،فهرمتُ قبل أن ألقي حتفي فيه. ثوانٍ مرت، لكنهاانتزعت من عمري سنين، شابت فيها عواطفي،وانحنى ظهري، وتدلى جفني، وضعفت عظاميأمام ثقبٍ تكون من نيران الرحيل.
ذهب العمر هباءً، وما كان وعدُكِ إلا شبحًا، ولمأدرك نفسي إلا عندما أخبرني العدم: “هنا، حيثلا نهاية للجاذبية، ولا مفر من السقوط الأبدي.”