7 أبريل، 2024 2:19 م
Search
Close this search box.

ناظم الغزالي .. من أزقة بغداد إلى سفير الأغنية العراقية

Facebook
Twitter
LinkedIn

كتبت – هناء محمد عبده :

“مات ناظم الغزالي”.. هكذا بثت إذاعة بغداد وفاة أحد أعلام الموسيقى العراقية قبل أربعة وخمسون عاماً من اليوم.. تحديداً في الساعة الثالثة عصراً، كسرت إذاعة بغداد القاعدة، وقطعت إرسالها لتعلن الخبر الذي إمتد تأثيره ليصيب العالم العربي كله بحزن بالغ: خبروفاة ناظم الغزالي.

كان قطع البث الإذاعي يلازمه دائماً إعلان “البيان الأول” لأحد الإنقلابات العسكرية، “ولم يكن قد مر سوى 7 أشهر على إنقلاب شباط/فبراير الدموي !”، لكن هذه المرة إختلف الوضع وإستمع من تعلقت آذانهم بجهاز الراديو إلى الخبر الذي أحدث إنقلاباً في نفوسهم، وأبكاهم طويلاً.. “مات ناظم الغزالي”.

هكذا بثت الإذاعة خبر وفاة “بلبل العراق”، وصانع أغنياته الذي إستطاع بدراية وعلم وموهبة أن ينقل الغناء العراقي من محليته الضيقة إلى الآفاق العربية الواسعة، وما أن بثت الإذاعة الرسمية الخبر، حتى تدافع الملايين إلى الشوارع ليسيروا في الجنازة التي جابت شوارع بغداد، ونقلت شاشة التليفزيون العراقي وقائعها كاملة.

سنوات مرت على وفاة ناظم الغزالي، ورغم ذلك مازال يغني بيننا، وخلال تلك السنوات لم تخل سهرة أو مناسبة من حضوره، سواء بصوته المسجل أو بصوت مطرب يردد أغنياته، دافعاً الأذن إلى إستعادة ذلك الصوت الذي لن يتكرر.

نشأته المتواضعة بين أزقة بغداد..

ولد “ناظم الغزالي” عام 1921 في أسرة فقيرة، فأبوه فقيرمكافح، وأمه كفيفة البصر وقد كفله في صغره عمه حتى أكمل دراسته الإبتدائية والمتوسطة واتبعها في معهد “الفنون الجميلة” قسم المسرح، بإشراف الفنان “حقي الشبلي”، الذي إحتضنه خلال دراسته في المعهد ولكن الظروف القاسية التي كان يعاني منها الغزالي إضطرته إلى ترك الدراسة والعمل في مشروع “الطحين” في العاصمة في أوائل الأربعينيات.

بين أزقة بغداد القديمة عاش الغزالي شاباً وبعد دراسته التمثيل إنضم إلى فرقة “الزبانية” المسرحية وشارك في عروضها، وخاصة مسرحيتي “أصحاب العقول” و”فتح باب المقدس”.

لم يستمر ناظم طويلاً مع فرقة “الزبانية”، إذ سرعان ما تحول إلى الغناء.. وكان أول لحن يغنيه من ألحان حقي الشبلي “هلا هلا”، الذي دخل به إذاعة بغداد وأردفه بأغنية ثانية لحنها له الفنان “وديع خونده” وهي أغنية “وين الكه الراح مني وأنا المضيع ذهب، وراحت السلة من إيدي وراح وياها العنب”، وهاتان الأغنيتان كانتا بمثابة جواز سفره للدخول إلى عالم الشهرة والأضواء والنجومية الحقه.

وفي صيف 1948، وقبل بداية الحرب العربية الإسرائيلية وأثناء وجود الجيش العراقي في ارض فلسطين، قام الغزالي بأول سفرة له خارج بغداد مع وفد فني لدعم القادة والجنود. وإذا كانت هذه سفرته الأولى إلى فلسطين، فإن رحلته الأخيرة كانت إلى بيروت، وبين هاتين الرحلتين عاش الغزالي الشهرة والأضواء، وإستطاع أن يجتذب حب الجماهير العربية حتى أصبح يطلق عليه “سفير” الأغنية العراقية وقتذاك.

الإسطوانات الحجرية.. 

في منتصف الخمسينيات وبعد إنتشار الحفلات الغنائية الحية بدأت ظاهرة تسجيل الأغاني على إسطوانات حجرية تنتشر في العراق ومنطقة الخليج العربي والجزيرة العربية، وقامت شركة متخصصة في الإنتاج الفني بتسجيل أغاني لكبار الفنانين العراقيين وكان على رأسهم “ناظم الغزالي”، وتميزت هذه الفترة بإختيارات الغزالي الدقيقة لأغانيه ولأعضاء فرقته الموسيقية وفرقة الكورس المنسجمة الأصوات إلى جانب تعامله مع الملحنيين والشعراء في الساحة الفنية العراقية، وظهرت أول مجوعة من هذه الأغاني في إسطوانات وكانت هذه الأعمال التي قدمها في الحفلات والأمسيات الغنائية مثل “طالعة من بيت أبوها” و”ماريده الغلوبي” و”يم العيون السود”، وغيرها من الأعمال الرائعة وكان يشرف على توزيعها الموسيقي الفنان الراحل “جميل بشير”.

وبهذه الأعمال وغيرها من المقامات العراقية التي إشتهر بها ناظم الغزالي بلغت شهرته الآفاق العربية وقدمت شهادة بقدرته الغنائية من قبل عمالقة الغناء.

مشروع تعاونه مع “موسيقار الأجيال”..

لم يتوان موسيقار الأجيال “محمد عبد الوهاب”، عن أن ينقل رغبته في التلحين لناظم الغزالي، وتم الإتفاق على ذلك في صيف 1961، غير أن فرحة ناظم لم تكتمل وتوفاه الآجل قبل ان يتم هذا المشروع الكبير.

زواجه من المطربة العراقية “سليمة مراد”..

في إحدى مستشفيات بغداد عام 1970 لفظت الفنانة العراقية الأولى “سليمة مراد” أنفاسها الأخيرة بعد ان تجاوزت الـ”70″ من عمرها.. وقد أشتهرت سليمة بعدد كبير من الأغنيات الناجحة من أهمها: “ظل بعنادك أوهام، وخلاني الهوى، لطيف واسمر، ولوجانا الهوى وآه من الولف ويعاندنيو كل الهلاو ايها الساقي”، وغيرها من الأغاني التي سجلتها آنذاك.. كما عرفت بلقب “سليمة باشا”، وظلت تحمل هذا اللقب إلى أن أصدرت المحكة العراقية قانوناً بإلغاء الرتب العثمانية، فصارت في ما بعد تدعى “سليمة مراد”، وهي من أب عراقي، وأم عراقية يهودية، وكانت المغنية الأولى لملك العراق الذي منحها لقب “باشا”. وقد ذكر أحد المعاصرين لسليمة وناظم انها قالت “عدت من بيروت في الساعة الثانية عشر ظهراً وتوجهت الى البيت فشاهدت مجموعة من الناس أمام الباب، وعندما حاولت أن أستفهم عن سبب وجودهم لم يخبروني بشئ، في ما كانت عيونهم تنبئ بوقوع كارثة، فدخلت البيت أركض وفاجأتني إحدى الصديقات بالحقيقة التي هي وفاة ناظم، بعدها تهالكت ودخلت البيت وأنا في غيبوبة لم أفق منها إلا والمكان مكتظ بالمعزين”، أما قصة زواجها بناظم فتعود إلى “8 كانون ثان/يناير من العام 1952” في إحدى بيوت بغداد، عندما إشتركا سوياً في حفلة غنائية، وفي عام 1953 تم زواجها وظلا سوياً حتى زيارتهما الأخيرة لبيروت وعودتها جواً من دون أن ترافق ناظم لسفره بسيارته إلى أن توفى في عام 1963.

الغزالي باحثاً..

كان الغزالي يقوم بتدوين الكثير من الملاحظات التي تتعلق بالأغنية والمغنين، ففي مكتبة الفنان الراحل “منير بشير” في “دائرة الموسيقى” في وزارة الثقافة، كان هناك كتاب كبير دُون على صفحته الأولى “طبقات العازفين والموسيقيين من سنة 1900 ـ 1962”. يستهله بالحديث عن بعض أولئك أمثال: “خضر إلياس، رضا علي، ناظم نعيم، محمد القبنجي” وآخرين.

وهناك ما يلفت في حديثه عن “القبنجي”، إذ كتب: “…سافر إلى القدس عام 1932 وهناك أقام حفلتين. ثم ذهب إلى القاهرة إذ شارك في مؤتمر “الموسيقى العربية”، وبقي هناك ثلاثة أشهر وسجل للحكومة المصرية “خمساً وثلاثين” إسطوانة، لم يبق منها سوى خمس أو عشر إسطوانات محفوظة في معهد فؤاد الأول”.

وشرع الغزالي عام 1952، بنشر سلسلة من المقالات في مجلة “النديم” تحت عنوان “أشهر المغنين العرب”. ويقال إنه حين توفى كان في مكتبته “عشرون شريطاً” سجل عليها أغنياته كافة وأغنيات المرحومة “سليمة مراد”. وهناك الشريط رقم 21 سجل عليه بعض أغنياته وأغنيات مراد أثناء التمارين في بيتهما.

وفي مكتبته أيضاً كرّاس كبير دوّن فيه الأغنيات التي أدتها جميع المطربات العراقيات خلال أربعين عاماً بين “1910 و1950″، وفهرس لأغاني أستاذه “محمد القبنجي”، وفيه نصوص لأربع وستين أغنية مع ذكر السنة التي سجلت فيها تلك الأغاني على الإسطوانات. وفي دفتر آخر دون عناوين أشهر المخطوطات العربية في علم الموسيقى والغناء تلك الموجودة في محتويات مكتبة المتحف العراقي مع ذكر أرقامها وبعض الملاحظات حول كل مخطوط. وفي صفحة 77 كتب الغزالي الأغنيات التي أدّاها “الجالغي البغدادي” على مدى سبعين عاماً من 1870 وحتى 1940. مع معلومات تشير إلى عدد الذين أدوا كل أغنية وما كان منها مسجلاً على الإسطوانات. وفي سجل كبير آخر نجد الراحل الغزالي كتب المقامات العراقية المؤداة والطبقة وطريقة الغناء. كما دون كل أغاني الراحلة سليمة مراد. وهناك صفحات بخط يد الراحل دوّن فيها “تاريخ الديالوج في الغناء العراقي”. لكن الخسارة وقعت بوفاته إذ أنه لم يكمل أغلب هذه الدراسات أو الأبحاث والمخططات، ثم إننا بعد وفاته لم نر أو نقرأ أي من هذه الكتابات أو الكتب.

خروج القصائد من الدواوين إلى الألسنة..

أنشد ناظم التراث العراقي فحبب للعراقيين حفظ تراثهم، وجذب الآذان العربية إلى هذا التراث، وغنى أروع القصائد متقناً اللغة العربية الفصحى وناطقاً لحروفها دون خطأ يذكر، أو لا يذكر، فتمكن من أن يصل إلى كل مستمع عربي بسهولة، وقد سمعوه يغني أروع القصائد العربية التي تدل على معرفة وإطلاع واسعين.

غنى لأبي فراس الحمداني: “أقول وقد ناحت بقربي حمامة”، ولأحمد شوقي: “شيّعت أحلامي بقلب باك”، وللبهاء زهير: “يا من لعبت به شمول”، ولإيليا أبي ماضي: “أي شئ في العيد أهدي إليك يا ملاكي”، وللمتنبي: “يا أعدل الناس”، وللعباس بن الأحنف: “يا أيها الرجل المعذب نفسه”، ولغيرهم من كبار شعراء العربية، ولولا وفاته المبكرة ربما لم يكن ليترك كلمة في عيون تراث الشعر العربي إلا وغناها وأمتعنا بها.

هكذا أخرج القصائد من دواوينها وجعلها تجري على لسان أبسط الناس الذين أحبوا كلماتها، وأحبوا أكثر الصوت الذي نقلها إلى أذنهم بنبرة الشجن الشائعة في الأصوات العراقية، وإن زاد عليها نبرة أكثر حزنًا بأدائه الدرامي الذي اختلطت فيها الحياة القاسية التي عاشها، وما درسه بمعهد الفنون الجميلة.

سكون البلبل..

21/10/1963، توقف نبض البلبل إلى الأبد.. صعق العراقيون والعرب وشيع إلى مثواه الأخير وهو لم يتجاوز الـ (42) سنة من عمره وكان في قمة إبداعاته. وتدافع الناس آلافاً مؤلفة إلى الشوارع ليسيروا في الجنازة التي جابت شوارع بغداد، ونقلت شاشة التليفزيون العراقي وقائعها كاملة.

 

تشييع جثمان المطرب الراحل “ناظم الغزالي”

 

قصيدة: أقول وقد ناحت بقربي حمامة.. لأبي فراس الحمداني.. غناء ناظم الغزالي

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب