19 أبريل، 2024 11:20 ص
Search
Close this search box.

قصة كارول : فصل من رواية للكاتب المسرحي العراقي فلاح شاكر

Facebook
Twitter
LinkedIn

كنتُ أشعرُ بالتّعَبِ والملَلِ بعد خروجي من العمَل .. وزادَ من كآبتي أنّ عُطلَ سيّارتي لن يتمّ تصليحُهُ إلا بعد غدْ .. والأكثر قرَفاً أني يجبُ أن أنتظرَ الباصَ أربعين دقيقة .. فهو لا يَأتِي إلا في السادسةِ مساءً ، جلستُ في محطة الباص ، كانت هناك ثلاثُ فتياتٍ صغيراتٍ يثرْثرْنَ عن فلم أو أغنية، لا أعرف.. وعجوزٌ منهمكةٌ بتلاوةِ صلاتِها كأنها تستعجل الباصَ أو لتجدَ ما يشغلها، فجأةً أوقف دراجتَه الناريةَ ودون أن يأبه لأحد، اتجه نحوي مباشرةً، تحفزّتُ ودسَسْتُ يدي في حقيبتي بحثاً عن رشاش الفُلْفُلْ .. كان يسيرُ بخطواتٍ ثابتةٍ ومستقيمةٍ.. وقفَ أمامي وقال “شاهدتُكِ في الصّباح.. شاهدتُك في البَاص.. أنا مستقيمٌ كالرصاصةِ حيثُ تنطلق، لهذا أقولها دون مواربةٍ … ” أنا احبك ” .

أصابني شيءٌ من الذهولِ .. لم أكنْ خائفةً تماماً ، خاصةً وأنّ الفتياتِ انتبهْنَ له، لهذا لا يمكنُ أن يفعلَ شيئاً يُؤذيني، لم أجبْهُ وابتعدتُ عنه مقتربةً من الفتياتِ . بَقيَ واقفاً ورفعَ صوتَهُ ” لستُ سكراناً ولا مجنوناً، اسأليني ما تشائين حتى تعرفي أني أتكلم بكلّ قلبي وَوَعْيِي، اسأليني عن الأدبِ، عن السياسةِ، عن الشعرِ، عن التاريخِ .. اسأليني وسأجيبُك، لستُ مجنوناً أو سكْراناً… يُمكنكِ أن تَتصلي بالشرطةِ لتأتي .. أنا لا أفعلُ ولم أفعلْ أيّ شيء، سوى قولي إنني ” أحبك ” الفتيات بدأنَ بضحكٍ مكتومٍ ، العجوز قطعتْ صلاتها. وأنا بين الحرجِ والفضولِ ومحاولةِ ادّعاءِ الشجاعةِ تقدمتُ نحوَه بصوت حادّ ” ماذا تريد ” ابتسمَ بعذوبةٍ شديدة وأجابني هامسا ” لا وقتَ عندي .. سأعودُ إلى الحربِ ثانية، كان من الممكن أن اختارَ آلافَ النساء غيرَك، ولكنّ قلبي آلمني بلذّةٍ حين رأيتُك، لهذا لا أطلبُ منكِ شيئاً سوى …أن تعلمي أني أحبّك .”

أزعجتني جدا أصواتُ الفتياتِ وهي تتعالى بالضحك .. ولا أعرفُ لماذا شَعَرْتُ برغبةٍ شديدةٍ في تحدّيهنّ، قلت هامسة ” شكرا لمشاعرك .. ربّما نتقابلُ في يومٍ أفضل” نظرَ إليّ بعينينِ كأنّ كلّ رجاءِ العالمِ مسكونٌ فيهما ” هل من الممكنِ أن أوصلكِ إلى البيت؟” قالَها برجاءٍ كبير ومحبةٍ شديدة، الفتياتُ بدأنَ يصفقْنَ تشجيعاً أو استهزاءً .. لا أدري .. بلا وعيٍ وحتى هذه اللحظة لا أفهمُ لماذا فعلتُ ذلك.. ذهبتُ مسرعةً نحوَ الدراجةِ الناريةِ ووقفتُ هناك وصرختُ بأعلى صوتي ” لكنْ لا تقُدْ بسرعة” اتجهَ إليّ بحماس، تضاعفَ تصفيقُ الفتياتِ ، أمّا العجوزُ فقد أداراتْ ظهرَها استنكاراً أو استغفاراً
جلستُ خلفهُ وأسندتُ يديّ على كتفيه محاولة جهدَ الإمكان أن لا يلامسَ صدري ظهرَه، كان يسيرُ بشكلٍ بطيءٍ جداً .. لهذا كنتُ أسمعُ صوتَه بوضوح ” هل تحبين أن نتسكعَ قليلاً أمْ أوصلك إلى البيت مباشرةً ” .. انتابني بعض الشكّ .. صرخت ” أرجوك إلى البيت ”

وضاعَ صوتي وأنا أعطيه العنوانَ حين أسرع بدراجته، ضغطتُ على كتفيه بقوة ليخفّفَ السرعة، سمعتُ ضحكتَهُ تتناثرُ في الهواءِ وهو يصرُخُ ” لا تخافي” .

وقفَ أمام بابِ شقّتي منتظراً أن أفتحَ الباب .. قلت له بصوتٍ أقرب للتعنيف ” الآن ماذا تريد ؟” .. أجابني بصوتٍ وكأنه يتلو صلاة ” سؤال واحد ثم أذهب، هل أنت مرتبطة بأحدٍ .. أجيبي وسأذهب ” بلا مبالاة قلت ” كنت منذ زمن بعيد” توهجتْ عيناهُ ببريقٍ مذهل وقال بخجل ” هل من الممكن أن ندخلَ ونتركَ البابَ مفتوحاً، فقطْ أريدُ أن أشربَ القهوةَ وأسمعك قصيدةً كتبتُها قبلَ ساعاتٍ، ولا يوجدُ من أقرؤها له ” شَعَرْتُ ببعض العطفِ والفضول >فجأة فتح جيراني الباب وحيّانا بلطف وهو يخرج أكياس القمامة شعرت ببعض الشجاعة <.. فتحتُ البابَ ، جلسَ على أولِ كرسيّ صادفهُ في المطبخ، الحقيقة كنتُ خجلةً من فوضى الشقةِ وبعض الأوساخ المتناثرةِ هنا وهناك، وضعتُ حقيبتي اليدويةَ بعيداً عنه، ملأتُ إناء القهوة بالماء وأشعلتُ ” الطباخ ” وقلت بصوت وجل ” هل تريدها حلوةً أو مَرَّة أو..” قاطعني وكان مغمضَ العينين وكأنه غائبٌ عن الدنيا قال بصوتٍ متوهجٍ بالصدق ومشتعل “معجزة الحب الوحيدة أنه سيكون درعاً يحمي جسدك في جبهاتِ القتال، معجزةُ الحبِ وأنت تخوضُ القتالَ تعرفُ أنّ هناك استراحةَ محارب، حينما ترتمي على سلامِ صدرِ من تُحب، معجزةُ الحبّ هي….” فجأةً توقّف عن الإنشاد وفتح عينيه فرأيتُ فيهما دمعتين حائرتين قال متلعثما ” أعرفُ أن القصيدةَ مربكةٌ وغير موزونة، كتبتها توّاً، شكرا لك.. “اتجه مسرعاً بما يشبه الركض خارجاً من البيت، بقيت مذهولةً لا أعرف ماذا أفعل، فارت القهوةُ وأطفأتْ شعلةَ ” الطباخ ” واشتعلَ قلبي برغبةٍ لا أعرفُها
غططتُ جسدي في ” البانيو ” بماءٍ باردٍ على غير عادتي، كنتُ أريدُ أن أعي الجنونَ الذي حدث .. ماذا يحدثُ؟ من هذا؟ لماذا؟ لماذا أنا .. بالتأكيد إنه جنونُ الجنودِ القادمين من حرب العراق، ورغم هذا فأنا لا أشعرُ بالخوف، لقد حرّك هذا اللعينُ شيئاً ما في داخلي، قرّرت ان اعدّ ما حدثَ حادثاً عابراً، ارتديت ملابسي وجلستُ أشاهدُ التلفازَ وأثرثرُ بالهاتف مع معارفَ لم أتصلْ بهم منذ زمنٍ طويل، فقط كنتُ أريد أنْ أنسى ما جرى. حان وقت العشاء وأنا متّجهةٌ نحو ” المطبخ ” سمعتُ طرقاتٍ خفيفةً على الباب، انتابني شيءٌ من القلق فلا أحد يزورني في وقت مثل هذا والجيران لا تربطني أيّ علاقةٍ بهم.. همستُ وأنا أقتربُ من الباب ” من؟” سمعتُ صوتَه متوهجاً ومنكسراً ببعض الخجلِ ” انه انا” تسارعتْ دقّاتُ قلبي بين الخوفِ والمفاجَأةِ ” ماذا تريد؟ ” كان صوتهُ صادقاً ” لا أريدُ شيئاً يضرّك، إذا لم تَفتحي البابَ سأذهب ” فتحتُ البابَ قليلاً .. وجدتهُ يحملُ أكياساً فقال بما يشبهُ الأمنيةَ ” قد نستطيعُ أن نأكلَ معاً، هناكَ مطعمٌ عراقيّ بالتأكيدِ لم تتذوقي طعامَهم ، فقلتُ ربّما تُحبّينَ أنْ تجرّبي شيئاً جديداً .. هل تريدينني أن أذهب؟ ” .. فتحتُ البابَ دون أنْ أعرفَ بماذا أجيب، كانت مشاعري متوزّعةً بين المفاجأةِ والقلقِ والفضولِ ، وأيضاً من مَللِ وحْدتي. وضعَ الأكلَ على المائدةِ وفتح كيساً كبيراً فيه عدّةُ قناني بيرة و “بطل ” ويسكي وبدأَ يَضعها في الثلاجة، حين رآني أنظرُ إليه بشكٍّ قال بهدوء “هذه قلّة ذوق مني ..اعرف كان يجب ان أأتي وبيدي قنينة شمبانيا مثلا وليس ويسكي او بيرة ..لكن لا وقت معي لبروتوكول الناس المسترخين الذين يملكون الوقت ويعيشون بسلام ..مذ كنت في الحرب صارت الشمبانيا ترفا لا أطيقه ..اعتذر ليس من حقّي ان افرض عليك ما تشربين (حين رأى انني لا زلت انظر اليه بقلق .اكمل بنفس هدوئه : لا تقلقي .. فأنا لا ولن أمارسَ الجنسَ الّا مع امرأةٍ تُحبّني، وإذا كنتِ لا تَشربينَ فأنا لنْ أشربَ أيضاً ” شَعَرْتُ ببعض الاطمئنانِ .. ” سأغير ملابسي وأعود ” قلت له فأجاباني برجاء ” كوني كما أنت أرجوك” كان الأكلُ العراقيّ الذي جلبَهُ لذيذاً ولكنّهُ مليءٌ باللحومِ الحمراء، كان يأكل بأناقةٍ ويرتشِفُ الويسكي بلذّةٍ وكأنّهُ يُقبّلُ امرأة .

رغمَ أنّني لم أشربْ منذُ زمنٍ طويلٍ شاركتُهُ الشربَ، لاحظتُ أنّهُ لا يأكلُ أو يَشْربُ أثناءَ الكلامِ وكأنّ للكلامِ قدسيّتَه، كانَ يُكملُ جملتَهُ وكأنهُ لا يحبّ أنْ يتكلّمَ وهو يلوك لقمتَه، بعد أوّل نخْبٍ سألني ” أتريدينَ الليلةَ لي أمْ لك؟ ” لمْ أفهمْ ما يعنيه .. أردف بحماس ” على أحدنا أن يبوحَ وعلى الآخَرِ أنْ يَستمع، لا أريدُ أنْ نَتبادلَ غموضَنا بليلةٍ واحدة ، لا أريدُ لكلينا أنْ يخدشَ الأحلام .. يجبُ على أحدنا أنْ يَبقى مُحتفظاً بغموضهِ حتى آخر لحظة ” .. أعْجَبتني فكرتُهُ الغريبةُ .. ولأنّ الفضولَ كان يَفترسُني .. قلت له ” إنها ليلتُك ” رأيتُ فرحاً مذهلاً في عَينيهِ .. صرخ بطفولة ” هذا يعني أن هناك ليلةً أُخرى..يعني موعداً آخر” أومأتُ برأسي خجلة .

كانتْ كلماتُهُ مكتنزةً بالاختصارِ والمعنى .. كلّ جملةٍ وكأنّها فكرةٌ كاملةٌ لا تحتاجُ إلى شَرْح، طفولةٌ بائسةٌ لأبوينِ يُدمنان الشجارَ والحشيشَ، كان هروبهُ وعالمهُ الكتابةَ، لم ينجحْ في نشرِ شيءٍ، ولكنهُ لمْ يكنْ يهتمّ لذلك، كانتْ الكتابةُ صلاةَ روحهِ ولكنهُ يختنقُ حين ينتهي من قصيدةٍ ولا يجدُ أحداً إلى جانبهِ، لمْ يُحبّ إلا مَرَّة واحدة وكانتْ بَريئةً .. إنّهُ ما زَال ” عَذراء ” ضحكتُ كثيراً حين قالها فوجدتُني مضطرّةً لمقاطعته ” وهل جئتَني لأفكّ عذريتَك ” ابتسَمَ بودّ كبيرٍ .. ” بل لتعيدي بكارةَ روحي التي دمرَتْها الحربُ ” .

شَعَرْتُ برغبةٍ كبيرةٍ لعناقهِ، ولكنهُ كانَ يتدفّقُ بالكلامِ والأحلامِ بعذوبةٍ تفوقُ أيّ رغبةٍ جنسية، لاحظتُ أنّهُ كلما يأتي على ذكرِ الحربِ يَكرَعُ كأساً كاملةً من الويسكي، لمْ أطلبْ منه أن يتوقفَ عن الشرب لأنه لا يبدو لي أبداً أنه أصبح ثملاً، كنتُ أشربُ ببطءٍ شديدٍ خشيةَ حدوثِ شيءٍ لا أتوقعهُ من رجلٍ لا أعرفهُ وداخلَ بيتي لسببٍ لا أعرفُه .. قال بألمٍ ” لا أعرفُ لماذا أحبّ الحياةَ وأنا ذاهبٌ للحرب !، بودّي أن أقودَ درّاجتي الناريةَ وأنا بكاملِ سكري لأرتطمَ بشاحنةٍ وأموت، فلا اقتلُ أحداً غيرَ نفسي” رأيتُ دمعةً تلوح في عينيه، استأذنتهُ للذّهاب إلى الحمّام، كنتُ أريدُ أنْ أتركَهُ مع نفسهِ لأكبرِ وقتٍ ممكنٍ .. فقد يَشعرُ غداً بالذلّ لأنه بكى أمامي ونحن ما زلنا في أوّلِ ” أوّلِ ماذا، أوّلِ ما لا أعرفه؟” قضيتُ أكثرَ من الوقت المعتاد بالحمام .. أعدتُ ترتيبَ زينتي وحين عُدتُ وجدتُهُ نائماً بهدوءٍ على الأريكة، وقفتُ مذهولةً لا أدري ماذا أفعل، هل أوقظهُ أم أتركه نائما، ومن هو ولماذا ينامُ في بيتي، إذا كنتُ منزعجةً من نومهِ في بيتي لماذا تَركتُهُ يدخلُ ويأكلُ ويسكر، هممتُ بإيقاظهِ، تذكّرتُ رغبتَهُ في أنْ يقودَ دراجتَهُ وهو سكران حتى يقتلَ نفسَهُ ولا يقتل أحداً، الوقتُ أصبحَ متأخراً وغداً عندي عمل، تركتُ كلّ شيءٍ على حالهِ وذهبتُ إلى غرفةِ نومي وأغلقتُ البابَ بالمفتاحِ واستلقيتُ على سريري وأنا أشعرُ بدُوارٍ في القلب.. فيه شيءٌ من السحر هل جنّيٌّ تلبّسَهُ في العراق، سلوكهُ، كلماتهُ، ثم إنه ما زال عذراء، ابتسمتُ مع نفسي .. أعترفُ أنني رغبتُ فعلاً أن يأتيَ إلى سريري، فتحتُ البابَ وتركتهُ موارباً، فقد يستيقظ ، بقيتُ وبعض الأفكارِ الغائمةِ تدورُ في رأسي ولأنني لمْ أشربْ منذُ زمنٍ طويلٍ غَفوتُ بعمقٍ
رأيتُ أجراسَ كنيسةٍ وأنا أدورُ حولها وصوتُ اللأجراسِ يملأ أذني بازعاج، فجأةً استيقظتُ على رنينِ الساعة، كانت السادسة وخمس دقائق، خمسُ دقائقَ ترنّ وأنا لم أستيقظْ ، أطفأتُ الساعةَ بكسلٍ وكدتُ أعودُ للنومِ ولكنّي تذكّرتُ ” كاشنار ” ونومَهُ في الصّالةِ .. نهضتُ مسرعةً ولبستُ روبي دون حتى أن ازرّرَهُ، كانتْ دهشتي شديدةً ، لا أحد، المطبخُ نظيفٌ جدّاً وعلى المائدةِ فطورٌ جاهزٌ وجانبهُ وردةٌ حمراءُ وقربها ورقةٌ مكتوبٌ عليها ” كارول إنكِ ملاذي للهروبِ من اليأسِ أو الانتحار، أنت قصيدتي التي لم أكتبْهَا بَعد ” تعجبت كيف عرف انّي احب اللون الأحمر ؟! صحيح هناك بعض اللوحات الرخيصة وبعض ملابسي حمراء ولكن كيف عرف انذه لوني المفضّل !!.. أكلتُ بشهيّةٍ كَأنّي لمْ أرَ طعاماً مِنْ قبل ، ثمّةَ فَرَحٌ يَجعلُ الحُزنَ شفّافَاً في القَلْب، فرحٌ يُؤلمكَ لأنهُ تأخّرَ،فرحٌ يُؤلمكَ لأنّكَ قد تَفقِدُهُ، في العملِ لأكثر من مَرَّة أخطأتْ ” ستيكر ” العناوينَ ووضَعَتْهَا على طلبيّاتٍ بالخطأ، ولأول مَرَّة أنالُ توبيخاً قاسياً من مسؤولتي، كنتُ شاردةَ الذّهنِ وأشعرُ أن الوقتَ طويلٌ جدّاً والدقائق كأنّها تابوتٌ ينغلقُ على روحي، وما أن انتهى وقتُ العمل أسرعتُ إلى موقفِ الباص، الفتياتُ يتضاحكْنَ وحين وصولي بدأْنَ بالهمس والضحكاتِ المكتومة، أما العجوز فقد أشاحتْ بوجهها بعيداً، كنت متيقّنةً أنه سيأتي بين لحظةٍ أو أخرى على دراجتهِ الناريةِ ومضى الوقتُ أكثر من برودةِ التابوتِ وهو ينغلقُ على موتِ حُلُمي، كنتُ موزّعةً بين مكروهٍ أصابَهُ أو أن أكونَ أنا نزوة وقد انتهت بالنسبة إليه، جاء الباصُ صعدت العجوزُ، بقيتُ متسمَرَّة ” قد يكونُ عُطلاً أصابَ دراجتَهُ أو … ” الفتياتُ صعدْنَ وتَعالى ضَحِكهُنّ وهنّ يرونني واقفةً دون حَراكٍ، ومضى الباصُ وكأنهُ حزنٌ يدوسُ على قلبي ، ازددتُ غضباً على نفسي أكثر من غضبي عليهِ، لستُ طفلةً أنا الآن في الثلاثين، كيف يُمكنُ أن يستغفلني …يا إلهي كم أنا حمقاء…لم أنتظرْ أكثر وركبتُ الباصَ الثاني وكنتُ طوالَ الطريقِ أعنّفُ غَبَاءَ قلبي وتفاهةَ عقلي الذي لم ينضجْ رغم تجاربي السابقة، نزلتُ من الباصِ وأقدامي تضرب الأرض وكأني أريدُ أن أحفرَ قبراً لأحدٍ من شدّةِ غَضبي . توقّفتُ مدهوشةً ولاهثةً وأنا أرى بابَ شقتي مفتوحاً، في أقلَّ من ثانيةٍ مرّتْ في ذهني مئاتُ الاحتمالات ” سرقني ابن العاهرة ، أو جعلها مخزنَ مخدراتٍ ، أو.. ” دخلتُ مسرعةً وجدتهُ جالساً وسطَ مائدة طعامٍ وشمعتين وعدّةِ ورودٍ حمراءَ، صرختُ بغضبٍ شديدٍ ” ماذا تفعلُ هنا ومن الذي سمحَ لكَ بدخولِ البيتِ وكيفَ دخلتَه؟ ” نهضَ بهدوءٍ مبتسماً وكأنهُ لم يسمعْ كلّ غضبي وقال بصوتٍ حنونٍ وقلِق ” كان يجبُ أن تصلي قبلَ أربعينَ دقيقة ” ازدادَ غَضبي وجنوني وأنا أتذكّر انتظاري وضحكاتِ الفتياتِ الصغيراتِ صرختُ بغضبٍ ” من أنتَ لتقتحمَ حياتي، بأيّ حقٍّ أنتَ هنا ، هيا اذهبْ، اذهبْ أيها اللعين ” قال بصوتٍ مخذولٍ ” أنا لم أردْ أن أقتحمَ حياتَك، شكراً لليلةِ أمس” ذهبَ مسرعاً باتجاهِ البابِ دون تردّدٍ، فجأةً تغيّرتْ كلُّ مشاعري وخفتُ أنْ أفقدَهُ إلى الأبد فصرختُ بين الغضبِ والرجاءِ ” لماذا أنتَ هكذا مثل جنّيّ يغيّرُ كلّ شيء دفعةً واحدة ؟” توقّفَ واستدارَ بكبرياءِ غاضبٍ ولكنْ حين نظرَ إلى وجهي ورأى في عينيّ أنّي لم أكنْ صادقةً في صرختي الأخيرةِ عادَ بهدوءٍ وأخَذَ يدي وقبّلها وانحنى وهو يهمسُ ” الحياةُ قصيرةٌ يا ” كارول ” فلماذا نُضيّعُ الوقتَ بركوبِ الدراجةِ ؟ استنسختُ مفتاحَ شقتكِ صباحاً حتى أعدّ وليمةً تليقُ بساحرةِ قلبي ..” فجأةً ودون مقدّمات ودون أن أدري ارتميت على صدرهِ وأجهشتُ ببكاءٍ لم أبْكهِ طوالَ حياتي، وكأنّي أبكي على صدرهِ كلّ وجعِ خيباتي وكلّ ضياعِ أمنياتي، كان يُمسّدُ شعري بأصابعَ أحسّهَا مرتجفةً، قبّلتُ صدرَهُ بين الامتنانِ والمحبّة، رفعَ رأسي ومسحَ الدموع عن خدّي والتقتْ شفتانا بعناقٍ ولهاثِ كلامٍ أسمعهُ بأنفاسهِ .
ذهبتُ إلى الحَمّامِ وعالجتُ ما تبقّى من خرابٍ في وجعِ الوجهِ وسوائلِ العينين والأنفِ, أعدتُ ترتيبَ نفسي وتنفّسي, وارتديتُ ما يليقُ برجل, وحينَ عدتُ وجدتُهُ وسطَ الصّالةِ وفي يدهِ كأسُ بيرةٍ وفي اليدِ الأخرى كأس ويسكي, قدّم ليَ الويسكي وقال ” الليلة ليلتُك أمْ نسيتِ وَعدك” أخذتُ الكأسَ دون حماسٍ وقلت ” الليلُ ما زال في أوّلهِ ” قرعَ كأسَهُ بكأسي وقال بحماس ” ربما تنتهي ليلتُكِ مبكراً وتكونُ الليلةُ لنَا معاً ” شعرَ أنّهُ استعجلَ جملتَهُ الأخيرةَ فاستدرك ” لن ولم أمارس الجنسَ مع امرأةٍ سكرانةٍ أو لا تُحبّني ” ضحكت على تذكّر عذريتهِ وتبادَلْنَا الأنخابَ, لمْ يكنْ عندي الكثيرُ لأخبرَهُ ولكني حاولتُ جاهدةً ألّا أنالَ شفقةً من خيباتي, أردتُ أن أكونَ متماسكةً وصاحبةَ قرارٍ في الفرارِ من الحبّ أو الانعتاقِ من عبوديةِ عمل, كانتْ عيناهُ تكتبُ لي شعراً حين يَسمعني, هكذا أحسَسْتُ, كنت أشربُ وأثرثرُ وكان يُصغي بتعاطفٍ دون أن ينبسَ بحرفٍ , فقط كنتُ أسمعُ منه لهاثَ حَشْرَجَةِ ألمٍ أو سرعةِ تنفّسِ تَشجيع, لا أعرفُ كمْ شَرِبتُ بل لم أعُدْ أتذكّرُ ماذا تحدثتُ ، ولكن الذي أذكرُهُ تماماً أنّه مَسحَ دمعةً من عيني وهو يُمَسّدُ شعري وأنا أمتدُّ على الأريكة, سمعتُ صوتَ أغنية ” اي دريم دريم” ترنّ في أذني وأنا بالكاد أستطيعُ أن أفتحَ عيني وكان آخِرَ ما سمعتُهُ من الأغنية ” حياتي قتلتْ حُلُمي ” .

في الصباحِ وجدتُ نفسي على سريري كَانت الشمسُ تغزو النافذةَ وقلبي, نهضتُ مسرعةً , شَعَرْتُ بدوار الشربِ, استندتُ إلى السرير مَرَّة أخرى, الساعةُ العاشرةُ صباحاً ومنبّهُ الساعةِ مغلق, تحاملتُ على روحي وذهبتُ للصالةِ وجدتُ كلّ شيءٍ نظيفاً ولكنْ دون فطورٍ أو رسالة, تأخرتُ عن العملِ وسبَقَ وأنْ نِلْتُ تَوْبيخاً ” ماذا سيكونُ عذري وأنا حتى لم أتصلْ ؟” أخذتُ حمّاماً سريعاً وارتديتُ ملابسي على عَجَلٍ ” حضورٌ واعتذارٌ عن التأخيرِ أفضلُ من الغياب ” هكذا قلتُ في نفسي,” ولكن متى سأصلُ وأنا لا أعرفُ حتى مواعيد الباصِ وهذا اللعينُ أين ولّى ولماذا أطفأ مُنبّهَ الساعة ومَن الذي نَقلني من الأريكةِ إلى السريرِ, هذا عبثٌ, عبثُ أطفالٍ وأنا بالكاد وَجَدتُ هذا العَمَل ” .

أسرعتُ بكلّ ما أستطيعُ لكي أصلَ إلى باصِ الحاديةِ عشرة كما أظنّ, وأنا في الباصِ كانتْ مشاعري مستفَزةً ومتوثبةً, سيذهبُ إلى العراقِ وَيجني من المالِ ما يَشاءُ وإذا تَمّ طَرْدي من عَملي سوف ” ولكنْ كانتْ ليلةً جميلةً لا أذكُرُ آخِرَ مَا حَدثَ فيها ولكني كنتُ فرحةً وحين كنتُ في الحَمّامِ تَفحصتُ ملابسي الداخليةَ, إنه لمْ يقتربْ مني” قررتُ مع نفسي, العَلاقةُ مؤقتة. سيذهبُ لحالهِ لهذا يجبُ أن لا أدمّرَ نفسي وأغرقَ في الديونِ والبطالةِ ” كفى لهواً ثمّ إنني في الثلاثينيات وهو ما زَال يَحبو لنهايةِ العشرينيات, كان ممكناً أنْ أسهرَ وأشربَ في عُطلةِ نهايةِ الأسبوعِ ولكنْ… ” ازدادَ غضبي, نزلتُ من الباصِ مسرعةً وتوقفتُ مدهوشةً وأنا أراه أمامَ بابِ الشّركة , كدتُ أصرخُ به ولكنه أمسكني من يدي وهمس ” اصعدي بسرعةٍ لأني أخبرتُهم أنكِ مريضةٌ ” دفعتُ يدَهُ وأردتُ أن أقول ” بأي حق او لماذا ” عاد هامساً ” اصعدي ان رأوك ستكون فضيحة ” بغضبٍ صعدتُ خلفهُ وسار بي مسرعاً ولم أكنْ أهتم حتى لوْ حصلَ حادثٌ من شدّةِ غَضبي .

في أطراف المدينةِ مزرعةٌ كبيرةٌ مزروعٌ في وسطها كوخٌ صغيرٌ, توقفَ هناك, كدتُ أصرخُ من سخفِ المفاجأةِ .. لكنّهُ انحنى وهو يصحبُني إلى الداخلِ, كان هناك ديكٌ يعتلي شجرةً ميتةً وسناجِبُ تتراكضُ هنا وهناك, والأعشابُ والأشواكُ تتشابكُ مع بعض, كدتُ أتراجعُ ولكن حين نظرتُ إلى عينيه شَعَرْتُ باطمئنانٍ غريبٍ يكادُ يذهبُ بغضَبي, فَتحَ بابَ الكوخِ ” يا إلهي.. المكانُ كلهُ وكأنهُ مؤثثٌ بالكتبِ, على الرفوف, في صناديقَ على الأرضِ, على الكراسي, ومساحةٌ صغيرةٌ جداً هي زاويةٌ فيها أدواتُ المطبخ” دخلتُ خلفَهُ ولم أعرفْ أينَ أجلسُ أو ماذا أقولُ أزاحَ بعضَ الكتبِ برفقٍ وتَركني واقفةً ازداد استيائي وأنا أنتظر خطوتهُ التالية , قال بهمسٍ يشبهُ بلبلَ الصّباح ” ماذا تنتظرينَ ادخلي الغرفةَ ؟ ” وأشارَ بيدِهِ إلى بابٍ صغيرٍ يتوسطُ فوضى الكتب, ترددتُ لكنّ عينيه المتوسلتين جَعلتاني أتجهُ نحو الباب, قال وهو يخرجُ من الكوخِ ” سأعودُ بعد قليلٍ ” صرختُ بتوترٍ ” أين تذهبُ وَتتركُني” غادرَ دونَ أن يُعيرَ أيّ انتباهٍ لصَوتي. وقفتُ مذهولةً وازدادَ غَضبي حين سمعتُ صوتَ دراجتهِ يَبتعد ” بأيّ حَقٍّ يفعلُ هذا ولماذا, أيّ غباءٍ وَحبٍّ يدّعيهما ؟, إنهُ مجنونُ حربٍ وأنا أطاوعُهُ كالعمياءِ ” رَفَسْتُ بابَ الغرفةِ فُتِحَ البابُ وكأنهُ يُصْدِرُ أنينَ وَجَعٍ , وَجَدْتُ سَريراً رَائعاً منَ الصنوبرِ ما زالت الرائحةُ تَفُوحُ منهُ , وعلى فراشِ السّريرِ فستاناً أحْمَرَ من أجملِ ما يكونُ وبجانبهِ “بيجامة ” حمراءُ وكيسٌ فيه ملابسُ داخليةٌ تُناسبُني تماماً, وحين أخذني فضُولي لفَحْصِ مَقاساتها وجدتُها وكأنهُ قد أخذَ قياساتِ جَسدي كمصمّمِ أزياء .

فوقَ وَاجهةِ السريرِ في الخَلْف عودُ وَرْدٍ فيه أوراقٌ تبدو وكأنّ اجزاءاً منها قد تَمّ بَتْرُهَا عَمْدَاً, جلستُ وكأنّي في حُلُمٍ من حِكاياتِ ألفِ ليلةٍ وليلة1 , لا أعرفُ مَاذا أفعَلُ .

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب