5 مارس، 2024 5:47 ص
Search
Close this search box.

لماذا تأخر تحرير الموصل؟.. تعقيدات مرحلة ما بعد داعش

Facebook
Twitter
LinkedIn

إعداد/ صافيناز محمد أحمد
منذ انطلاق معركة تحرير الموصل العراقية من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في أكتوبر 2016 وحتى الآن لم تحسم الحكومة العراقية المدعومة بالتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب هذه المعركة لصالحها، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل بشأن التحديات التي واجهت حكومة حيدر العبادي على مدار الثمانية أشهر الماضية، وأدت إلى تأخر حسم تلك المعركة. وهي تحديات يتعلق بعضها بصعوبات المواجهة الميدانية والمقاومة الشرسة التي يبديها التنظيم، لاسيما في غرب الموصل بالرغم من تراجعه في العديد من مناطق تمركزه الاستراتيجية بالمدينة تحت وطأة الهجمات الجوية للتحالف والتحركات البرية لكل من قوات الجيش النظامي العراقي وقوات الحشد الشعبي الشيعية وقوات البيشمركة الكردية. ويتعلق البعض الثاني بطبيعة التوازنات الدولية والإقليمية للدول المعنية بالصراع في العراق والمنخرطة بصورة أو بأخرى في المشهدين السياسي والميداني في معركة الموصل. ويتعلق بعضها الثالث بتعقيدات مرحلة ما بعد القضاء على داعش والمرتبطة بالصراع السياسي الداخلي وملفات المصالحة الوطنية بين القوى السياسية العراقية وتلك المرتبطة بالصراع على النفوذ والهيمنة حول مستقبل العراق بين القوى الدولية والإقليمية.

كل تلك التحديات مجتمعة رسمت المشهد الذي تجري فيه معركة تحرير الموصل التي بمقتضاها ستتشكل خريطة العراق الجديدة وربما خريطة منطقة المشرق العربي بأكملها.

أولًا: صعوبات المواجهة الميدانية

يعد حجم سكان مدينة الموصل البالغ عددهم نحو مليوني نسمة أحد العوامل المهمة التي لعبت دورًا في تأخير حسم معركة تحرير المدينة؛ حيث يتعرضون لمحاصرة مقاتلي التنظيم ويتم استخدامهم كدروع بشرية، ومن ثم فإن عملية إعداد خطط لحماية المدنيين وفصلهم عن مناطق انتشار مسلحي التنظيم يعد أمرًا غاية في الصعوبة حال التطبيق على أرض الواقع، ناهيك عن صعوبات توفير ممرات للعبور الآمن تمكن سكان المدينة من مغادرتها. هذا العامل كان أكثر حضورًا في معارك الأجزاء الغربية من الموصل التي تشهد حاليًا حالة من المواجهات الشرسة بين القوات العراقية وبين داعش. أضف إلى ذلك تعقيدات الدفاعات التي أقامها التنظيم في المدينة منذ سيطرته عليها في يونيو 2014، ولجوئه إلى تكتيكات حرب المدن وتفخيخ المباني والطرق والجسور وزرع العبوات الناسفة وإعاقة تقدم القوات البرية عن طريق الأكمنة المفخخة، وهي تكتيكات يلجأ إليها مقاتلو التنظيم كلما أزدادت حدة الضربات الجوية للتحالف واتسع نطاق المواجهات البرية. [1]

وجدير بالذكر أن القوات العراقية استطاعت السيطرة على مجمل الأحياء الشرقية للمدينة بعد حوالي أربعة أشهر من اندلاع معركة التحرير في أكتوبر من العام الماضي، حيث اتسمت المعارك في تلك الأحياء بقدر من اليسر والسهولة نتيجة الانسحابات الكبيرة الممنهجة التي قام بها مقاتلو التنظيم في العديد من مناطق شرق المدينة. لكن الوضع مختلف بالنسبة لمعارك المناطق الغربية؛ فبالرغم من التقدم الذي تحرزه القوات العراقية مدعومة بالحشد الشيعي والبشمركة الكردية، إلا أن التنظيم لايزال يمارس حرب استنزاف لتلك القوات، فضلًا عن جملة من المعوقات الميدانية التي تؤخر تقدم قوات الحكومة العراقية في هذه المناطق. وتعتبر معارك استرداد غرب الموصل المحتدمة حاليًا والتي بدأت في فبراير 2017 من أكبر التحديات التي تواجه التحالف والحكومة العراقية نظرًا لأهمية القسم الغربي للمدينة؛ حيث تتواجد به كافة مؤسسات محافظة نينوى، هذا بالإضافة لكونه يضم عددًا من آبار النفط، فضلًا عن الموقع المتميز على طرق برية مهمة تربط العراق بكل من سوريا غربًا وتركيا شمالًا، كما يوجد به مقرات قيادة تنظيم الدولة ومقاتليه وأسرهم ومخازن أسلحته ومعداته العسكرية.[2]

وترجع صعوبة معارك غرب الموصل ميدانيًا بالنسبة للقوات العراقية إلى عاملين أساسيين: الأول، يتمثل في الكثافة السكانية العالية التي تتمركز في الأحياء الغربية للمدينة، ما قد يقوض ويعرقل من تقدم القوات العراقية ومن مسارات المعارك المعتمدة على القصف المدفعي والجوي سواء من قبل القوات العراقية أو من قبل التحالف الدولي، خشية أن يحدث ذلك خسائر كبيرة في أرواح المدنيين أو مزيدًا من الخسائر في البنية التحتية، ناهيك عن عمليات النزوح السكاني بأعداد ضخمة تفوق قدرة الحكومة العراقية على استيعابها في الوقت الراهن داخل المناطق الأخرى التي تم تحريرها في المدينة نفسها. أما العامل الثاني، فيتعلق بطبيعة شوارع تلك الأحياء ذات المباني القديمة والتي تتسم بالضيق، الأمر الذي يعوق تقدم الآليات والمدرعات العسكرية الضخمة التي تدفع بها القوات العراقية، ما يعني نقل المواجهة مع مقاتلي التنظيم إلى مرحلة حرب المدن التي يجيدونها ويستنزفون عبرها القوة القتالية للقوات العراقية.

العاملان السابق ذكرهما يكبحان بلا شك من عملية تقدم القوات العراقية ومن عمل التحالف الدولي، لكنهما في الوقت ذاته لا يوقفان عملية التحرير برمتها؛ وهو ما يستغله تنظيم داعش جيدًا في إبطاء سير المعارك في القسم الغربي للموصل كوسيلة لإعادة تنظيم صفوفه ومراجعة خططه وتأمين مواقع جديدة لقياداته ومقاتليه في منطقة الحدود العراقية- السورية حيث محافظة دير الزور ومنها إلى محافظة الرقة.[3]

ثانيًا: التوازنات الدولية والإقليمية وصراعها في الموصل

تعد الموصل مصدر قلق إقليمي ودولي منذ سيطرة تنظيم الدولة عليها في يونيو 2014، وذلك لعدة أسباب بعضها يتعلق بموقعها الجغرافي الواقع على طرق تربط العراق بكل من سوريا غربًا وتركيا شمالًا وما يعنيه ذلك من أهمية جيواستراتيجية. والبعض الثاني يتعلق بطبيعة التركيبة السكانية المتنوعة لمدينة الموصل، حيث الأغلبية من العرب السنة بالإضافة إلى الكرد، والتركمان الشيعة، والتركمان السنة، ويتعلق البعض الثالث بارتباطات الزعامات السياسية المحلية للمدينة بالخارج الإقليمي والدولي، مما أدى إلى دخولها في سياق صراع النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية، الأمر الذي زاد من وطأة الحسابات السياسية والعسكرية لعملية تحرير المدينة التي تواجه الحكومة العراقية.

في هذا السياق، يأتي دور إيران في العراق وتحديدًا الحرب على تنظيم الدولة عبر دعم الحكومة العراقية الشيعية ودعم ميليشيات الحشد الشعبي بالسلاح والتدريب والتي تعتبر أكبر قوة مسلحة بعد القوات العراقية في مواجهة التنظيم. والسؤال هنا لماذا الموصل بالتحديد بالنسبة لإيران، خاصة أن غالبية سكان المدينة من السنة؟ واقع الأمر، إن الموصل تشكل بالنسبة لإيران أهمية جيوسياسية؛ حيث موقعها الجغرافي المتاخم للحدود السورية، وما يعنيه ذلك من أهمية بالنسبة لبحثها عن موطئ قدم في منطقة الحدود العراقية السورية بما يضمن ممرًا جغرافيًّا لمشروعها الإقليمي الممتد من الحدود العراقية الإيرانية، ثم إلى الداخل العراقي، وصولًا إلى الحدود العراقية السورية، والعبور داخل الأراضي السورية عبر مدن الساحل، وصولًا إلى لبنان حيث حزب الله الشريك اللبناني الرئيسي لإيران.

ومن ثم، فإن الموصل القريبة من الحدود مع سوريا – التي تشهد صراعًا بين نظام الأسد والمعارضة المسلحة وتتواجد بها ميليشيات شيعية تتبع إيران وتساند النظام السوري – تعد حلقة مهمة في مسار الهلال الشيعي الإيراني. وبالتالي، فإن ضمان إيران لنفوذها في محافظة نينوى وتحديدًا الموصل – عبر تواجد قوات الحشد الشعبي الشيعية العراقية التي خضعت لتدريب وتمويل وتسليح إيراني ويتبع حوالي 41 فصيلًا منها ولاية الفقيه في قم وليس النجف- كفيل بعرقلة أية تحالفات إقليمية أو دولية تكون الموصل مسرحًا لها. هذا فضلًا عن رغبة طهران في وأد مشاريع الأقلمة العراقية إذا تم طرحها مستقبلًا، لاسيما فيما يتعلق بمنح السنة حق الإدارة الذاتية لمحافظاتهم ومدنهم، وعرقلة سيناريوهات جعل مدينة الموصل بمحافظة نينوى النموذج السني الأول لمشروعات الأقلمة في مرحلة ما بعد داعش؛ لأن ذلك سيقطع تواصل مشروعها الإقليمي من الناحية الجيوسياسية الذي يمر بمحافظات الغرب العراقية ذات الغالبية السنية.[4]

وقد أثمرت ضغوط طهران على الحكومة العراقية عن جعل المواجهات البرية مع تنظيم داعش مقصورة على القوات العراقية النظامية وقوات الحشد الشعبي الشيعية، بجانب دور محدود النطاق جغرافيًّا لقوات البيشمركة الكردية التابعة لإقليم كردستان العراق، والذي تشهد علاقته بإيران توترًا ملحوظًا على وقع علاقته المتميزة مع تركيا، واستبعاد شبه كامل لقوات الحشد الوطني أو ما يسمى بحرس نينوى التي تتولى تركيا تدريبها في معسكرات بعشيقة شمالي شرق الموصل. هذا فضلًا عن مساعيها الدؤوبة منذ انطلاق المعركة وحتى الآن لإقناع الحكومة العراقية بدمج ميليشيات حزب العمال الكردستاني التركي المعارض المتواجدة في جبال قنديل العراقية ضمن قوات الحشد الشعبي الشيعية.

على الجانب الآخر، يأتي الدور التركي؛ فالموصل تقع على طرق برية إقليمية تصل العراق بتركيا وتتاخم في جزء منها الحدود التركية من جهة الشمال، ما يعني أن ارتدادات ما يحدث في الموصل ميدانيًا يطال بصورة مباشرة منطقة الحدود العراقية- التركية، فضلا عما تمثله الموصل نفسها من أهمية تاريخية لتركيا إبان حكم الدولة العثمانية. هذا بالإضافة إلى تمركزات حزب العمال الكردستاني التركي المعارض في منطقة الحدود العراقية- التركية وتحديدًا في جبال قنديل، وهي النقطة الأكثر أهمية بالنسبة لأنقرة حيث توجه أنقرة من وقت لآخر ضربات جوية ومدفعية لتمركزات الحزب هناك كلما وجه ضربات أمنية داخل العمق التركي. وتظل علاقة التعاون بين أنقرة وبغداد في هذا الشأن رهنا لتأرجح علاقة الأخيرة الارتباطية بطهران، كما كان من نتائج توغل تنظيم الدولة في العراق وتشكيل التحالف الدولي لمحاربته أن أقامت تركيا مركزًا لتدريب أبناء الموصل في بلدة بعشيقة شمال شرق المدينة من السنة والتركمان فيما عرف بالحشد الوطني – مقابل الحشد الشعبي الشيعي – بالإضافة إلى تدريب قوات البيشمركة الكردية التي تتبع إقليم كردستان العراق والذي يتمتع بدوره بعلاقات تعاون متميزة مع أنقرة. وقد أدى زيادة تركيا لعدد قواتها في بعشيقة، وزيادة مستوى التسليح والعتاد العسكري فيها منذ ديسمبر 2016 إلى توتر علاقتها بالحكومة العراقية – تحت ضغوط طهران على بغداد- باعتبار أن هذا التواجد ينتقص من سيادة العراق، في الوقت الذي تقول فيه أنقرة إن تواجدها تم بناء على تنسيق مع وزارة الدفاع العراقية منذ عام 2014.[5]

لقد شكلت هذه الأجواء الإطار السياسي والميداني لنقلة تركية نوعية تمثلت في المطالبة بالمشاركة في معركة الموصل لأسباب عدة منها: قطع الطريق على منح قوات حزب العمال الكردستاني التركي المعارض مشروعية دولية تخرجه من تصنيفات قوائم الإرهاب الدولية عبر مشاركته في معركة الموصل، لاسيما بعد معاركه ضد تنظيم الدولة في منطقة جبال سنجار على الحدود العراقية- السورية، وهي المشاركة التي حاول عبرها تسويق نفسه كبديل قوي قادر على التحرك البري الصعب لمواجهة داعش في منطقة المثلث الحدودي غرب الموصل الذي تتشارك فيه تركيا الحدود مع العراق وسوريا. أيضًا ترغب تركيا في حجز مكان لها في تسويات مرحلة ما بعد القضاء على داعش في العراق؛ فالتواجد العسكري على الأرض يوفر لها ورقعة ضغط إقليمية على إيران التي تعتبر التواجد التركي في كل من العراق وسوريا معرقلًا لمشروعها الإقليمي، كما يوفر لها ورقة ضغط دولية وتحديدًا في علاقتها مع الولايات المتحدة التي تتأرجح بين التعاون والتوتر على وقع علاقة الأخيرة بالمتغير الكردي في المنطقة. أضف إلى ذلك رغبتها في الدفع بالقوات التي دربتها من أبناء الموصل في بعشيقة لتتولي مهمة ضبط الأمن في أحياء المدينة التي يتم تطهيرها من داعش، وتستهدف أنقرة بذلك وضع تلك القوات ضمن البدائل المتاحة أمام القوى الدولية وتحديدًا الولايات المتحدة للاعتماد عليها بدلًا من اعتمادها كلية على البيشمركة والشيعة، وتستهدف كذلك استخدامها كورقة كبح لحالة الانتقام الطائفي التي تمارسها قوات الحشد الشعبي الشيعي ضد المكون السني هناك، ومواجهة محاولات التغيير الديمغرافي فيها.[6]

وقد امتثلت أنقرة لمطالب عدم المشاركة المباشرة في معركة الموصل والاكتفاء بدورها في بعشيقة بالفعل، لكنها وفي مطلع مايو 2017، شنت قصفًا جويًا على المثلث الحدودي التركي- العراقي- السوري بعد رصد تحركات عسكرية لحزب العمال الكردستاني التركي وحليفه السوري من وحدات حماية الشعوب التابع لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في المنطقة المذكورة. وأعلنت أنقرة أن العملية استهدفت ضبط حدود تركيا مع كل من العراق وسوريا، لكن الواقع يشير إلى قراءة تركية لتطورات معارك الموصل العراقية ودخول معركة الرقة السورية مرحلة الحسم. وتفسير ذلك أن أنقرة التي تعارض وجهة النظر الأمريكية في مواجهة تنظيم داعش في سوريا المعتمدة على الأكراد لديها رغبة في بدء عملية عسكرية جديدة من نوعها تتزامن مع اقتراب الحسم في الرقة السورية والموصل العراقية، مستهدفة بذلك حماية مصالحها في تلك المنطقة وجعلها حاضرة في ترتيبات مرحلة ما بعد القضاء على داعش خاصة بعد تثمين واشنطن دور حزب العمال الكردستاني المعارض في مواجهة داعش في منطقة الحدود العراقية التركية السورية جهة جبال سنجار تحديدًا، وهو ما يفسر الحشود التركية العسكرية قرب حدودها مع العراق وعمليتها العسكرية في منطقة الحدود المذكورة والتي أطلقت عليها عملية “غضب دجلة”. وما يزيد من صدق هذا التحليل أن نجاح حزب العمال الكردستاني التركي المعارض ووحدات حماية الشعب الكردية السورية في طرد مقاتلي داعش من سنجار، أتاح للحزب التركي نقل قواعده العسكرية من جبال قنديل قرب الحدود التركية العراقية – التي تتعرض للقصف التركي دائمًا – إلى جبال سنجار قرب الحدود التركية السورية، وكلا المنطقتين يشكلان ما يسمي بالمثلث الحدودي التركي العراقي السوري، ما يعني أن مجمل الحدود التركية مع العراق وسوريا باتت معرضة لتهديدات أمنية مصدرها حزب العمال الكردستاني التركي المعارض الذي أصبح بانتقاله من جبال قنديل إلى سنجار قادرًا على توجيه ضربات داخل العمق التركي انطلاقًا من الأراضي السورية.[7]

وأخيرًا، وفيما يتعلق بالولايات المتحدة العائدة مرة أخرى إلى العراق من باب محاربة إرهاب تنظيم الدولة فقد رسمت خطوطًا عامة لدورها في معركة الموصل تقوم على ضمان أقل انخراط عسكري ممكن بقوات أمريكية على الأرض مقابل الاستعانة بقوات عراقية داخلية. ورغم معارضتها في بداية الأمر مشاركة ميليشيات الحشد الشعبي الشيعي في معركة الموصل ذات الأغلبية السنية لسياساتها الطائفية في مناطق سبق تحريرها من داعش كالرمادي والفلوجة، إلا أنها وافقت في النهاية -ولو ضمنيا- على مشاركتها مبررة ذلك باحتياج المعركة الشديد لكافة القوى البرية الممكنة سواء نظامية كالقوات العراقية أو غير نظامية كميليشيات الحشد الشعبي الشيعية والبيشمركة الكردية والأشنكال الإزيدية، بينما لم تبد موافقة ولا تحمسًا لمشاركة تركيا بأي قوات في المعركة حتى ولو قوات حرس نينوى العراقية التي تشكلت من أبناء مدينة الموصل وتلقت تدريبًا تركيًا.

وبشكل عام، فإن واشنطن ترغب في ضبط تفاعلات الأطراف الإقليمية في تحرير الموصل وفقًا لحساباتها الجديدة في العراق والتي تقوم على تقليص الدور الإيراني الواسع في العراق، بما يعني إعادة ترتيب مستقبله في مرحلة ما بعد الموصل، وهو أمر يعيد خلط أوراق الداخل العراقي والقوى السياسية الشيعية المتصدرة المشهد السياسي والتي ترتبط بإيران ارتباطًا كبيرًا، بل ويعيد خلط أوراق الخارج الإقليمي أيضًا لأنها ستعطي فرصة لبعض القوى الإقليمية الرافضة للمشروع الإيراني للعودة إلى الساحة العراقية بعد طرد داعش إما من باب موازنة إيران (تركيا) أو من باب إعادة العراق لعمقه العربي (السعودية).[8]

ثالثًا: تعقيدات مرحلة ما بعد القضاء على داعش

مع أهمية التعقيدات الميدانية، إلا أن الحسابات الداخلية والإقليمية لمرحلة ما بعد تحرير الموصل وطرد داعش باتت هي الأخرى من أهم العوائق التي تؤدي إلى تأخير حسم معركة الموصل. ويمكن تلخيص أهم هذه الحسابات فيما يلي:

1- مخاوف المكونات السنية في مختلف المناطق التي تم تحريرها من قبضة داعش عامة والموصل، خاصة التخوف من مستقبل العلاقة بينها وبين الحكومة الشيعية في بغداد، وبينها وبين قوات “الحشد الشعبي” (الشيعي)، خاصة إذا تولى الأخير مهمة حفظ الأمن الداخلي في الموصل بعد داعش، وهو ما تحسبت له تركيا وعملت على تدريب قوات شكلتها من أبناء المدينة من السنة والتركمان في معسكر بعشيقة بالمدينة نفسها تحت مسمى “حرس نينوى” وسعت إلى تسويقها لدى واشنطن والقوى الدولية كقوة لديها القدرة على تولي مهمة حفظ الأمن الداخلي في الموصل بعد داعش. هذا فضلا عن المخاوف من استمرار سياسات الإقصاء والتهميش التي ظلت تعاني منها المحافظات السنية طوال السنوات الماضية على المستويين السياسي والاجتماعي.[9]

2- إشكالية غياب التوافق بين المكونات الطائفية لمدينة الموصل ولمحافظة نينوى كلها (العرب السنة، التركمان السنة، الأكراد، التركمان الشيعة، الأيزيديين)، وما يرتبط بذلك من محاولات إعادة بناء الثقة في مرحلة ما بعد داعش بين تلك المكونات، ومحاولات إعادة الثقة بين المكون السني وبين الحكومة العراقية الشيعية مرة أخرى، وهو ما يتطلب وضع سياسات تكفل إعادة دمج ذلك المكون مرة أخرى في الحياة السياسية والاجتماعية العراقية. هذه الخطوة تحديدا تتطلب حل كل الميليشيات الشيعية التي مارست سياسات الانتقام الطائفي من المكون السني، وهو تحدٍ قاسٍ للحكومة العراقية في المرحلة القادمة.[10]

3- إشكالية إدارة مدينة الموصل بعد طرد داعش؛ فمحافظة نينوى كغيرها من المحافظات ذات الغالبية السنية طالبت بمنحها حق الإدارة الذاتية لمناطقها وفقا للدستور العراقي، وذلك عبر تشكيل مجلس حكم يتمتع بصلاحيات إدارة الأوضاع الداخلية للمحافظة، إلا أن هذه المطالب لم تلق اهتمامًا من الحكومة الشيعية. ومؤخرًا عاد الزخم إلى مطالب تشكيل إقليم سني تكون الموصل مركزه ويضم عدة محافظات ذات غالبية سكانية سنية على أن يبدأ تشكيله بعد طرد داعش من الموصل. هذا الطرح تؤيده حكومة إقليم كردستان العراق وتركيا، وترفضه إيران.[11]

4- إشكالية تحقيق المصالحة الوطنية بشقيها السياسي والاجتماعي؛ فهذا الملف تحديدًا يعد من أصعب ملفات مرحلة ما بعد داعش لأن الأزمة السياسية في العراق كانت سببًا لظهور داعش وليس نتيجة له. في هذا السياق، تتطلب تسويات المرحلة القادمة إعادة تفعيل دور لجنة المصالحة الوطنية التابعة للحكومة العراقية لتتولي مهمة معالجة الخلافات والأزمات السياسية والمجتمعية التي شهدتها الساحة العراقية، ودراسة كافة مبادرات المصالحة التي تقدمت بها القوي السياسية والمجتمعية.[12]

5- عودة الوجود الأمريكي للعراق على أرضية محاربة الإرهاب، وما يمثله ذلك من زيادة تعقيدات المشهد السياسي العراقي، خاصة في علاقة الحكومة العراقية بإيران. هذه العودة بكل إشكاليات إشرافها على تحرير الموصل وطرد داعش ستكون لها تأثيراتها على مجمل أوضاع العراق المستقبلية، وهو ما تترجمه الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس لبغداد في فبراير 2017، والتي تشير إلى سعي واشنطن في ظل الإدارة الجديدة إلى ترتيب أوضاع القوات الأمريكية المتواجدة في العراق من باب توفير الدعم للحكومة العراقية في مواجهة تداعيات مرحلة ما بعد داعش.[13]

6- الصراعات الإقليمية المحتمل حدوثها حال عدم تحقيق الأطراف الإقليمية المشاركة في تحرير الموصل لمصالحها أو مصالح الجماعات العراقية المرتبطة بها بالداخل؛ وتحديدًا تركيا وإيران؛ فتركيا تنظر إلى “الحشد الشعبي” المرتبط بإيران على أنه أداة تنكيل طائفي لابد من تفكيكه بعد الانتهاء من مواجهة داعش. كما تنظر إلى دعم حكومة بغداد لتواجد مقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي المعارض في سنجار بالقرب من الحدود التركية العراقية- السورية تهديدًا لأمنها القومي، بينما تنظر الحكومة العراقية المدعومة من إيران إلى الوجود التركي في بعشيقة شمال شرق الموصل على أنه احتلال للأراضي العراقية. هذا ناهيك عن خلافات إقليم كردستان العراق مع الحكومة المركزية في بغداد لاسيما وأن معركة الموصل سيكون لها تأثيراتها على تلك الخلافات من باب إشكالية المناطق المتنازع عليها بين الطرفين؛ حيث ترغب حكومة كردستان في ضم بعض أجزاء محافظة نينوى إلى الإقليم ولذلك تشارك بقوات البيشمركة الكردية التي رفضت الانسحاب من المناطق التي طهرتها من تنظيم داعش لصالح القوات العراقية النظامية، وهو ما يشير إلى احتمال الصدام بين البيشمركة الكردية وبين قوات الحشد الشعبي الشيعية في مرحلة ما بعد داعش. [14]

مما سبق يمكن القول إن معركة تحرير مدينة الموصل من قبضة داعش ليست بالمعركة السهلة؛ حيث يبدي التنظيم مقاومة شرسة يلجأ فيها إلى حرب المدن التي يجيد عبرها استنزاف القدرات القتالية للقوات العراقية والقوات الموالية لها. هذا الوضع يعد أكثر بروزًا في معارك غرب المدينة. كما أن ثمة متغيرات داخلية وخارجية تتعلق بمسار عملية تحرير المدينة من قبضة التنظيم تسهم في تأخير عملية التحرير، لما لهذه المتغيرات من انعكاسات على مرحلة تنظيم الأوضاع في مرحلة ما بعد القضاء على داعش خاصة المتعلقة منها بصراعات القوى الدولية والإقليمية وتنافساتها في العراق. لكن هذا لا يعني أن التنظيم الذي يعيش ظروفًا صعبة، وربما يكون في مراحل عمره الأخيرة، قادر على إعادة التموضع مرة أخرى في الموصل في ظل هذا الزخم الدولي والإقليمي الذي بات رافضًا لوجوده داخل العراق. بل إن مسار المعارك رغم تباطؤه يشير إلى اتجاه القوات العراقية لحسم المعركة لصالحها، لكن سيظل توقيت هذا الحسم مرهونَا بحسابات المعطيات السابق ذكرها وبمعضلات وتعقيدات المشهد السياسي العراقي مستقبلًا.

ـــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

[1] د أسامة مهدي، “تحرير الموصل يتعطل لأيام بسبب الانتحاريين والمدنيين”، موقع إيلاف، 28 /5/2017. متاح على الرابط التالي:

http://elaph.com/Web/News/2017/5/1150504.html#sthash.vRcy8Neu.dpuf(accessed on 6 June 2017).

انظر أيضًا : منذر الطائي، ستة تحديات تواجه عملية تحرير الموصل، موقع نون بوست، 4/1/2016. متاح على الرابط التالي:

http://www.noonpost.org (accessed on 5 June 2017).

[2] “معركة غرب الموصل: الرهانات والآفاق”، الجزيرة نت، 6/3/2017.

[3] “لماذا تأخر تحرير مدينة الموصل العراقية من قبضة تنظيم الدولة؟”، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية نقلا عن فوربس، 17/9/2016. انظر أيضًا: رائد جبر، “لماذا تأخر الحسم في الموصل”، الجزيرة نت، 17/11/2016.

[4] “معركة الموصل البدايات والنتائج”، مركز الروابط للبحوث والدراسات السياسية، 3/4/2017. متاح على الرابط التالي:

http://rawabetcenter.com/archives/39957 (accessed on 10 June 2017).

انظر أيضًا : أحمد الساجر، “معركة الموصل: الأبعاد الإقليمية وصراع النفوذ”، موقع نون بوست، 19/7/2016. متاح على الرابط التالي:

http://www.noonpost.org/content/12892 (accessed on 10 June 2017).

[5] المرجع السابق.

[6]عبد الجبار الجبوري، “أردوغان وعملية غضب دجلة في العراق”، الموقع التالي على الإنترنت:

https://kitabat.com (accessed on 9 June 2017).

[7] المرجع السابق.

[8] “العراق ما بعد داعش: احتلال أمريكي جديد؟”، موقع المرصاد نت، 22/2/2017.

انظر أيضًا: “أمريكا والعراق ما بعد داعش”، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 8/2/2017.

[9]د. مثنى العبيدي، “إشكاليات عدة: تعقيدات مرحلة ما بعد تحرير المدن العراقية من داعش”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 21/3/2017.

[10] د.أحمد غالب الشلاه، “العراق ما بعد داعش: قراءة في السيناريوهات المحتملة”، شبكة النبأ المعلوماتية، 28/2/2017. متاح على الرابط التالي:

http://annabaa.org/arabic/authorsarticles/10053 (accessed on 10 June 2017).

[11] “معركة غرب الموصل: الرهانات والآفاق”، مرجع سبق ذكره.

[12]د. مثنى العبيدي، “إشكاليات عدة: تعقيدات مرحلة ما بعد تحرير المدن العراقية من داعش”، مرجع سبق ذكره.

[13] “العراق ما بعد داعش: احتلال أمريكي جديد؟”، مرجع سبق ذكره. انظر أيضًا: “أمريكا والعراق ما بعد داعش”، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، مرجع سبق ذكره.

[14]د. أحمد غالب الشلاه، “العراق ما بعد داعش: قراءة في السيناريوهات المحتملة”، مرجع سبق ذكره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر/ مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب